موغلة هى فى القدم، تأملتها ببعض من العطف دفعتنى إليه انحنائتها وهزالها الشديد، لم تكن من أقاربى فعائلتى لا تضم معمّرين، ولكنى التقيتها فى بيت أحد الأقارب جدة لأولاده، تسابق الجميع لتوصيلها إلى مقعدها بجوارى، مما حدا بى لقضاء الأمسية فى تأمل السنين المحفورة على ملامحها، عينان تومضان ببريق حياة ماضية وتنطقان بأنهما فى وعى آخر غير الذى يجمعنا فى هذا البيت، لفتت انتباهى رعشة الأيدى الخفيفة وقادت اهتمامى إلى عروقها الظاهرة وشدة هزال جسدها، ربما كانوا تسعين عاماً أو تزيد قضتهم هذه السيدة فى دنيانا، هكذا فكرت وأنا أطالع غيمات عينيها وتراكم السنين فوق أظافرها
همست لى : لماذا لا تأتين لزيارتى دوماً ؟ إننى لم أعد أغادر البيت إلا قليلا
لعلها تظننى أحد آخر ، فأنا لا أزورها عادة، لكنى همست لها بأنها مشاغل البيت والأولاد
فسألتنى: هل لديك أبناء بخلاف هذا الولد ؟ أجبتها باسمة : لدى ابنة أخرى
لكنها لم تسمعنى فى الحقيقة ، فقد قالت لى بعد لحظة : الولد الوحيد مشقة، ما زلت صغيرة، انجبى له أخاً أو أختاً
ربتّ على كتفها وأجبتها : ان شاء الله
ذهبت من جديد إلى وعيها الآخر، ربما إلى زوج وأولاد كانوا معنا يوماً وملأت معهم الدنيا ضحكاً وبكاءاً وخلافاً واتفاقاً، جعلتنى بصمْتها انسج حولها حكايا أسلى بها جلستى بعد أن تباعد عنى الآخرون، رأيتها فى ثلاثينيات عمرها أى فى خمسينيات القرن الماضى ترتدى تلك الفساتين الرائعة وتدور فى رقصة بين يدى شاب ربما أصبح زوجها فيما بعد، ورأيتها على شاطىء البحر، تجلس تحت مظلة وبيديها النضرة كتاب وعلى رأسها قبعة كبيرة من القش يتطاير من تحتها خصلات شعر أسود، ورأيتها
ــ لماذا لا تأتين لزيارتى دوماً ؟ إننى لم أعد أغادر البيت إلا قليلا
ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ــ هل لديك أبناء بخلاف هذا الولد ؟ ما زلت صغيرة، انجبى له أخاً أو أختاً
لعلها تظننى أحداً آخر غير الذى كنته منذ دقائق، تسائلت ، هل أصبح التواصل مع الحياة بالنسبة لها هو ترديد هذه الجمل، هل حقاً تعى أى شىء، أم هى لحظات وعى متفرقة لم أصادفها بعد فى لقائى معها، ظلت عيناها تبرقان بوهج بعيد، لعلها ذكريات تحاول اختراق طبقات النسيان المتراكمة، وما زلت أنا أتأملها