هناك مثل أمريكي قديم يقول "إذا كنت في منتصف النهر، فاحذر أن تستبدل فرسك بآخر"، "Don't change horses in the middle of a stream". لعل هذا المثل اليوم هو الذي يدور في ذهن الإدارة الأمريكية الحالية، في الوقت الذي يبدو فيه الشعب الأمريكي عازماً على خلع الحزب -الذي رسم سياساته الخارجية مدة ستة أعوام- من خلال الانتخابات التشريعية النصفية بعد أسبوعين.
فالإدارة الأمريكية اليوم تخسر حرباً ضروساً ليس في العراق فحسب، وإنما في واشنطن أيضاً. فالحزب الجمهوري -الذي تشير استطلاعات الرأي إلى تدني مستوى التأييد لمرشحيه في جميع المستويات سواءً في مجلس النواب أو في مجلس الشيوخ أو على مستوى حكام الولايات أو الانتخابات المحلية في داخل الولايات- يبدو اليوم في ورطة حقيقية. حيث يحرز الحزب الديموقراطي تقدماً كبيراً على منافسه العنيد في معظم الولايات.
إذ إن تدني شعبية الرئيس الأمريكي جورج بوش وحزبه قد وصلت إلى نقطة لم يصلها من قبل، على رغم أن الرئيس لا يزال يرى نجاح سياساته الخارجية في حربه على الإرهاب وتقدم الديموقراطية في العراق والرخاء في أفغانستان والعيش في عالم أكثر أمناً وغير ذلك من الأمور التي لايراها إلا القليل من الذين أنار الله بصائرهم بالهدي البوشي.
الأوضاع في العراق خصوصاً وفشل الحرب على الإرهاب عموماً هما السبب الرئيس في خسارة مرشحي الحزب الجمهوري المتوقعة بعد أسبوعين من الآن. وبالتالي فالديموقراطيون مدينون للرئيس بوش الذي حقق لهم مالم يحققه زعيم ديموقراطي من قبل. فمنذ انطلاق "الحرب على الإرهاب" أصر الرئيس بوش على أن هذه الحرب هي حربه التي ستضع مكانه في التاريخ إن منتصراً أو منهزماً، مخالفاً بذلك المثل الأمريكي الآخر الذي يقول "إياك أن تضع بيضك كله في سلة واحدة". فالرئيس بوش وإدارته قد وضعوا جهدهم كله في حربهم ضد "الإرهاب"، وربطوا مصيرهم ومصير حزبهم بهذه الحرب التي لم يحدد لونها ولا طعمها ولا رائحتها حتى الآن.
الحرب في العراق تسير من سيئ إلى أسوء بالنسبة للأمريكيين، وقبل أيام قلائل حققت القاعدة نبوءة أبي مصعب الزرقاوي الذي توقع في آخر تسجيل مصور له قبل وفاته بأشهر إعلان "إمارة إسلامية في العراق" خلال ثلاثة أشهر. ومع المسيرات المؤيدة التي تمت في الأنبار بعد الإعلان عن تأسيس "الدولة الإسلامية في العراق" تبدو الإدارة الأمريكية اليوم في وضع حرج للغاية. فالوضع في الأنبار كما يقول المحللون الأمريكيون هو "خارج عن السيطرة"، وأما عن بقية العراق فإنه على الأثر، الأمر الذي جعل الرئيس الأمريكي بوش يعترف بوجود مقارنة بين العراق وفيتنام.
بيد أن الأمر في العراق مختلف جداً عنه في فيتنام، فالأزمة الأمريكية في فيتنام انتهت بقرار انسحاب القوات الأمريكية وقبول الهزيمة رغم مافيه من مرارة، وأما في العراق فإن الانسحاب الأمريكي من العراق يعني كما يقول بوش "وصول الإرهابيين إلى واشنطن ولندن وباريس وبقية عواصم أوربا".
والسؤال المطروح اليوم أمام الإدارة الحالية هو كيف يكون الخلاص من العراق؟ فإدارة الرئيس بوش ترى أنها متورطة في الحالين. إذ إن بقاءها يعني مزيداً من الخسائر البشرية والمادية والمعنوية وهو الأمر الذي لا تستطيع واشنطن أن تستمر عليه كثيراً، وإن حزمت حقائبها ورحلت، فنجاح "الإرهابيين" في العراق يشكل خطراً داهماً على المنطقة برمتها بما في ذلك مصدر الطاقة الحيوي الأول، كما أنه في حالة ترك الساحة العراقية "للإرهابيين"، فإن احتمال وصول خطر "الإرهاب" إلى الولايات المتحدة قد يكون أسرع مما يتوقع. وفي كلتا الحالتين فإن الحزب الجمهوري ليس لديه من الوقت ما يصلح به قواعد اللعبة الانتخابية في داخل البيت الأمريكي للفوز بالانتخابات التشريعية.
على إنه إذا ما استطاع الحزب الديموقراطي أن يحقق أغلبية في مجلسي الكونغرس في الانتخابات التشريعية بعد أسبوعين -كما يتوقع له- فإن ذلك لن يكون نهاية المطاف، ولكن هذا الفوز سوف يكون داعماً له ليصب جهوده في إحراز نجاح نحو المكان الأكثر أهمية في واشنطن ليتسلم مفاتيح البيت الأبيض بعد عامين من الآن، ومن يدري فقد يكون للحزب الديموقراطي شرف فوز زوجة رئيس سابق للولايات المتحدة لتكون أول سيدة للبيت الأبيض عام 2008.
فالديموقراطيون اليوم قد وضعوا خططهم للوصول إلى البيت الأبيض، ويبدو أنهم عازمون على إثارة زوابع ضد الرئيس صاحب حزب الأقلية في الكونغرس، قد يكون منها تقديم مذكرات تطالب بإدانة الرئيس بوش ذاته بسبب ماقام به من مخالفات قانونية دستورية أثناء فترة رئاسته. وإذا ما تمكنوا من تقديم ذلك الطلب رسمياً، فإن ردة فعل الحزب الجمهوري قد تكون غير تقليدية. فالجمهوريون لن يقبلوا بخسارتين في نهايتي شارع بنسلفينيا بواشنطن في وقت واحد. ومن غير المستبعد أن يتكرر سيناريو الرئيس جون كندي في تدبير خطة لتهيئة نائب الرئيس تشيني لتولي القيادة قبل انتخابات الرئاسة القادمة بفترة كافية.
الخلاصة أن الحزب الجمهوري اليوم في ورطة داخلية بسبب ورطة خارجية قادته إليها سياسته الرعناء، فبعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وقفت الغالبية العظمى من دول العالم بما في ذلك الدول الإسلامية كلها مع الولايات المتحدة في مأساتها، ولكن حيث أساءت إدارة بوش استغلال هذا الحدث، وأصرت على استعداء دول لم تكن متورطة أصلاً في مايسمى بالإرهاب، كالعراق وسوريا وإيران وفلسطين، بات واضحاً عمق المأساة التي وصل إليها البيت الأبيض، رغم كل ما أنفق من مئات المليارات من الدولارات لكسب الحرب ضد "الإرهاب". ولو أن إدارة بوش كان عندها من الحكمة مالو أنفقت المبالغ التي صرفت في الحرب على العراق وأفغانستان -والتي قاربت حتى الآن ثلاثمائة مليار دولار- في عمارة تلك البلدان، لربما وفرت إدارة بوش على نفسها عناء حماية أمنها.
اليوم وبعد أكثر من ثلاثة أعوام من حرب إدارة بوش على العراق، يشرف الديمواقراطيون على العودة إلى أعتاب الكونغرس الأمريكي بعد غياب طويل. فقد بات من الواضح اليوم أن الحصان الذي يحمل الأمة الأمريكية قد بدا عليه الإعياء والتعب، وقد يسقط قبل أن يصل إلى ساحل الأمان. ولذلك، فإن الشعب الأمريكي يرى ضرورة تغيير فرسه وإن كان في منتصف النهر. ولكن، ربما كان من نتيجة تغيير الفرس في هذا الوقت أن يغرق هو ومن عليه!