طُز
تساءلت في بداية مقالتي المعنونة " أين نحن " تساؤلا استنكاريا، " أما زال علينا أن نسأل، إن كانت الرسوم التي نشرت في الصحيفة الدنمركية تندرج ضمن مخطط معد ومدروس للنيل من كرامة القدسية التي نحملها لديننا الإسلامي الحنيف أم لا"؟!!!.
واختتمت المقالة " هم اجتمعوا على نصرة الصحيفة والدنمرك اللتان أبيتا الاعتذار عن خطأ واضح، فهل نستطيع نحن أن نجتمع على نصرة الله ورسوله؟
سؤال متروك للأيام القادمة، علها تجيب عليه إجابة تدفعنا للافتخار بعروبتنا، أما إسلامنا فإننا نفخر به وبالانتماء إليه، في وقت الضعف وفي وقت القوة."
وقتها تركت الإجابة مفتوحة ليس انتظارا للأيام القادمة، وإنما اتبعت المثل القائل بان ترك الجواب هو الجواب، لأنني مؤمن تمام الإيمان بان الرسالة المحمدية بكل ما أتى فيها وما تبعها، إنما هي أمانة اليوم تحديدا بأيدي فقراء الأمة ومستضعفيها، أمانة بيد من يتحرقون شوقا ولهفة للذود عنها بكل ما يملكون من إيمان وتضحية، بالمال والنفس والولد، لكنه يحال بينهم وبين رغبتهم بحديد الحاكم وخيانة العالم القابع خلف عباءة الحكم وصولجان السلطة.
والإشارات الواردة من السينما المصرية العتيدة، والمسلسلات السورية والعربية، التي وظفت الأموال والفن والكتاب والتقنيات من اجل الخروج بترهات افرغ ممن كتبها ومن مثلها وشارك فيها، ترهات محاربة الإرهاب الإسلامي المتوالد من رحم المدارس الدينية والآيات القرآنية- كما يدعون-، واندفاع حشد هائل من الكتاب والمفكرين بالانضمام لقائمة المنظرين والمحذرين، المستشرفين للخطر المستقبلي القادم من الجماعات الإسلامية، التي تود إعادة العالم المتحضر إلى أزقة الظلم والظلام، كل هذه المؤشرات كانت ترسم في عقول الغرب برمته تهاوي المسلمين أمام ضغط الهجمة التي تطبخ مراحلها في مطابخ المخابرات والمؤسسات الدينية في أوروبا، بحضور من سقطوا في قاع الذل المستمرأ بفعل بريق الدولار والموت.
وكانت العلامة الواضحة المميزة، بوصف بوش الإسلام بالفاشي، دون أي احترام أو تقدير للمسلمين المنتشرين على مساحة الكرة الأرضية، ودون أي حساب لوزنهم أو غضبهم الذي لا يساوي في ميزانه سوى لحظة سخرية أو تهكم.
وقف العرب والمسلمين من هذه التصريحات، موقف المستنكر الشاجب، الرافض أن تمس عقائده، وان يوصف المنتمون إليها بصفة أوروبية خالصة المنشأ وعريقة التكوين بالعقل الجمعي للأمم الأوروبية والغربية، دون أن يكون بقدرتهم دعم رفضهم أو استنكارهم بأي قوة فاعلة مؤثرة، قد تستطيع أن تغير في مجرى التفكير والهجمة التي تشن علينا من كل الجهات بتخطيط مبرمج وواع، وبأسلوب التدرج الآخذ بالاضطراد وارتفاع الوتيرة.
وكان من الطبيعي جدا، في مثل هذا السياق المتكون في الحالة العامة للأجواء العالمية ضد الإسلام والمسلمين، أن تأتي تصريحات بابا الفاتيكان، لتضع الرسول عليه السلام، ونهجه، في إطار التخلف والتدمير.
وكان من الطبيعي أيضا، أن تخرج الإساءة الجديدة لنبي الرحمة من الدنمرك، التي أصبحت علما في العالم، بعد أن كانت وجودها ككيان يستحق التقدير أو الذكر، خاملا في صقيع أرضها وسمائها.
وكل هذا طبعا، بتجاوز التدنيس الذي لحق بكتاب الله هنا وهناك، بتخطيط مبرمج ومدروس، وكذلك الملاحقة المتواصلة للمساجد وروادها في الغرب والشرق، وحتى في البلاد العربية والإسلامية، والحجاب الذي يطارد الآن في بلاد العروبة والإسلام، قبل أن يطارد في بلاد الغرب.
هي تجربة لا تختلف بتفاصيلها الدقيقة عن تجربة فلسطين، من حيث الجرع الخفيفة المتصاعدة في تكوين مفردات ومفاهيم وأصول، تتنقل عبر الزمن من حالة إلى حالة، ومن منهج إلى منهج، حتى ضاعت فلسطين، وضاعت مساجدها ومقابر الصحابة المزروعة فوق أرضها، وما تبقى فقط، هو هدم المسجد الأقصى، وإحلال الهيكل المزعوم مكانه، وهذا أمر قد لا يزال البعض يرفض تصور حدوثه، ولكني مع ما حصل وما يحصل، فاني أرى حدوثه مسالة تحتاج بعض الوقت فقط، وعندها سيخرج العالم الإسلامي يرفض ويشجب ويستنكر، وفي أثناء انشغال المثقفين بتصميم قوالب لغوية تتناسب مع الحدث ومع حجم الاستنكار، ومع انشغال الزعماء والجيوش في لجم غضب الشعوب التي لا تحتاج إلى لجم، سيكون الهيكل قد أقيم، وترسخت أساساته كأمر واقع في النفوس والعقول المتخمة بشهوة التعود إلى حد الإدمان الذي لا فكاك منه بالموت.
وهذا ليس شطحا في خيال، بل هو نتاج معرفة شعبية وثقافية، ترسخت في العقل بطغيانها كواقع لا يقبل التأويل أو الجدل، ولا يقبل التحريف أو المواربة، ولكن يقبل الانتقال من مرحلة المبدأ، إلى مرحلة التبرير، ضمن تيارات " الواقع العالمي " " وحالة الأمة " والإعداد لجيل جديد " " وتفهم الأمر الواقع "" وحسابات المستقبل " والكثير من المسميات التي أضحت جوهر وجودنا ونواة تفكيرنا وروح ثقافتنا الجديدة المصدرة من عقول تستطيع أن تعيش في سفسطة الأحداث والأفكار، دون أن تستطيع أن تُعَرِف المبدأ أو اليقين، أو المقدس.
ولتكن فلسطين- التي كتب عليها أن تكون كذلك- مثلا فيما نذهب إليه من ادعاء.
حين بلغت السادسة من عمري، كان أول ما واجهته طفولتي البكر، حرب حزيران، التي أسقطت مجموعة من الدول العربية في براثن اليهود.
كانت علامة صعبة، ولكنها بالإضافة إلى ذلك كانت علامة فارقة، لان الناس كانت تتعامل مع الوجود الاستعماري، بذهنية الوجود المؤقت وحتمية الزوال، وكانت الألفاظ والتراكيب المستخدمة في تنشئة العقل العربي، كلها تصب في بناء ذهني واعي لطبيعة المحتل، وطبيعة التعامل معه، مثال ذلك، أن الإذاعات العربية كانت تتحدث عن فلسطين، كل فلسطين، من البحر إلى النهر، وعن الفدائيين الذين أحيطوا بهالة من التقدير والاحترام، بل وكادت أن تصل مرحلة القدسية، وكان الاحتلال يسمى بالكيان المصطنع، وبعصابات الإرهاب.
كنا نحن مشغولين بانتقاء الألفاظ والجمل، وكان العدو مشغولا بتنامي قوته وسطوته، وبالإعداد من اجل أحداث نقلة نوعية في التفكير العربي تخضع لتصوراته وأمنياته.
واليوم، تحقق له ما أراد،"فكيانه" أصبح دولة معترف بها في كل العالم العربي، ونضال الشعب الفلسطيني، تحول إلى نوع من الإرهاب، وانقلبت المقاطعة العربية للكيان المغتصب، إلى مقاطعة للشعب الفلسطيني، الذي يرفض أن يدخل دائرة الاعتراف والتطبيع مع العدو، وأصبح الفدائي مطاردا في كل أقطار الوطن العربي، أكثر من المطاردين الجنائيين، ووظِف الزعماء العرب في نشر قيم المفاهيم الجديدة، وتحول المثقف إلى ابتكار أسماء جديدة تتوافق مع توجه العصر في مفهوم التراجع عن المبادئ واليقين، إلى حد أن الديمقراطية التي تتسع لكل أباطيل العدو، تأبى أن تنصت ولو لوهلة إلى خفقات الشعوب المكبوتة قهرا وغضبا.
حتى الشعب الفلسطيني، استطاعت الخطة إن تفرز منهم مجموعة من الكهنة، نصبوا أنفسهم بقوة الغرب وإرادته، أوصياء على الشعب، ليصافحوا العدو، ويتوغلوا في دماء شعبهم ويقينه ومبادئه.
هو التدرج، النفس الطويل في ملاحقة الأفكار، وتطويعها لتدخل دائرة التعود والقبول بالأمر الواقع.
وما كل هذه الضربات المتلاحقة، القادمة من الغرب والشرق، ومن بعض الدول العربية والإسلامية، ضد الإسلام والمسلمين، سوى نهج متواتر في طريق قبول فكرة المساس بالعقائد، واعتباره أمرا لا يستحق أن يلقى له بال، حتى تتحول الأمتين العربية والإسلامية، إلى التسليم بحق العالم بالنيل منا، ومن نبينا-عليه السلام- ومن كتابنا المكنون، ومن كل تاريخنا وتراثنا، تسليم من رضي بقبول الانتقال من ذهنية الرافض عمليا، إلى ذهنية المستسلم عمليا، " بحكم الواقع والظروف" وبحكم " القافلة تسير والكلاب تنبح، ولا يهم السحاب نباح الكلاب"، دون أن نفكر للحظة، وبتأمل متعقل، من هو السحاب، ومن هم الكلاب، تطبيقا وعملا، دون الركون أو الرضا بعقلية دون كيشوت الذي كان يبارز طواحين الهواء، وهو بداخله يعتقد أنها مجموعة من الكلاب، ودون أن ينظر لنفسه وهو يقاتل الهواء وطواحينه كم حافرا أصبح يملك.
ما يحصل ليس بحاجة إلى كلام أو خطب، ولا إلى حلقات تتبارى فيها الفضائيات بمن، وبكم، تمكنت أن تحشد في برامجها.
المطلوب وقفة عملية، فيها كل مقومات القوة والاستمرارية، في مواجهة الموجة القادمة التي تريد منا أن نتحول من موقع من لا يرضى أبدا، لا عقلا ولا عاطفة، أن يمس الإسلام أو مقدساته، بأي شكل من الإشكال، وبأي صورة من الصور، بأي اتهام أو أذى، إلى موقع الراضي والمتقبل لما يجري بخلط المفاهيم بين السحاب والكلاب.
والدليل على عجز العالم الإسلامي من توفير اقل حماية لنبي الرحمة، الرسوم التي صدرت من دولة منسية في التاريخ والجغرافيا، كيف عادوا ليقولوا للمسلمين كلهم حكاما ومحكومين...
طز فيكم، وطز بكل من يشد على أياديكم، وطز وألف طز بتاريخكم منذ البداية وحتى النهاية.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج-20-06-2006