جميل ماقدمته أخي المكرم وقد قرأت في الأهرام هذا الموضوع الذي يدعم موضوعنا وأحببتُ نقله وهو بعنوان:
مجتمعنا الذي لانعرفه!
بقلم: د. وحيد عبدالمجيد
ماحدث في أول وثاني أيام عيد الفطر في بعض شوارع وسط القاهرة يستحق وقفه, بغض النظر عن حجمه الذي تفاوتت التقديرات كثيرا بشأنه, ولكن طريقة تعاملنا مع هذا التحرش, الذي مارسه بعض من الصبية والشبان الصغار ـ القادمين من مناطق عشوائية ـ بالفتيات والسيدات في الطريق العام, تستحق أكثر من وقفة ليس فقط بسبب التضارب الشديد في المعلومات المتعلقة به, ولكن أيضا لما مثله من مفاجأة لكثير منا, فراح بعضنا يهول وذهب بعض آخر إلي التهوين.
فالمفاجأة هي أن يجد الانسان نفسه أمام أمر لم يكن يعرفه, أو حدث لم يتوقعه أو أن يكتشف شيئا لم يتصوره من قبل.
وهناك نوعان من المفاجأة بهذا المعني, احدهما من طبائع الحياة, والثاني من علامات الخلل في الحياة, وهذا النوع الأخير يعد مؤشر خطر, وخصوصا حين تكون له صلة بتطور المجتمع, فعندما يكون بعض هذا التطور أو كثير منه مفاجأة لنا, ويتواتر ذلك إلي أن تصبح المفاجأة قاعدة, فهذا يعني أننا لانفهم ماحدث ويحدث في المجتمع.
وإذا كان هذا المجتمع هو مجتمعنا, يغدو عدم الفهم منتجا لخطر داهم, والحال أن مجتمعنا المصري لايكف عن أن يفاجئنا بظواهر وممارسات وسلوكيات تدهشنا, فدائما نحن مدهوشون, وتبدأ وسائل الإعلام في التعبير عن هذه الدهشة كل بطريقته, وكثيرا ما تنطوي معالجة الحدث الذي فاجأنا علي اصدار أحكام قيمية بشأن ما فوجئنا به, والبحث عن متهم نلقي عليه المسئولية قبل أن ننام.
وفي كثير من الاحيان تتجه اصابع الاتهام إلي سلطة الدولة أو النظام السياسي أو الحكومة, حيث تكثر المترادفات حين يقل الميل إلي التدقيق, ولا يصاحب ذلك, في الغالب, سعي إلي فهم ماحدث, وإذا حاول بعضنا ذلك فبشكل انطباعي علي الأرجح.
ولايعني ذلك ان نظام الحكم بريء من الظواهر السلبية التي تحدث في المجتمع, فهو مصدر اساسي لبعض هذه الظواهر, وربما ايضا مصدرها الأول عندما يكون تأثيره قويا علي مجتمع ضعيف, وقد تأثر مجتمعنا عميقا بسياسات نظام الحكم واختياراته منذ خمسينيات القرن الماضي, ولكن هذا النظام ليس هو المؤثر الوحيد في تطور المجتمع, حتي اذا كانت المسئولية الأكبر تقع عليه, كما ان مسئوليته ليست حصرية عن الضعف الشديد في المعرفة بتطور المجتمع والتغيير الذي حدث فيه والتحولات التي شهدتها الخريطة الاجتماعية في العقود الثلاثة الأخيرة طبقيا وجيليا وجغرافيا ومهنيا.
فقد حدث فراغ معرفي في هذا المجال تتحمل أجهزة الدولة المعنية بالبحث العلمي والتخطيط مسئولية جزئية عنه, ولكن باقي هذه المسئولية يقع علي عاتق مؤسسات لم تقم بدورها في هذا المجال مثل الجامعات والقطاع الخاص والاحزاب السياسية والمنظمات المدنية.
لقد مضي وقت كانت فيه دراسة المجتمع سهلة لان تكوينه كان بسيطا والعلاقات بين فئاته كانت واضحة, كما كان صغيرا في حجمه, وبطيئا من حيث التغيير الذي حدث فيه حتي العقد الثامن من القرن الماضي, وهذه هي الفترة التي توقف فيها تقريبا البحث عن تطور المجتمع, وخريطته وعلاقاته إلا قليلا, هذا القليل هو بالضرورة جزئي وليس كليا, بالرغم من أن بعضه قدم مؤشرات مهمة لتطور المجتمع في بعض جوانبه, ولكن لايقدر علي القدرة إلا القادر, فما تيسر انجازه من بحوث مهمة في هذا المجال كان بجهود فردية لايمكن إلا ان تكون بطابعها محدودة, بينما الدراسة الكلية للتطور في أي مجتمع تحتاج إلي عمل جماعي شاق يعتمد علي بحث في الميدان في انحاء ريف مصر وحضرها.
وهكذا أخذ الوقت يمضي, والتغير يتسارع في مجتمع يزداد سكانه ويكبر حجمه ويشتد تعقيده وتكثر العشوائية في انماط حياته وعلاقاته, وخصوصا منذ التحول الذي حدث في السياسة الاقتصادية والاجتماعية تحت عنوان الانفتاح, قبل أكثر من ثلاثين عاما.
وإذا اردنا نفهم جيدا ما يحدث في مجتمعنا الآن, وان نعي ظواهر جديدة نلاحظها في سلوك قطاعات من شبانه وشاباته, وهم أغلبية ابنائه الآن, فلابد من العودة إلي ذلك التحول ولكن ليس في ذاته وانما في السياق الذي حدث فيه.
فلم تكن المشكلة في ذلك التحول, بمقدار ما كانت في توقيته بعد اقل من15 عاما علي تحول سبقه في مطلع الستينيات في اتجاه معاكس له, والمشكلة هي أن التحول الاقتصادي الاجتماعي الكبير, أيا يكن اتجاهه, يهز المجتمع في اعماقه لانه يعيد صوغه ويغير في العلاقات بين فئاته وشرائحه ويبدل بعض القيم السائدة فيه, ولذلك يحتاج المجتمع, اي مجتمع, إلي عدة عقود لكي يستوعب الآثار الاجتماعية لهذا التحول ويتعافي من الانهاك الذي يترتب علي الحراك الشديد والسريع الذي يحدث فيه.
ولذلك كان للتحول شبه الرأسمالي اثار اجتماعية ضارة لانه حدث في لحظة كان المجتمع فيها قد اشتد عليه الانهاك الناجم عن التحول شبه الاشتراكي, فضلا عن اعباء المعركة الوطنية والقومية التي خاضها من أجل فلسطين ثم لتحرير الأرض, وفي مثل هذه الظروف تقل قدرة المجتمع علي الاستفادة من ايجابيات التحول الثاني وهو الذي لم يستوعب آثار التحول الأول, بينما تتعاظم السلبيات الناجمة عن التحولين في ان معا.
وهذا هو ماحدث فجاء التحول الثاني بشكل مشوه من الرأسمالية المعتمدة علي الدولة, والمتداخلة في شرائحها العليا مع السلطة علي نحو انتج انماطا من السلوك والقيم ما كان لها أن تنتشر بالمستوي الذي بلغته علي الأقل, لو ان التحول شبه الرأسمالي حدث في منتصف التسعينيات مثلا بدلا من السبعينيات, وكان من نتيجة ما حدث بالطريقة التي حدث بها, تخلخل شديد في بنية المجتمع وعلاقاته.
ومن دون معرفة مصادر الظواهر الاجتماعية السلبية, من نوع ما حدث في بعض شوارع وسط القاهرة في عيد الفطر وغيره, ولاتتيسر معالجتها, وسنظل نفاجأ بها ونبحث عمن نتهمه بشأنها أو نتبادل الاتهامات دون أن نعرف, فويل لنا اذا لم ندرك ان المعرفة لاتقل أهمية عن الديمقراطية التي يظن بعضنا انها الحل السحري!