الحمد لله رب الناس، ملك الناس، إله الناس، خالق الخلق أجمعين، الإله الحق المبين، خلق الإنسان من سلالة من طين، وخلق الملائكة من نور مبين، وخلق الجان من مارج من نار، أرسل الرسل وجعل الجنة للمؤمنين دارًا، والنار للكافرين قرارًا، وصلى الله وسلم على خاتم أنبيائه، المبعوث رحمة للعالمين أجمعين، بالدين القويم والصراط المستقيم، فدعا إلى الله وجاهد في سبيله، وأقام منارات العلم والهدى والخير والعدل، وأثبت أحكام الإسلام في خير دولة أقيمت على وجه الأرض، وأنشأ مجتمعًا هو خير مجتمع ظهر على وجه البسيطة، أما بعد0
فإن هداية الناس إلى توحيد الله وعبادته على الوجه الذي يحبه ويرضاه من أعظم الأعمال، وأشرف المقاصد وأنبل الخلال، وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام التي من أجلها بعثوا، وبسببها حصل لهم ما حصل من إيذاء ومحاربة وعداوة ومناوئة واتهامات، وهي نتيجة طبيعية للصدام بين الحق والباطل والفضيلة والرذيلة والاستقامة والانحراف0
والدعاة والعلماء ورثة الأنبياء، ولكل واحد منهم نصيبه من إرث النبوة على قدر علمه وعمله، وينالهم ما نال متبوعيهم من أذى واتهام وتشكيك، وها نحن نرى أنه في هذا الزمان قد تخصص كل منهم في جانب من جوانب الدعوة إلى الإسلام والتبليغ به، واختط أسلوبًا يناسب مهمته، فمنهم من اشتغل بالتأليف والكتابة، ومنهم من استعمل أسلوب الوعظ والخطابة، ومنهم من اهتم بالتربية، ومنهم من اعتنى بالتزكية0
ومن الدعاة من توجه لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وهدايتهم إلى طريق النجاة في الدنيا والآخرة، واتخذ في سبيل ذلك من الأساليب ما يتوافق مع ما يحتاجه هذا الجانب، واستعمل الأدوات المناسبة لهذا الميدان0
وقد قام هذا الصنف من الدعاة بأعباء هذا الواجب، وحصل لهم ما يحصل لغيرهم من الدعاة، ومن جنس ما حصل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من تكذيب واتهام وإعراض وصد عن الهدى الذي جاؤوا به، ومن ذلك استعمال أسلوب الأسئلة الشَّكِّية، والاعتراضات الريبية، والاستفهامات التي يحتاج صاحبها إلى إجابات شافية، والسؤالات المنطوية على اعتراضات وشكوك، تستهدف رد الحق وإنكاره وإبطاله لاسيما في هذا العصر الذي أصبحت فيه أمراض الشبهات والشهوات مؤصلة تدرَّس وتُحمى، ولها مراكز تعليم وإعلام، وقوى تدفعها وتدافع عنها0
في هذا الخضم المتلاطم، وهذه الأجواء الصعبة، تصدى ثلة من نبلاء الإسلام لدعوة بعض الوافدين إلى جزيرة العرب من أهل الملل الأخرى من نصارى ووثنيين، فهدى الله على أيديهم من أراد له الهداية والسعادة، وآخرون على أبواب الهداية، يحول بينهم وبين نور الظلمات ريب وتردد من بقايا ماضيهم المعتم، وأخلاط مما كانوا فيه من شبهات الضلال، وهم يتحرَّون من يرفع عنهم غم هذه الغيوم، بإجابات شافية، ومعلومات كافية0
وأهل هذا العمل من الدعاة يحتاجون أيضًا إلى زاد من العلم، في عملهم على رد الشبهات وكشف الزيوف وإبانة الحق وإظهار الحجة0
لهذا كله وغيره، كان هذا الكتاب الذي عمل على إخراجه بهذه الكيفية جُلَّة من المشايخ والأساتذة الفضلاء، بعد طول درس وبحث وحوار0
وقبل الولوج إلى أعماق هذا الكتاب، والدخول في تفصيل السؤالات والإجابات، لابد من مقدمة تحتوي على بعض القضايا، التي تعتبر سببًا في نشوء بعض الشُّبَه التي تتولد منها الإشكالات، عند من لم يرزق بَرْدَ اليقين في قلبه، وهذه القضايا هي:
أولاً: الخلفية الثقافية:
إن الخلفية الثقافية التي عاش عليها الإنسان تؤثر عليه في أحكامه ومعاييره، بعيدًا عن المعايير السليمة التي يجب أن يقيس بها الأمور والقضايا، وبالتالي يصبح بعيدًا عن الصواب جانحًا إلى الخطأ، أو يصبح -في أحسن أحواله- ملتبسًا عليه الحق بالباطل، ولنأخذ مثلاً إنسانًا يعيش في إحدى الغابات أو الجبال النائية مع قوم يؤمنون بالخرافات الوثنية، ويعيشون حياة متخلفة في أسلوبها وطريقة عيشها ومسالك أخلاقها، ثم انتقل هذا الإنسان إلى الحياة في جامعة علمية متطورة في أفكارها ونظمها وسائر مسالك الحياة فيها، وبمجرد أن اصطدم بهذا النوع من الحياة، المخالف لأنماط الحياة المتخلفة التي كان يعيشها في الغابة بدأ يحاكم الأفكار العلمية على ضوء خلفيته الثقافية الخرافية المتخلفة، ويحاكم النظم وأنواع السلوك التي لم يعرفها ولم يعهدها على ما كان يعهده في الغابة من سلوك بهيمي أو نظام فوضوي0
ترى هل تصح هذه المقايسة والمحاكمة؟ وهل يخرج صاحبها منها بأي حقيقة أو فائدة؟
إن كثيرًا من الذين يعترضون على الإسلام بصورة كيدية مباشرة، أو بطريقة التوائية غير مباشرة، يسلكون المسلك ذاته الذي يسلكه رجل الغابة المتخلف عندما يحاكم جامعة علمية متطورة على ميزان خلفيته الثقافية المتخلفة0
إن الواحد من هؤلاء يقوم بإسقاط تصوراته السابقة عن الإسلام من غير أي التزام بمنهجية علمية، أو طريقة برهانية توضح الخطأ من الصواب والصحيح من الفاسد0
فالنصراني مثلاً يأتي بخلفياته الخاطئة عن الله تعالى وأنبيائه ثم يبدأ بطرح الأسئلة وفق هذه الخلفية الخاطئة، فيقول مثلاً: أنتم تقولون بأنكم تعبدون إلهًا واحدًا والحقيقة غير ذلك، فأنتم تتشبهون بالنصارى القائلين: باسم الأب والابن وروح القدس، حيث تقولون بسم الله الرحمن الرحيم0
ونحو ذلك من الأسئلة المبنية على مقدمات خاطئة، وخلفيات ثقافية باطلة0
إن من المحتم على الإنسان أن يبحث عن الحق بدليله وبرهانه، ولا يدع خلفيته الثقافية السابقة مسيطرة عليه، بل عليه أن يفحصها تحت مجهر الحق والحقيقة بالبرهان والدليل0
وبسبب سيطرة خلفيته الثقافية السابقة –قديمة كانت أو معاصرة- نجد أسئلة خاطئة، لأنها مبنية على معلومات خاطئة، وما الحديث عن الحرية والمساواة إلا مثالاً صريحًا على هذا الصنف من الأسئلة، بل يمكن القول إن معظم الأسئلة المستفهِمة أو المشكِّكَة تأتي من هذا الباب، ولهذا كان لزامًا تبيان هذه القضية لتصحيح تفكير الذين يتعاملون مع الإسلام مثل تعاملهم مع ديانة محرفة، أو وثنية مخرفة، أو نظريات باطلة أنتجتها عقول البشر لا تستند إلى منهجية علمية حقيقية0
ثانيًا: الحرية:
وهي من أوسع الأبواب التي ترد منها الأسئلة الشكية أو التشكيكية، وهي أيضًا من نماذج الخلفيات الثقافية الخاطئة التي تنتج أحكامًا خاطئة0
وقد فتن العالم اليوم بما يسمونه "حرية" واعتبرها أساس التحضر والعدالة والتميز والتقدم والرقي0
ذلك أن أوروبا كانت قد خرجت من الاستبداد والظلم الذي كان سائدًا قبل الثورة الفرنسية، والذي كانت تصادر فيه حقوق الضعفاء، وحريات الأفراد الذين لا يستطيعون انتزاع حقوقهم، وكانت الكنيسة ورجالاتها من أعظم وأبشع من رسخ المظالم بين فئات المجتمع وأفراده، ومن أكبر من سوغ للطبقات الحاكمة والثرية ظلم الناس واستعبادهم0
فثار الناس في أوروبا عدة ثورات كان أهمها الثورة الفرنسية التي طرحت شعارات الحرية والمسواة والإخاء، واستغلت المنظمات والتوجهات ذات المطامح الخاصة شعار الحرية فوسعت مفاهيمه وكبرت دائرته في غفلة من الناس وانتكاس في مفاهيمهم، وذلك حين سيطرت على نفوسهم الشهوات وغلبت على عقولهم الشبهات0
وأصبحت مكيدة التحرر المنفلت من أي ضابط أو قيد شائعة عامة تقضي حمم بركانها على منطق العقل ومبادئ الأخلاق ومصالح الناس أفرادًا وجماعات0
واستغل مردة الفساد من اليهود وأدواتهم هذا السعار الهائج عند الناس فأججوا نيرانه، ومددوا حواشيه شيئًا فشيئًا ليشمل كل العقائد والقيم الخلقية والضوابط السلوكية، وذلك من خلال تدنيس كل مقدس، وتشويه كل القيم الدينية والأخلاقية، والقضاء على الوازع الديني والسلوكي في الفرد والمجتمع تحت لواء الدين الجديد والإله المعبود من دون الله المسمى "حرية وتحررًا"0
وكان الهدف من وراء هذا المكر طمس إنسانية الإنسان وتحويله إلى وحش كاسر وحيوان هائم، يفسد ويدمر ويقضي على المبادئ والقيم والأخلاق والفضائل تحت شعار الحرية0
واندفع الناس مفتونين بهذا الشعار كل يرتع في الفساد والإفساد بأقصى طاقاته وإمكانياته، فالمنحرفون في أفكارهم وعقائدهم استخدموا شعار الحرية لتحطيم العقائد الصحيحة والتشكيك فيها، وترويج الإلحاد والعدمية والانحرافات الاعتقادية0
والمنحرفون في مجال النظم الاجتماعية والإدارية والسياسية وغيرها, استعملوا شعار الحرية لتفتيت المجتمعات، والاحتيال على النظم بألوان الغش والاحتكارات وحيل الربا والمضاربات، وألاعيب الأحزاب الانتخابات0
ومع توسيع شعار الحرية واستيلائه الماكر على عقول وقلوب أكثر البشر أصبح كل ضابط للفكر من عقيدة صحيحة أو دين قويم، وكل ضابط للسلوك والقيم من مبادئ أو أعراف أو سلطات يعتبر عند عباد هذه الحرية المنفلتة عدوًا للإنسان، مدمرًا لكرامته مستبدًا بحقوقه!!
وهكذا استحكمت حلقات هذا الكيد حتى أصبح المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وأصبح المفسد مصلحًا والمصلح مفسدًا، وأصبح العاقل الرشيد النزيه منغلقًا ومتخلفًا ورجعيًّا، والأحمق الشهواني عاقلاً متحضرًا متقدمًا!!
ولو نظرنا في الحرية التي فتنت بها البشرية في هذا الزمان، وأصبحت شعارًا يرفع لتسويغ كل انفلات وفساد وفوضى، ولو نظرنا في الحرية في ماهيتها وحقيقتها الوجودية، لوجدنا أنه لا توجد حرية مطلقة بلا ضوابط ولا حدود؛ وذلك لأن في الإنسان ميلاً طبيعيًا للالتزام والانضباط بأشياء معينة ينفذها، ولو وجد الإنسان نفسه منفلتًا من كل التزام يأتيه من خارج ذاته لفرض على نفسه قضايا معينة والتزم بها تلبية لما في طبيعته من رغبة في الالتزام؛ ذلك لأن حياته الفردية لا تستقيم إلا بالتزامه بنظام معين في حياته، فهناك مواعيد ليقظته ومنامه وطعامه وعمله وراحته، هذا في شأنه الفردي، أما في الشأن الاجتماعي فإنه لا يخلو من علاقات منظمة بأفراد أسرته وأفراد مجتمعه، وذلك لأن من المعلوم ضرورة أن حياة المجتمع لا تستقيم إلا بالتزام نظام معين يشمل العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كما يشمل الأنماط السلوكية والأخلاقية0
وخلاصة القول أنه لا يمكن تصور حياة فردية ولا جماعية بلا نظام أو ضابط أو التزام، وهذه جميعها قيد للحرية المطلقة، وبرهان جلي على أنه لا توجد حرية مطلقة من كل قيد0
وبما أن الأمر كذلك في واقع الحال، فلا شك أن الدعوة إلى الحرية المطلقة ليست سوى دعوة لما لا وجود له حتى في واقع الداعين إليها، وشعار مخادع ينطوي على الغش والتلبيس؛ لأن الحرية المطلقة لا وجود لها، ولا يمكن أن توجد، لأنها ليست جزءًا من طبيعة الإنسان الذي خلقة الله وفيه ميل طَبَعِيٌّ للالتزام0
فما المغزى من وراء هذا الصراخ الطويل عن الحرية؟
إنه باختصار إجابة داعي الهوى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)(1)0
فحرية الفكر لدى التقدميين تعني الإلحاد وجحد الدين، وإنكار الوحي والرسالة، وتعني عند التحريين"الليبراليين" الشك في دين الله وأنبيائه وممارسة الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية، وظلم الأقوام الآخرين، ونهب ثروات البلدان وخداع الناس، والتلاعب بعقول الشعوب، وممارسة الاحتكار والتحايل الاقتصادي والقانوني والسياسي، كل هذا وغيره من الفظائع تحت ستار"الحرية"، وتحت شعار حرية الفكر، وحقيقة القضية قضاء المأرب والأهواء والشهوات والرغبات، وتحقيق المطالب الخاصة، وليس الجانب الفكري إلا ستارًا يغطون به عبوديتهم للأهواء والشهوات، ثم يزعمون أنهم أحرار الفكر0
ثالثًا: المساواة:
وهو شعار آخر من الشعارات المعاصرة التي ولجت منها أدران الشبهات على عقول كثير من الناس، ودخلت منها المشكلات على حياتهم، حيث قامت الصراعات بين أفراد المجتمع وطبقاته بسبب مطالبتهم بالمساواة0
وقد أحدث شعار المساواة أنواعًا من المغالطات والخداع للناس، وأصبح بعد أن مُدِّدت أطرافه وعُمِّمت مضامينه ينطوي على فتنة عظيمة للبشر، خاصة بعد أن اصبح عند المفكرين والكتاب والمنظرين أصلاً من أصول المبادئ الإنسانية، وقاعدة من قواعد التقدم والتحضر والرقي0
وانطلقت تحت مظلة هذا الشعار الخادع عواصف الظلم والتعسف والعدوان، حيث اندفع البطالون والكسالى يطالبون بالمساواة مع الجادين والعاملين، وطفق الجاهلون ينشدون أن يكونوا على قدم المساواة مع العلماء، كما تطاول السفهاء والمفسدون يطالبون أن يكونوا في درجة واحدة مع أصحاب النزاهة والفضل والصلاح والاستقامة، وأخذت النساء يطالبن بالمساواة مع الرجال في كل أمر، وأخذ العالة الفاشلون يطالبون بالمساواة مع المجتهدين الناجحين، وهكذا اهتزت الموازين واضطربت ضوابط الحياة، وقامت في بلدان عديدة ثورات أفسدت الحرث والنسل، وقامت في بلدان أخرى منظمات وجمعيات تطالب بالمساواة الظالمة، ملغية في حسابها سنة الله في خلقه، وهي السنة الكونية القائمة على مبدأ التمايز والتفاضل0
وإذا نظرنا إلى قضية المساواة نظرة حقيقية واقعية، وجدنا أنها تناقض العدل؛ إذ لا يكاد يوجد في الوجود شيئان متساويان من كل وجه تمام المساواة، ومن الظلم التسوية بين المتفاضلين0
والتمايز - الذي هو سنة كونية - موجود في كل شيء، في الأحياء والجمادات والنباتات والحيوان والإنسان0
فليس الحديد كالذهب، وليس الحنظل كالنخل، وليس الخنزير كالغزال، وليس الجاهل كالعالم ولا الذكي كالغبي ولا النافع كالضار0
فلا يصح عقلاً ولا واقعًا التسوية بين الأجناس والأنواع والأفراد، وهي في حقيقة الأمر متمايزة متفاضلة فيما بينها0
ولذلك لم تستطع الأنظمة والنظريات والمذاهب الفلسفية المعاصرة أن تقيم المساواة بين الناس، ومن أظهر الأمثلة على تلك الأنظمة؛ الاشتراكية والشيوعية، مع أن الأنظمة الديمقراطية مترعة بأنواع الظلم الجاري باسم المساواة، ولكنها مغطاة بآلة الدعاية والإعلام الضخمة، وبغلالات مزخرفة من الألاعيب الديمقراطية0
إن المناداة بالمساواة المطلقة مجانبة لمبدأ العدل، ومناقضة لحقائق الأشياء، ومصادمة لقضية التمايز التي جعلها الله في الخلق، وبهذه المناداة القاسطة تقوم الأحكام على الظلم، وتسير الحياة سيرًا مضطربًا0
ولا شك أن البشرية عاشت وتعيش ألوانًا من الاستبداد والظلم وطغيان بعض أفراد المجتمع وطبقاته على بعض، ومن هنا توجه الناس إلى مبدأ المساواة الذي رفع أخيرًا، معتقدين أن فيه الخلاص من الظلم والطغيان، ولكنهم كانوا بمثابة من استجار من الهيجاء بالنار0
وكان من الأولى أن يتوجهوا إلى مبدأ العدل الذي تقوم موازينه على أحكام الحق، والتي منها مراعاة جوانب التفاضل والتمايز القائمة في الواقع، والثابتة في الحياة، وهو التمايز الذي ذكره الله تعالى في قوله: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم)(2)0
وهو التفاضل الذي ابتلى الله تعالى به الناس ليمتحنهم بالعطاء الذي أعطاهم إياه، قال تعالىكلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا! انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً)(3)0
ولأجل الاختلاف في هذا العطاء بين الناس نهى الله تعالى المؤمنين عن تمني ما فضل به بعضهم على بعض فقال: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيبٌ مما اكتسبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليمًا)(4)0
ولأجل هذا التمايز جعل الله تعالى القوامة للرجال على النساء، وهو تمايز قائم على خصائص في التكوين والخلقة والقدرة والاستعداد والصفات والمؤهلات الجسدية والعقلية والعاطفي، حيث جعل لكل من الجنسين وظيفة تناسبه وتؤهله للقيام بدوره الاجتماعي على الوجه الصحيح، قال الله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)(5)0
إذًا فالمساواة بين المتفاضلات ظلم وعدوان، ومخالفة لبرهان العقل ودلالة الواقع، وفي الكتاب الكريم الأدلة على عدم المساواة بين الأمور المختلفة، بل فيه بيان أن هذا التساوي لا يصح ولا يثبت ولا يستقيم، قال تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب)، وقال سبحانه: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)(7)، وقال U: (وما يستوي الأعمى والبصير! ولا الظلمات ولا النور ! ولا الظل ولا الحرور! وما يستوي الأحياء ولا الأموات)، وقال تعالى: (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم ! أفنجعل المسلمين كالمجرمين ! مالكم كيف تحكمون)(9)0
فإذا كان التمايز والتفاضل موجودًا فالعدل يقتضي عدم المساواة، وأما الأمور المتساوية حقيقة فالعدل يقضي بلزوم التسوية بينها في الأحكام، ومن أمثلة ذلك:
أن الناس متساوون في الخلق، فكلهم لآدم وآدم من تراب، ومتساوون في كونهم عبيدًا لله تعالى، وفي كونهم مطالبون بتوحيد الله وعبادته0
ومتساوون في وجوب حفظ حقوقهم الخاصة من التعرض لها وانتهاكها بغير حق، في الجسد والمال والعرض والعقل والنفس وما إلى ذلك0
ومتساوون في وجوب إعطائهم الحق الذي لهم، وأخذ الحق الذي عليهم، ومتساوون في حقوق التقاضي ومجريات القضاء في حال الإدعاء أو رد الدعوى0
ومتساوون في أصل حق التملك وأصل حق التصرف في المُلك، ومتساوون في حق العمل والكسب وتعلم ما يلزمهم لصلاح دنياهم وأخراهم0
وهكذا كل أمر فيه التساوي بين الخلق فإن العدل يكون في التسوية، كما أن التفاضل والتمايز بين الخلق فإن العدل فيه عدم التسوية بين المتفاضلات، إذ العدل هو وضع الشيء في موضعه الصحيح، وإعطاء كل ذي حق حقه، وأما المساواة فقد تكون بإعطاء غير ذي الحق حقَّ غيره، أو إشراكه فيه، وهذا ظلم وعدوان0
رابعًا: العبودية لله تعالى:
قضيتان لا ينفك عنهما إنسان:
الأولى:خضوعه وانقياده لشيء ما، لقوة أعلى منه وأقوى من فرديته0
الثانية: اتساؤه واقتداؤه بغيره0
هاتان القضيتان من أهم الركائز الأساسية في الإنسان، ومن أكبر المؤثرات في تصرفاته ومشاعره وعلاقاته، ووجودها في الإنسان ضرورة، كوجود الحب والبغض والإرادة0
ولهذا وجه الله تعالى الإنسان إلى ما به هدايته وصلاحه وسعادته انطلاقًا من هاتين القضيتين، ودل الإنسان على أنه لا نجاة له إلا بتوجهه السليم فيهما، وبين له هذا التوجه، وجعل له من الدلائل والبراهين والركائز ما يقوي هذا التوجه ويؤيده0
فأما القضية الأولى: فقد خلصه الله من كل خضوع وانقياد يتعسه ويشقيه، ووجهه إلى أن يكون عبدًا لله تعالى وحده، وبذلك ينال الشرف والعزة والمكانة والسعادة، فإن أبى فإنه لن يتخلص من العبودية، ولكنه سيقع في شتات معبودات باطلة زائفة زائلة، وينحدر بذلك عن درجة الكرامة إلى دركات المهانة0
وهذه قضية حتمية لا انفكاك منها بحال من الأحوال، وهي حاصلة في واقع الناس حصولاً حقيقيًا، وأساس حتميتها أن في الإنسان حاجةً وفقرًا إلى عبادة ما، وهو بين حالين لا ثالث لهما، إما أن يتوجه بعبادته لله وحده فيكون بذلك موحدًا مطيعًا سعيدًا في الدنيا والآخرة، وإما أن يتوجه بعبادته إلى غير الله من الآلهة الكثيرة المصطنعة، كالهوى والشهوة والمال والملذات والقوانين والأعراف والأحزاب، وكل ما تجاوز حده من محبوب أو متبوع أو مطاع0
فإن كان الأمر بهذه المثابة -وهو كذلك في الواقع- فلا فلاح للإنسان إلا بعبوديته لخالقه ومالكه والقادر المهيمن عليه وعلى كل شيء0
وهو إذا فعل ذلك فقد ترقى في درجات الكمال الإنساني، وأصبحت لحياته قيمة عالية غير تلك القيمة التي انحدر إليها من يعبد غير الله تعالى0
وكلما كانت عبوديته لله أقوم كانت كمالاته أوفر، ولذلك فالمسلم الحق حريص على التحلي بصفة العبودية، التي تعني الاستسلام الكامل لأمر الله ونهيه من غير اعتراض ولا ارتياب، ذلك لأنه أضحى مستيقنًا أنه لا خلاص له ولا نجاح إلا بتحقيق هذه العبودية والسير في مدارجها نحو رضى الله تعالى الذي هو غاية كل مؤمن به0
ومن أسس وأصول هذه العبودية أن المؤمن بالله ربًا وإلهاً يسير تحت ظلال الطاعة منفذًا كل ما يطلب منه ربه سواء عرف الحكمة من ذلك أو لم يعرف، وسواء أدرك عقله المغزى أو لم يدرك؛ لأنه حين شهد أنه لا إله له ولا معبود له إلا الله فقد التزم بناء على ذلك بطاعة الله طاعة مطلقة لا خيرة فيها ولا تردد ولا التواء0
وبهذا المعنى المتكامل يتضح معنى العبودية لله وضرورته وشدة الحاجة إليه0
فمن لم يفهم هذه المعاني العظيمة على وجهها فلا يُستغرَب أن تصدر منه الاعتراضات والشكوك، لأن عقله لم يستطع النهوض من حضيض الجهالات والعبوديات المنحرفة0
أما القضية الثانية: فقد جعل الله الرسل الكرام وهم أفضل الخلق وأكمل البشر، جعلهم قدوة للناس، وجعل الاتساء بهم طريقًا للخير والفضل والبهجة، وسفينة للنجاة من أمواج وأهوال وظلمات القدوات البشرية منذ القدم وإلى اليوم0
ومن أجل هذه الضرورة جعل الله الإيمان بالأنبياء قرينًا للإيمان به U0
ومن أوضح الدلالات على ذلك أن الركن الأول من أركان الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله0
ومن حكم هذا الأمر أن النبي r هو المثال الواقعي لتطبيق العبودية الكاملة لله تعالى، ولذلك وجب أن يكون هو القدوة والأسوة الذي لا بد لكل مسلم من اقتفاء أثره والسير على منهجه0
وبهذا تتكامل معاني العبودية والاقتداء في طريق مستقيم واحد يوصل السائر عليه إلى رضوان الله والجنة0
أما من لم يفهم هذه المعاني فهو بمثابة الأكمه، الذي ولد أعمى، لو وصف له جمال الألوان فإنه لا يعي من ذلك شيئًا، وكذلك الذي لا يدرك معاني العبودية المتكاملة وآثارها الفاضلة يطرح أسئلة من قبيل: لماذا تقبل الحجر الأسود؟ ولماذا تضحي في عيد الحج؟ ولماذا تصلي الظهر أربعًا والمغرب ثلاثًا؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي تنبعث من قلب من لم يفهم العبادة حق فهمها، ولم يذق حلاوتها ولم يعرف قدرها وثمرتها وشدة حاجة الناس إليها0
نسأل الله الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على بنينا محمد وعلى آله وصحبه0
الباب الأول
في رحاب العقيدة الإسلامية
الفصل الأول
الإيمان بالله تعالى
س1) ما دامت الأديان الرئيسة الثلاثة قد نزلت من عند الله I فلم كانت هناك اختلافات في مفهوم ذات الله U بينها ؟ ولماذا يطلب من المسيحي أو اليهودي أن يترك دينه ليدخل في الإسلام ؟
ج1) لاشك أن الأديان الثلاثة قد نزلت من عند الله U، ولا خلاف بين الأديان الثلاثة في إفراد الله تعالى بالعبادة ووصفه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص وعيب، وما الاختلاف بين هذه الأديان إلاَّ شيء طارئ ، وذلك بعد أن عمد أصحاب الديانتين اليهودية والنصرانية إلى تحريف وتبديل ما نزل إليهم من ربهم ، ومن هنا ظهر الاختلاف في ذات الله تعالى ، فالاختلاف إذن بين الإسلام الذي أنزله الله تعالى على رسوله وبين ديانات حرفت وبدلت، وعلى هذا فالاختلاف ليس بين ديانات صحيحة وإنَّما هو اختلاف بين دين صحيح حق وديانات باطلة محرفة، لعبت بها الأيدي الخبيثة فانحرفت بها عن جادة الصواب0
الخــاتمـــــة
وبعـــــــد .
فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والحمد لله على كل حال، نحمده تعالى الذي يسر لنا إتمام هذا الجهد المتواضع، ونسأل الله أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعنا به والمسلمين، كما نسأله أن يعظم الأجر لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب، وأن يجعله في ميزان حسناتهم يوم لا ينفع مال ولا بنون0
ولابد من التذكير في خاتمة هذا البحث بأنه إنما كان إجابات على تساؤلات وردت من قبل بعض الناس الذين يفكرون في الدخول في الإسلام، أو هم حديثو عهد به، أو ممن يعيشون قريبًا من المسلمين من خلال عملهم أو حياتهم العامة، وقد روعي في الإجابات هذه المستويات بشكل عام، وكان الكتاب مقتصرًا على الأسئلة الواردة واقعيًا وليست أسئلة مختارة أو متوقعة0
ولعل هذا الكتاب المتواضع يكون بداية وإرهاصًا لدراسات مركزة تهم الدعاة إلى الإسلام في أوساط الجاليات التي تعيش في المجتمعات الإسلامية، ولعل العاملين للإسلام يخصصون جزءًا مباركًا من وقتهم، يتلمسون فيه احتياجات الدعوة لغير المسلمين على اختلاف مشاربهم ونزعاتهم، والأفكار التي يتوقع أن تكون سائدة بينهم، وعلى اختلاف الملل والمذاهب التي يدينون بها، ويكتبون الكتابات المدعومة بالأدلة والبراهين والحجج العلمية والعقلية التي تفند الشبهات وتجلي معالم الحق وترفع منار الإسلام في وجه الراغبين فيه أو المعرضين عنه والحاقدين عليه على حد سواء0
ويجب على الدعاة الإسلاميين أن يعيشوا عصرهم ويدركوا عظمة التحديات الجاهلية وخطرها، ويعدوا أنفسهم ليكونوا على قدر المسؤولية التي حملوها من يوم آمنوا بالله تعالى ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد r نبيًا ورسولاً0
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم0