بسم الله الرحمن الرحيم.
قد تعالت الأصوات في الآونة الأخيرة متغنية بالبحث عن نظام تسوده العدالة و الحرية ، و تحترم فيه القيم الإنسانية . حيث لا ظلم و لا جور ولا عدوان ... و قد وجدوا ضالتهم في هذا ، لابد من ارساء الديمقراطية في أي مجتمعٍ ، و في أي بلدٍ ... و راح كل واحد يتغنى بليلاه ... حتى أن دولا ذهبت لحد استعمال القوة ضد شعوب أخرى تحت غطاء دمقرطتها . و " تحريرها "
بينما الديمقراطية المتعارف عليها ، هي : بناء ذهني و ثقافي يكرس مع الوقت اسلوب التحضر، الذي يلزم ذاتيًا المتشبع به على احترام الآخر، مهما بلغت حدة الخلافات و عمقها ، و تباينت الأراء بينه و بين هذا الآخر. و هذا من منطلق أن كل ما هو مرتبط بالمجتمع و بالسلوكات و الانماط و الأنظمة الاجتماعية و السياسية نسبي ، بمعنى عدم وجود طرف يملك وحده الحقيقة المطلقة فيفرضها على الآخرين ، لأنهم ، و ببساطة ، يملكون مثل ما يملك جزءُا آخر من الحقيقة التي امتلك هو جزءها الذي لم يمتلكوه ...
و من هذه الخلفية نصل الى ان الادارة الامريكية لا تريد بناء ديمقراطية في الوطن العربي ... و الاّ ماذا يفسر توزيع قوات الاحتلال الامريكية على المسؤولين العراقيين مطبوعًا من نسختين ، يقرّ موقّعه في النسخة الاولى بقطع علاقته بحزب البعث الاشتراكي و ندمه علة انخراطه السابق فيه ، مع التأكيد على ان اية عودة للعضوية في الحزب هي نقض لأوامر الاحتلال . و في النسخة الثانية من المطبوع يقرّ الموقّع بأنه لم يسبق له ان ناضل في صفوف حزب البعث مع التعهد بالتعاون الكامل مع قوات الاحتلال .
ما لا يفهم من هذا السلوك الصادر عن ادارة دولة تمتلك من امكانيات القوة المادية ما يفوق حدود التصور، هل هو حقيقة ان مستوى رؤية صنّاع القرار في الادارة الامريكية ضحل الى هذا المستوى الذي يجعلهم يحاربون الفكر و الانتماء الحزبيين بقصاصة من الورق ؟ أو بمعنى آخر ، هل يرى اصحاب البيت الابيض ان بناء الديمقراطية ، التي اعلنوا انها مشروعهم لتغيير انظمة الحكم القائمة في المنطقة و " دمقرطتها " ، انطلاقًا من النموذج الذي ينتظر بناؤه في العراق ؟
اذا كان هذا هو اعتقادهم ، بات من الاجدر تنبيههم بأن الديمقراطية لم و لن تكون يومًا هدمـُا ، أو الغاءًا للآخر... و أن بناء الديمقراطية في الوطن العربي بما في ذلك العراق ، هو ترك الشعوب العربية ارساء نمط الحكم حسب تراثها الفكري و الديني ... لأنهم أكثر شعوب الارض نضجًا و تحضرًا و رفعة ثقافية ، يبنون نموذجهم السياسي و نمط مجتمعهم وفق رؤيتهم الخاصة و انطلاقًا من خلفيتهم التراثية .
و قد رأينا ان الادارة الامريكية ـ كمثال لديمقراطيتها في المنطقة ـ تريد للعراق نظامًا خانعًا و خادمًا لها و حاميًا لمصالحها ، و لا مانع لديها ان يكون فاشيُا و ليس ديكتاتوريُا فقط ... أما ما يجب ان تعرفه الادارة الامريكية و العرب حكامًا و محكومين ، أن الديمقراطية في الوطن العربي هي نقيض المصالح الامريكية و بالتالي ان امريكا هي العدو الاول للديمقراطية ، مثلما هي الديمقراطية عدوة لأمريكا ، و ذلك لأن الديمقراطية الحقة تعني حكم العرب لأنفسهم ، و اذا ما حكموا انفسهم فلن يتنازلوا عن مصالحهم التي تتناقض مع الاحتلال و الهيمنة التي هي عقيدة امريكا الابدية .
أ من المعقول أن ا لادارة الامريكية تغض الطرف على أناسٍ و حركات ـ حتى في داخل امريكا ـ تعمل على هدم انبل ما منحه الخالق للإنسان ، و هي القيم الانسانية و المثل العليا ، مثل : ( زواج مماثلي الجنس ، و الدعارة ، و عبدة الشيطان ، و اللواط و السحاق.... و هلم جرّا ) بحجة الديمقراطية ، و حرية التعبير و المعتقد ، و الحرية الفردية... و تشد الخناق على ما كل اسلامي على انه ارهاب ، و تجعل كل من يدافع عن ارضه على انه ارهابي و صاحب عنفٍ يجب محاربته...
إذًا مثلها و حقائق الديمقراطية في ذلك مثل ( بركرستيس ) و ضيوفه ، فيما يحكيه قدماء اليونان في أسطورة ( تسيوس ) . كان عند بركرستيس فراش واحد محدود الطول ، وكان يطبق طوله تمام التطبيق على كل ضيفٍ يأتيه . و كانت طريقته على ذلك بسيطة ، كان اذا وجد الضيف قصيرًا شده حتى يصير طوله كطول الفراش ، و ان مزق الشد اوصاله ، و اذا وجد الضيف طويلاً بتر منه ما يزيد عن طول الفراش . فكان الضيوف الذين يوقعهم نحس طالعهم بين يديه يأتيهم الموت بين الشد و البتر . و لم ينجو منه إلاّ واحد صادف ان كان طوله كطول السرير فلم يحتج ( بركرستيس ) الى شده و لا الى بتره فاستبقاه خادمًا .كذلك اصحاب القرار في البيت الابيض ، عندهم فرض واحد لابد من المطابقة بينه و حقائق الديمقراطية ، فعرضها عليهم يشدون منها القصير و يبترون منها الطويل ليجعلوها كلها منطبقة تمامًا على فرضهم ، فكان نصيب " الديمقراطية " من المسخ على يديهم ماكان نصيب ضيوف ( بركرستيس ) ، لم ينج منها إلاّ ما وافق فرض هؤلاء كما لم ينج من أولئك إلاّ ما طابق سرير ذاك .
و لكن ما مات منها لم يمت و لن يموت إلاّ في دهن من أخذ بمبدإ اصحاب البيت الابيض... فإذا ما تركنا المجاز و اتخدنا الواقع ، كانت خطة أصحاب الادارة الامريكية أزاء فرضهم و حقائق الديمقراطية عكس خطة السياسيين ازاء فروضهم و الديمقراطية . فهم يقيسون فروضهم على الديمقراطية ، و اصحاب البيت الابيض يقيسون الديمقراطية على فرضهم . يقرأون الديمقراطية في غسق فرضهم بدلاً من أن يقرأوا فرضهم في نور الديمقراطية .