بسم الله الرحمن الرحيم

إشهار البندقية في حكم مشاركة النساء في الجندية



الدكتور رياض بن محمد المسيميري


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وبعد .

فقد شرع اللهُ لأمةِ الإسلامِ كلّ أسبابِ العزّة والمنعة ، والسؤود والمجد ، وخوّل لها كلّ الحق في الدفاع عن نفسها والإبقاء على كيانها ، فكان الجهاد في سبيل الله درة التشريعات الربانية ، وتاج التوجيهات القرآنية, وفخر السنة المحمدية ..

ففي الجهاد ، يحفظ الدين ، وتُحمى الحوزة ، ويُعصم الدم ، ويصان العرض وتفتخر الأمة ، ويرتفع الرأس ، وتبتهج النفس ، ويطمأن القلب ، وتطرب الروح !!

وفي الجهاد تعلو الهمة ، ويتحقق المجد ، وتسودُ الكرامة ، وتدوم العزة ، ويسمو الشرف !!

وفي الجهاد يخاف العدو ، ويخنس الظالم ، ويخنع الجائر ، ويُهربُ الصائل ، وينكسر المتجبر !

ومنذ أزمنة بعيدة وإلى اليوم غابت راية الجهاد ، وخرس صهيل الخيول ، وانطفأ لهيب المعارك ، وتراجعت هيبة الأمة ، وانحسرت مساحة أرضها ، وتسلط عليها عدوها ، وطمع فيها أضعف الخلق وأجنسهم .

فاستبيحت دماؤها ، وهُتكت أعراضها ، ونهبت خيراتها ، وسلبت أموالها ، وتراجع كيانها ، وأهينت كرامتها ، ومرّغ كبرياؤها وذهب عزها ...

ولذا كان فرض الإسلام للجهاد غاية في الحكمة ، وقمة في العدالة ورأساً في الكمال !

ومن هنا أوجب الإسلام الإعداد للجهاد بقوة ، والتحضير له بصدق وعزيمة ، وانتدب الأمة لأخذ الأهبة, والمبادرة لساحات الوغي ، وميادين الشرف ، وأبواب الجنة!!

بيد أن الإسلام راعي طبيعةَ المرأة الجسمانية والعاطفية ، فوضع عنها الجهاد ابتداءً ، لما يتطلبه من الكرّ والفرّ ، والقوة والجلد ، ولما يترتب عليه من الأسر والسبي ونحوه ، ممّا تعجز عن تحمل تبعاته النساء الضعيفات .

إلا أنّ ثمة أقلاماً جريئة ، وطرحاً غريباً ظلّ يتوالي تباعاً منادياً بلزوم فتح المجال رحباً ، أمام مشاركة المرأة في الجندية ، وإشراكها في المهام القتالية العسكرية مع ما يترتب على هذا الصنيع من التكشف والتبرج ، والتهتك والاختلاط بين الذكور والإناث ، وما يتبعه من المفاسد والعار ، وانحدار الأخلاق والقيم .

ومن عجب أنّ هؤلاء ينادون بهذا الطرح الأرعن في وقت تعطل الجهاد نفسه ، وغياب عن واقع الأمة وحياتها ، بل في وقت بقي الملايين من الشباب الأقوياء عاطلين عن العمل متململين في فراغ قتال !!

فإن كان الطرح جاداً ، والنية صالحة فلم لا يُطالب بتعبئة هؤلاء الشباب وإعدادهم ، للانخراط في صفوف الجندية وجيوش الإسلام ؟!

وفي الأوراق التالية أبحث – بإذن الله – بعض أحكام الجهاد في ضوء الكتاب والسُنّة ، مستنيراً بأقوال فحول الإسلام ، ومعرجاً في نهاية المطاف على حكم مشاركة المرأة في الجندية والله المسؤول أن يجعل العمل خالصاً والسعي مقبولاً والحق ظاهراً وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .

المبحث الأول : تعريف الجهاد لغة واصطلاحاً :

المطلب الأول : تعريفه لغةً :

قال ابنُ منظور في اللسان ( جهد : 3/ 133) : ( الجَهْدُ والجُهْدُ : الطاقة ، تقولُ : اجْهَد جَهْدَك ، وقيل : الجَهْدُ : المشقة والجُهْدُ : الطاقة ، وجاهد العدو مُجاهَدة وجهاداً : قاتله وجاهد في سبيل الله ...

والجهاد : محاربةٌ الأعداء ، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل ..

والجِهَادُ : المُبالغةُ واستفراغُ الوسع في الحرب أو اللسان ، أو ما أطاق من شيء .

وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 6/ 3) : والجهادُ بكسر الجيم ، أصله لغة : المشقة ، يقال : جهدت جهاداً ، بلغت المشقة .

المطلب الثاني : الجِهَادُ في اصطلاح العلماء :

قال الكساني في بدائع الصنائع ( 7/98) : ( الجِهَادُ في عُرف الشرع يستعمل في بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك )

وقال في إعانة الطالبين ( 4/ 180) : ( والِجهَادُ أي : القتال في سبيل الله ، مأخوذ من المجاهدة وهي المقاتلة في سبيل الله) .

وقال العدوي في حاشيته ( 2/3) : ( الجهادُ في سبيل الله ، المبالغة في إتعاب النفس في ذات الله وإعلاء كلمته التي جعلها الله طريقاً إلى الجنة ).

وفي مواهب الجليل (3/347) : ( قال ابن عرفة : قتالُ مسلم كافراً غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله أو حضوره له أو دخول أرضه )

وقال ابن عبد السلام : ( هو اتعاب النفس في مقاتلة العدو)

وقال الحافظ في تعريف الجهاد شرعاً في الفتح (6/3) : ( وشرعاً بذل الجهد في قتال الكفار... ) .

المبحث الثاني : فضل الجهاد وشرفه :

قال ابن قدامة ( المغني 9/164) :

قال الخرقي : ( مسألة : قال أبو عبد الله – أي الإمام أحمد – لا أعلم شيئاً من الأعمال بعد الفرائض أفضل من الجهاد ) روى هذه المسألة عن أحمد جماعة من أصحابه.

قال الأثرم : قال أحمد : لا نعلم شيئاً من أبواب البر أفضل من السبيل – أي الجهاد – وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله ، وذكر له أسر العدو فجعل يبكي ويقول : ما من أعمال البر أفضل منه . وقال عنه غيره ليس يعدل لقاء العدو شيء ، ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال .

والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حرميهم فأي عمل أفضل منه ؟ الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مُهج أنفسهم )

قلت : وقد عقد البخاري – رحمه الله – كتاباً أسماه : كتاب الجهاد والسير ثم قال : باب أفضل الجهاد والسير وقول الله تعالى : ( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ... إلى قوله : ( وبشر المؤمنين ) ثم ساق جملة من الأحاديث في فضل الجهاد منها :

1/ عن ابن مسعود – رضي الله عنه- سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال :(الصلاة على وقتها) قلت:ثم أي؟ قال: ( بر الوالدين ) قلت: ثم أي ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله ) فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني . [ البخاري 2630] [ مسلم ] .

2/ عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : دلني على عمل يعدل الجهاد . قال : ( لا أجده ) قال : ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر ، وتصوم ولا تفطر ؟ ) قال : ومن يستطيع ذلك ؟ .

قال أبو هريرة : إنّ فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات . [ البخاري : 2633] .

3/ عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : قيل : يا رسول الله ، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله . قالوا : ثم من ؟ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره ) [ البخاري : 2634] [ مسلم : 1888] .

قلت : والأحاديث في فضل الجهاد لا يمكن حصرها كثرة وصحة ، أخرجها الشيخان وبقية الأئمة وهي مشهورة معلومة :

قال ابن عبد البر في التمهيد ( 17/440) : ( وفي الجهاد من الفضائل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يكاد يحصى ) .

وقال ( 18/ 340 ) : ( فضلُ الجهاد ، وفضلُ القتل في سبيل الله وفضل الشهادة لا يحيط به كتاب فكيف أن يجمع في باب والله الموفق للصواب ) .

وقال المناوي في الفيض ( 1/165) : ( فَضْلُ الجهادِ يكاد يكون بديهياً ؛ إذ لا تنتظم العبادات والعادات إلا به ) .

المبحث الثالث : حكمُ الجهادِ :

قال الشوكاني في نيل الأوطار ( 7/209 ) : ( قال السُهيلي : والتحقيق أنّ حنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بقلبه ) .

وقال الجصاص في أحكام القرآن ( 4/311) : ( وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ومالك وسائر فقهاء الأمصار إن الجهاد فرض إلى يوم القيامة إلا أنه فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم كان الباقون في سعة من تركه ) .

وقال ابنُ النّحاس في مشَارع الأشواق ( 1/98 ) : ( اعلم أنّ جهاد الكفار في بلادهم فرض كفاية باتفاق العلماء ) .

ومعنى فرض الكفاية : أنّه إذا قام به من فيه كفاية ، سقط الحرج والإثم عن الباقين ، فإن تركه الجميع أثموا ، وهل يعمهم الإثم ؟ وجهان : أصحهما : يأثم كل من لا عذر له ، والثاني يأثمون أجمعين ) .

قلت : ولا منافاة بين ما قاله السهيلي من كون جنس الجهاد فرض عين ، وما قاله سائر العلماء من كونه فرض كفاية ، ذلك أنّ قول السهيلي يعني به القتال وإنكار المنكر بحسب الطاقة باليد أو اللسان أو القلب .

وكلام العلماء يعنون به قتال الكفار خاصة .

وفيما يلي أحكام الجهاد وخلاف العلماء فيها :

اختلف أهل العلم – رحمهم الله – في أحكام الجهاد ، هل هو فرضُ عين أم فرض كفاية ، أم تطوع مشروع ، فزعم بعضهم أنه فرض عين في كل حال ,وقال آخرون: هو فرض عين في أحوال مخصوصة إلى غير ذلك مما سيأتي بسطه في الأوراق التالية :

القول الأول : الجهاد فرض عين في كلّ حال .

ذهب سعيد بن المسيب – رحمه الله – إلى القول بأنّ الجهاد فرض على كل مسلم في عينه أبداً ، حكاه الماوردي ونقله عنه القرطبي في الجامع (3/38) .

وقال ابن النحاس في مشارع الأشواق (1/98) : ( وحُكى عن ابن المسيب ، وابن شبرمة أنه فرض عين ) .

قلت : وأمّا الجصاص في الأحكام (4/311) فقد قال : ( حكي عن ابن شبرمة والثوري في آخرين أنّ الجهاد تطوع وليس بفرض ) فلعله قول آخر لابن شبرمة .

القول الثاني : الجهادُ فرضُ عين في بعض الأحوال :

خصّ كثير من أهل العلم فرضية الجهاد على الأعيان في أحوال ثلاثة وفيما يلي ملخصها :

أولها : إذا هجم العدو على بلاد المسلمين :

قال الجصاص في الأحكام (4/312) : " معلوم في اعتقاد جميع المسلمين ، أنّه إذا خاف أهل الثغور من العدو ، ولم تكن فيهم مقاومة لهم فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم إنّ الفريضة على كآفة الأمة أن ينفر إليهم من يكفّ عاديتهم عن المسلمين ، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم" .

وقال القرطبي ( الجامع : 8/151) : ( لو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ، ويخزي العدو ولا خلاف في هذا ) .

قال ابن عبد البر المالكي في الكافي ( 1/205) : ( الجهاد ينقسم أيضاً قسمين : أحدهما: فرض عام متعين على كل أحد ممّن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محارباً لهم ، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفاقاً وثقالاً وشباباً وشيوخاً ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقل أو مكثر ، وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا قلوا أو كثروا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة ).

وقال العدوي في حاشيته ( 2/4 ) : ( العدو إذا فجأ مدينة قوم مثلاً فيتعين على كل أحد ، وإن لم يكن من أهل الجهاد كالمرأة والعبد ) .

وقال الشيرازي في المهذب (2/ 229) : ( وإن أحاط العدو بهم تعين فرض الجهاد ) .

وقال البغوي إذا دخل الكفار دار الإسلام فالجهاد فرض عين على من قرب, وفرض كفاية على من بعد)

وقال ابن قدامة في المغني ( 9/163) معدداً الحالات التي يتعين فيها القتال: ( الثاني : إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم ) .

وقال ابن تيمية في الفتاوى ( 28/ 80) : ( فيكون فرضاً على الأعيان مثل أن يقصد العدو بلداً ) .

2- ثانيها : إذا استنفر الإمام :

والحالة الثانية التي يتعين فيها الجهاد هي عند استنفار الإمام فإنه يلزم حينئذ كلّ من شَمله الاستنفار النهوض إلى الجهاد بعينه ولا يجوز له أن يتخلف سواء كان النفير عاماً أم خاصاً بمعنى أنّ الإمام لو استنفر جماعة من الناس للجهاد دون غيرهم تعين عليهم .

الأدلة :

1/ قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض .... قليل ) .

2/ قوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس رضي الله عنه :

" لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا " [ البخاري : 2825] [ مسلم : 1353] .

قال الحصّاصُ : ( لو استنفرهم الإمام مع كفاية مَنْ في وجه العدو من أهل الثغور ، وجيوش المسلمين ، لأنّه يريد أن يغزو أهل الحرب ويطأ ديارهم فعلى من استنفر من المسلمين أن ينفروا ) بواسطة هيكل 2/885

قال الدسُوقي في حاشيته (2/ 175) : ( إنّ كلّ من عينه الإمام للجهاد فإنه يتعين عليه ولو كان صبياً مطيقاً للقتال أو امرأة أو عبداً أو ولداً أو مديناً ، ويخرجون ولو منعهم الولي والزوج والسيد وربُّ الدين ) .

وقال العدوي في حاشيته ( 2/4) : ( الإمام إذا طلب منه أن يذهب إلى جهة للقتال فيها فإنه يتعين عليه أن يوافقه على ما أمر به ) .

وقال القرطبي في الجامع (8/142) : ( إنّ الإمام إذا عين قوماً وندبهم إلى الجهاد لم يكن لهم أن يتثاقلوا عن التعيين ويصير بتعيينه فرضاً على من عيّنه لا لمكان الجهاد ولكن لطاعة الإمام والله أعلم ) .

وقال ابن حجر : في الفتح ( 6/ 39) : ( وجوب تعين الخروج في الغزو على من عيّنه الإمام )

قلت : وقد بوّب البخاري باباً سمّاه ( وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية )

وقال ابن قدامة في ( المغني ) ( 9/163) : ( إذا استنفر الإمامُ قوماً لزمهم النفير معه لقول الله تعالى : ( يا آيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم ... إلى الأرض ... ) .

وقال ابن تيمية في الفتاوى ( 28/ 80) : ( فيكون فرضاً على الأعيان مثل أن يقصد العدو بلداً أو مثل أن يستنفر الإمام أحداً . )

ثالثها : عند حضور الصف.

ويكون الجهاد فرض عين أخيراً عند حضور القتال حتى لو لم يكن من أهل الفرض العيني فلو قُدِّر أنّ رجلاً لا يلزمه الجهاد العيني لبعد بلده عن بلد مسلم هاجمه العدو ، وكان في البلد المُهاجم ما يكفي من الجند لدحر العدو وهزيمته فتطوع للجهاد معهم فلما حضر الصف بدا له ألا يجاهد حُرم عليه الرجوع وترك الجهاد .

الأدلة :

1/ قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار .. )) .

2/ قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون )) .

قال ابن سعدي : (( أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالشجاعة الإيمانية والقوة في أمره والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان ونهاهم عن الفرار إذا التقى الزحفان )) .

قلت : ( والآية التي استدل بها ابن سعدي – رحمه الله – على تحريم الفرار محلّ خلاف بين العلماء .) .

قال الطبري : - رحمه الله – في تفسيره ( 9/ 201) : ( واختلف أهل العلم في حكم قول الله عز وجل ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة) .. هل هو خاص في أهل بدر أم هو في المؤمنين جميعاً ؟

فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة ؛ لأنّه لم يكن أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوه وينهزموا عنه فأما اليوم فلهم الانهزام ) .

قلت : والثبات للعدو حال الزحف واجب ما دام العدو مثل أو مثلى المسلمين عدداً فإن زادوا عن ذلك جاز للمسلمين الفرار أو الانحياز إلى فئة مؤمنة ؛ لأنّ الله تعالى حدّ المصابرة بالضعفين تخفيفاً على الأمة فقال : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ...) .

قال الجصاص في الأحكام ( 4/ 250) : ( فإنهم مأجورون بالثبات لهم إذا كان العدو مثلهم فإن كانوا ثلاثة أضعافهم فجائز الانحياز إلى فئة من المسلمين يقاتلون معهم ) .

وقال الشافعي في الأم (4/ 169) : ( فإذا غزا المسلمون أو غُزوا فتهيأوا للقتال فلقوا ضعفهم من العدو حُرم عليهم أن يولوا عنهم إلا متحرفين إلى فئة ) :

قلت : وتقييد الإمام الشافعي- رحمه الله- الملاقاة بالضعف في قوله : ( فلقوا ضِعْفَهم ) بناءً على آية المصابرة في سورة الأنفال حيث يقول الله تعالى : (الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) [ الأنفال : 66: كما تقدم بيانه .

قال الجلال السيوطي في ( الجلالين ص 385) ( خبر بمعنى الأمر : أي لتقاتلوا مثليكم ، وتثبتوا لهم ) .

قال صاحب المهذب ( 2/232) : ( وإذا التقى الزحفان ، ولم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ، ولم يخافوا الهلاك تعين عليهم فرض الجهاد ) .

وقال صاحب المغني ( 9/163) ( إذا التقى الزحفان ، وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف ، وتعين عليه المقام ) .

3- القول الثالث :

ذهب أكثر العلماء إلى أنّ الجهاد فرضُ كفاية في أصله إلا في أحوال خاصة – تقدم ذكرها -.

وقال ابن النحاس في المشارع ( 1/98) : ( اعلم أنّ جهاد الكفار في بلادهم فرض كفاية باتفاق العلماء ... وحكى عن ابن المسيب وابن شبرمة أنه فرض عين ) .

وقال الجصاص في الأحكام ( 4/ 311) : ( الجهاد فرض على الكفاية ومتى قام به بعضهم سقط عن الباقين ) .

وقال الكاساني في ( البدائع : 7/97) : ( فإن لم يكن النفير عاماً فهو فرض كفاية ومعناه أن يفترض على جميع من هو من أهل الجهاد لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين ) .

وقال الدردير في الشرح الكبير ( 2/174 ) : ( الجهاد فرض كفاية ) .

وقال في مواهب الجليل ( 3/346) : ( الجهاد في أهم جهة كلّ سنة وإن خاف محارباً كزيارة الكعبة فرض كفاية ) .

قال ابن عطية في المحرر الوجيز ( 2/217) : ( واستمر الإجماع على أنّ الجهاد على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية ، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين ) .

وقال الشيرازي في المهذب ( 2/227) : ( والجهاد فرض ، والدليل عليه قوله تعالى : ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) وقوله تعالى : ( وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم )، وهو فرض على الكفاية ، إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين .. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى لحيان وقال :" ليخرج من كل رجلين رجل" ثم قال للقاعدين :" أيكم خَلَفَ الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج"

ولأنه لو جُعل فرضاً على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش فيؤدي ذلك إلى خراب الأرض وهلال الخلق .

وقال ابن قدامة : في الكافي (4/251) : ( وهو فرض لقوله تعالى : ( كتب عليكم القتال ) [ البقرة : 216] .

وقوله : ( انفروا خفافاً وثقالاً ) [ التوبة : 41] .

وقال : ( إلا تنفروا يعذبكم الله عذاباً أليماً ) [ التوبة : 39] وهو من فروض الكفايات إذا قام به من به كفاية سقط عن الباقين لقوله تعالى : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله .. إلى قوله : ( وكلا وعد الله الحسنى ) : [ النساء : 95] .

ولو كان فرضاً على الجميع ما وعد تاركه الحسنى وقال تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) [ التوبة : 122] ولأنه لو فرض على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش والعلم فيؤدي إلى خراب الأرض وهلاك الخلق ) .. .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ( 28/ 80) : ( الجهاد فرض على الكفاية ) .

الأدلة :

1- قوله تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كلّ فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) [ التوبة : 122].

وهذه الآية الشريفة دالة بصراحة يأنه لا يلزم النفير العام لمجاهدة الكفار ، وإنّما يكفي البعض للنفير ، وتظل فرقة لطلب العلم والفقه وتعليم الناس .

2/ قوله تعالى : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً ) .

والشاهد من الآية أنّ الله تعالى وعد كلاً من المجاهدين والقاعدين الحسنى وهذا يدل على عدم فرضية الجهاد على الأعيان وإلا لما وعد المتخلفين عنه بذلك .

الأدلة من السُنّة :

1- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ويؤمر عليها بعض أصحابه ، ويقيم هو وغيره بلا نفير .

2/ وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى لحيان ، وقال :" ليخرج من كلّ رجلين رجل" ثم قال للقاعدين:" أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج" ) .[ مسلم : 1896] .

والشاهد من الحديث واضح - بحمد الله - فالنبي صلى الله عليه وسلم انتدب للخروج إلى الجهاد بعض أصحابه ووعد القاعدين بنصف أجور الخارجين ، ولو كان الخروج متعيناً على الجميع لما أجروا على تخلفهم .

رابعاً : الجهاد تطوع وليس فرضاً :

قال الجصاص في الأحكام (4/ 311) : ( حكى عن ابن شُبرمة والثوري في آخرين أنّ الجهاد تطوع وليس بفرض ، وقالوا :( كتب عليكم القتال) ليس على الوجوب بل على الندب كقوله تعالى : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين ) .

وقد روى عن ابن عمر نحو ذلك وإن كان مختلفاً في صحة الرواية عنه .. وروى عن عطاء وعمر بن دينار نحوه .. )

قلت : وقد نَقَلَ القُرطبيُ في الجامع (3/38 )عن المهدوي وغيره عن الثوري أنّه قال : الجهاد تطوع .

ثم نقل كلام ابن عطية – معلقاً على عبارة الثوري – قال : وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل ، وقد قيم بالجهاد ، فقيل له ذلك: تطوع الثانية .

شروط الجهاد في المذاهب الأربعة :

(1) الأحناف :

قال الكاساني في بدائع الصنائع ( 7/98) : ( فصل : وأما بيان من يفترض عليه فنقول : إنه لا يفترض إلا على القادر عليه فمن لا قدرة له ، لا جهاد عليه .. فلا يفترض على الأعمى والأعرج والزمن والمقعد والشيخ الهرم والمريض والضعيف الذي لا يجد ما ينفق . ولا جهاد على الصبي والمرأة لأنّ بنيتها لا تحتمل الحرب عادة ) .

(2) المالكية :

قال في مختصر خليل ( 1/101) : ( الجهادُ فَرْضُ كفاية ولو مع والٍ جاء على كلّ حرّ ذكر مكلف قادر ) .

(3) الشافعية :

قال الشربيني في الإقناع ( 2/ 556) : ( وشرائط وجوب الجهاد حينئذ سبع خصال : الأولى : الإسلام ، والثانية : البلوغ ، والثالثة : العقل ، والرابعة : الحرية ، والخامسة : الذكورة ، فلا جهاد على امرأة لضعفها ، والسادسة : الصحة .. والسابعة : الطاقة على القتال بالبدن والمال .

(4) الحنابلة :

قال ابن قدامة : المغني (9/163) : ( ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط : الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والحرية ، والذكورية ، والسلامة من الضرر ، ووجود النفقة ) .

خلاصة القول في شروط الجهاد :

وبعد أن استعرضت أقوال أئمة المذاهب في شروط الجهاد يمكن تلخيص ما ذكروه – رحمهم الله – في الشروط التالية :

1/ الإسلامُ : وهو شرط لوجوب سائر الفروع ، ولأنّ الكافر غير مأمون في الجهاد .

وفي صحيح مسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلمّا كان بحرة " الوبرة " أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لاتبعك وأصيب معك, قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تؤمن بالله ورسوله ؟" قال : لا ، قال:" فارجع فلن استعين بمشرك" قالت : ثم مضى حتى إذا كنا " بالشجرة" أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة قال :" فارجع فلن أستعين بمشرك" قال ثم رجع فأدركه "بالبيداء" فقال له : كما قال أول مرة" تؤمن بالله ورسوله" قال: نعم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانطلق ) [ مسلم : 1817 ] .

قلت : والحديثُ صريحٌ في منع غير المسلم من الجهاد مع المسلمين فالرجل عرض نفسه مراراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معروف بشجاعته ونجدته وجرأته ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرحون بمقدمه ومع ذلك أبى النبي صلى الله عليه وسلم الاستعانة به .

2/ البلوغ :

والبلوغ كذلك شرط من شروط وجوب الجهاد ، لما يتطلب من قوة البدن ، وصلابة البنية ولما في الحديث الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما – قال : عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزي ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ) [ مسلم : 1867 ].

3 / العقل :

قال ابن قدامة ( المغني : 9/ 163 ) : ( والمجنون لا يتأتى منه الجهاد ) وقال الشنقيطي في الأضواء ( 8/ 174) : ( فمن المتفق عليه ما أخرج من عموم خطاب التكليف كالصغير والنائم ، والمجنون ، لحديث" رفع القلم عن ثلاثة" .

قلت : والحديث رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة ،عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الغلام حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ) [ ابن حبان : 142] [ الحاكم : 8169] [ ابن خزيمة : 1003 ] .

4 / الحرية :

ويشترط كذلك لوجوب الجهاد الحرية لأنّ منفعة العبد لسيده فلا يجاهد إلا بإذنه ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع العبيد على الإسلام دون الجهاد .

5 / الذكورة :

وهو شرط في وجوب الجهاد للحديث الصحيح أنّ عائشة رضي الله عنها قالت :( قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هل على النساء جهاد ؟ فقال : جهاد لا قتال فيه ، الحج والعمرة ) .

وللإجماع على أنّ النساء لا يلزمهن الجهاد وسيأتي ذكر من نقل الإجماع من أهل العلم – إن شاء الله –

ولأنهن ضعيفات الأبدان ، عاجزات عن مقاتلة الرجال بلا شك .

6 / القدرة :

والقدرة يراد بها : قدرة البدن على القتال والكرّ والفر ، وقدرة المال بأن يكون معه ما يكفيه للانتقال إلى ساحة القتال ويكفيه من التجهز للجهاد .

وقد ذكر الله البكاءين الذين عجزوا عن مؤنة الجهاد فرفع عنهم الحرج فقال سبحانه : ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع ألا يجدوا ما ينفقون ) .

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه إنّي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين نستحمله فقال : ( والله ، لا أحملكم وما عندي ما أحملكم , وأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل فسأل عنّا فقال أين النفر الأشعريون فأمر لنا بخمس ذود غرّ الذرى فلما انطلقنا قلنا : : ما صنعنا؟! ، لا يبارك لنا!! فرجعنا إليه فقلنا: إنا سألناك ، أن تحملنا فحلفت أن لا تحملنا أفنسيت؟؟ ، قال : لست أنا حملتكم ، ولكن الله حملكم . إنّي والله ، إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها . [ البخاري : 2964 ] [ مسلم : 1649] .

وجه الدلالة : أنّ الأشعريين لمّا لم يجدوا رواحل تحملهم جلسوا ولم يخرجوا للجهاد ، وعذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم فلما بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإبل خرجوا بعد ذلك .

حُكْمُ جهاد النساء في المذاهب الأربعة :

الأحناف :

قال الكاساني في البدائع : ( 7/98) : ( و لا جهادَ على الصبي والمرأة لأنّ بنيتهما لا تحتملُ الحربَ عادة ) .

المالكية :

قال الدسوقي في حاشيته : ( 2/175) : ( ولا يلزم الصبي والأنثى وهذا إذا لم يُعيَّنا أو عُيِّنا غير مطيقين وإلا لزمهما ) .

وقال العدوي في حاشيته ( 2/4 ) : ( وهو فرضُ كفاية على الحرِّ الذكر المحقق العاقل البالغ القادر لا على أضدادهم ) .

قوله : ( لا على أضدادهم ) ، أي: لا جهاد على العبد والأثنى والمجنون والصغير والعاجز .

الشافعية :

قال الشافعي في الأم : ( 4/162 ) : ( فلما فرض الله تعالى الجهاد دلّ في كتابه ، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يفرض الخروج إلى الجهاد على مملوك أو أنثى بالغ ولا حر لا يبلغ .. وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( حرّض المؤمنين على القتال ) فدلّ على أنّه أراد بذلك الذكور دون الإناث ؛ لأنّ الإناث : المؤمنات .

وقال عز وجل : ( وما كان المؤمنون ليفروا كافة ) وقال : ( كُتب عليكم القتال ) وكلّ هذا يدل على أنّه أراد به الذكور دون الإناث ) .

قال في المهذب : ( ولا يجب الجهاد على المرأة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد ؟ فقال جهادكن : الحج ، أو حسبكن الحج ، ولأنّ الجهاد هو القتال وهن لا يقاتلن ) . [ المهذب مع المجموع 19/ 270] .

قال ابن حجر في الفتح ( 6/ 76 ) : ( وقال ابن بطال : دلّ حديث عائشة على أنّ الجهاد غير واجب على النساء ... وإنما لم يكن عليهن واجباً لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال ) .

وقال ابن النحاس في مشارع الأشواق ( 1/ 99 ) : ( ولا يجب الجهاد على صبي ومجنون وامرأة ، ومن به مرض يمنع من القتال ) . ..

الحنابلة :

قال ابن قدامة في ( الكافي : 4/253) وهو يعدد شروط الحج : والرابع : الذكورية ، فلا يجب على المرأة لما روى عن عائشة أنها قالت : قلت : يا رسول الله ، هل على النساء جهاد ؟ قال جهاد لا قتال فيه ، الحج والعمرة ، ولأنّ الجهاد ، القتال والمرأة ليست من أهله لضعفها وخورها ) .

وكذا قال في المغني ( 9/ 162) : ( وأما الذكورية فشرط .. ثم ساق نحو كلامه هذا .

قلت : وقد نفل الإجماع غير واحد على أنّه ليس بفرض في أصله على جنس النساء.

قال ابن المُناصف ( ص 107 ) : ( واتفقوا كذلك أنّ المرأة ومن لم يبلغ ، والمريض الذي لا يستطيع القتال لا جهادَ فرضاً عليه : )

وقال ابن النحاس في المشارع ( 1/99) : ( ولا يجب الجهاد على صبي ومجنون وامرأة .. وما أظن فيه خلافاً ) .

متى يتعين الجهاد على المرأة ؟

قلت : وإذا تعين القتال في الأحوال الثلاثة التي ذكرها أهلُ العلم ، تعين القتال على المرأة المسلمة دفاعاً عن دنيها وعرضها كما نصّ عليه العلماء .

قال ابن النحاس في مشارع الأشواق ( 1/102) : ( ولو علمت المرأة أنها لو استسلمت امتدت الأيدي إليها لزمها الدفع ، وإن كانت تُقتل ؛ لأنّ من أكره على الزنا لا تحل له المطاوعة لدفع القتل ) .

وقال الدرديرُ في الشرح ( 2/ 174 ) : ( وتعين الجهاد بفجيء العدو على قوم ، وإن توجه الدفع على امرأة ورقيق وتعين على من بقربهم إن عجزوا عن كف العدو بأنفسهم وتعين أيضاً بتعيين الإمام شخصاً ولو امرأة وعبداً ).

هل يجوز إشراكُ المرأة في الجندية ؟

أثار عدد من الكُتّاب قضية إشراك المرأة في قطاع الجندية اعتماداً على كونها كانت تخرج للجهاد والغزو كما ثبت ذلك في أحاديث صحيحة وفيما يلي بعضاً من أقوالهم وعرضاً لبعض شبههم .

يقول محمود شيت خطاب ([1]) : ( ولا يقتصر التجنيد على الرجال البالغين بل يشمل النساء البالغات أيضاً ، فقد استصحب الرسولُ النساء في غزواته بل كان يصحب أزواجه بالاقتراع ، ولا يعترض أحد على اشتراك النساء في الحرب على عهد الخلفاء الراشدين والأمويين فلما جاء العباسيون ظهر بعض الفقهاء الجامدين فأضافوا إلى شروط الخدمة العسكرية شرطاً خامساً وهو الذكورة فحرموا الجيش من عنصر فعال يزيد عدده ومعنوياته ) .

وقال د/ محمد خير هيكل في ( الجهاد والقتال 12/ 123) ( لا يمنعُ من فتح باب الجيش النظامي لعناصر نسائية إذا دعت المصلحة إلى ذلك حسب تقدير صاحب السلطة في هذا الشأن ما دام الجهاد في الأصل ليس ممنوعاً عن المرأة وما الجيش النظامي في دوافعه إلا أداة للقيام بالجهاد على الوجه الأفضل فإذا أجزنا للمرأة الجهاد فهذا يعني أنّ الدخول في الأداة التي تمكنها من القيام بالجهاد وهي الجيش النظامي يكون جائزاً بطبيعة الحال ) .

وممّا استندوا عليه في هذه المسألة ما ثبت في أحاديث صحيحة أنّ النساء كن يخرجن للغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك :

ما ثبت في صحيح البخاري :

من حديث الرُبيّع بنت معوِّذ قالت : ( كُنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقى ونداوى الجرحى ، ونرد القتلى إلى المدينة ) . [ البخاري : 2726] .

وفي صحيح مسلم :

عن أم عطية الأنصارية قالت :( غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى) . [ مسلم : 1812] .

في مصنف عبد الرزاق ( 9672) قال عبد الرزاق عن معمر عن إبراهيم وسئل عن جهاد النساء ؟ فقال : كُنَّ يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيداوين الجرحى ، ويسقين المقاتلة ، ولم أسمع معه بامرأة قُتلت ، وقد قاتلن نساء قريش يوم اليرموك حين رهقهم جموع الروم حتى خالطوا عسكر المسلمين فضرب النساء يومئذ بالسيوف في خلافة عمر رضي الله عنه .

الجواب :

لا ريب أنّ خروج النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم كان تطوعاً منهن – رضي الله عنهن – بحضرة محارمهن وكُنِّ يتولين مهاماً مساندة من مدواة الجرحى وسقاية العطشى ونحو ذلك وأما قيامهن بمهام قتالية فكان ذلك عند حاجتهن للدفاع عن أنفسهن ولذا استغرب النبي صلى الله عليه وسلم حمل أم سُليم للخنجر يوم أحد ، فعن أنس أنّ أم سُليم ( اتخذت يوم حُنين خنجراً فكان معها فرآها أبو طلحة فقال : يا رسول الله ، هذه أم سُليم معها خنجر ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الخنجر ؟ قالت : اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرتُ به بطنه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ... الحديث [ مسلم : 1809 ] .

وحتى زوجها أبو طلحة ، لم يكن على علم بحملها الخنجر إلا بعد أن رآه بيدها . وأين هذا من أوضاع الجندية اليوم حيث اللباس العسكري المتبرج واختلاط المرأة بالجنود والضباط والقادة العسكريين بلا محرم وغير ذلك من المفاسد .

فضلاً عن توقف حركة الجهاد على مستوى الدول منذ قرون ودخول معظم الدول العربية والإسلامية في أحلاف ومعاهدات دولية تمنعها من ابتداء القتال بل حتى استردادها لحقوقها المغتصبة عسكرياً بات ميؤوساً منه لدى القادة العسكرين خصوصاً مع قيامهم بتطبيع العلاقات مع اليهود فضلاً عن غيرهم !!

وعلى كلّ حال فإذا رفعت رايات الجهاد ن وانطلقت جحافل المجاهدين فينظر في إشراك النساء في الجهاد من قبل أهل العلم الراسخين !!

قال العلامة ابن باز - رحمه الله – ( وقد يتعلق بعض دعاة الاختلاط ببعض ظواهر النصوص الشرعية التي لا يدرك مغزاها ومرماها إلا من نوّر الله قلبه ، وتفقه في دين الله وضمّ الأدلة الشرعية بعضها إلى بعض ، وكانت في تصوره وحدة لا يتجزأ بعضها عن بعض ومن ذلك خروج بعض النساء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات . .

والجواب عن ذلك : أنّ خروجهن كان مع محارمهن لمصالح كثيرة, لا يترتب عليه ما يُخشى عليهن منه من الفساد ؛ لإيمانهن وتقواهن وإشراف محارمهن عليهن, وعنايتهن بالحجاب بعد نزول آيته, بخلاف حال الكثير من نساء العصر ...

أما ما يُدعى في هذا العصر من إدخالها كجندي يحمل السلاح ويقاتل كالرجال فهو لا يتعدى أن يكون وسيلة لإفساد وتذويب أخلاق الجيوش باسم الترفيه عن الجنود؛ لأنّ طبيعة الرجل إذا التقت مع طبيعة المرأة كان منهما عند الخلوة ما يكون بين كلّ رجل وامرأة من الميل والأنس والاستراحة إلى الحديث والكلام ، وبعض الشيء يجر إلى بعض, وإغلاق باب الفتنة أحكم وأحزم ، وأبعد عن الندامة في المستقبل ) [ مجلة البحوث : 6 ص 297] .

وقال العلامة أحمد شاكر[2] في عمدة التفسير ( 3/ 157) في تعليقه على حديث أم سلمة رضي الله عنها – قالت : (يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث ، فأنزل الله : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض .. .) قال – رحمه الله - : ( وهذا الحديث يردُّ على الكذابين المفترين – في عصرنا – الذين يحرصون على أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين ، فيخرجون المرأة عن خدرها وعن صونها وسترها الذي أمر الله به ، فيدخلونها في نظام الجند ، عارية الأذرع والأفخاذ بارزة المقدمة والمؤخرة ، متهتكة فاجرة ، يرمون بذلك في الحقيقة إلى الترفيه الملعون عن الجنود الشبان المحرومين من النساء في الجندية ، تشبهاً بفجور اليهود والإفرنج ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة) .

قلت : ومن جهة ثانية فإنّ عدم قسم النبي صلى الله عليه وسلم للنساء من الغنيمة يدل على عدم مجاهدتهن بالفعل فإنه كان عليه السلام يرضخ لهن ولا يقسم ويدل على ذلك جواب ابن عباس لنجدة .

ففي صحيح مسلم عن يزيد بن هُرمز أنّ نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خلال ، فقال ابن عباس لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه ، كتب إليه نجدة أما بعد ، فأخبرني, هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وهل كان يضرب لهن بسهم ؟ ...

فكتب إليه ابن عباس ، كتبت تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء ؟ ، وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويُحذين من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن ... [ مسلم : 1812] .

قال ابن عبد البر في التمهيد (1/ 232) : ( واختلف الفقهاء في الإسهام للنساء من الغنيمة إذا غزون, فقال ابن وهب: سألت مالكاً عن النساء هل يجزين من المغانم في الغزو ؟ قال : ما علمت ذلك .

وقد أجاز قوم من أصحابنا أن يَرْضَخ للنساء ما أمكن على يراه الإمام .

وقال الثوري وأبو حنيفة والليث والشافعي وأصحابهم لا يسهم لامرأة ، ويرضخ لها ، وقال الأزواعي يُسهم للنساء ! .

وزعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء بخيبر ، قال الأوزاعي ؛ وأخذ بذلك المسلمون عندنا .

قال أبو عمرو : أحسن شيء في هذا الباب ما كتب به ابن عباس إلى نجدة الخارجي .. ) .

مفاسد التحاق المرأة بالجندية .

1- نشأةُ العلاقات المُحرّمة :

إنّ التحاق المرأة بالجندية ، هو بوابة مثالية ، وأرض خصبة لنشأة العلاقات المُحرّمة بين الذكور والإناث كنتيجة حتمية للاختلاط السافر بين الجنسين وما يتبعه من الصداقات والتعارف البغيض المخزي .

2- التعجيل بشيوع الفاحشة في المجتمع :

إنّ الاختلاط هو أقصر الطرق نحو شيوع الفاحشة في المجتمع بيد أنّ الاختلاط في قطاع الجندية هو الأسرع والأقصر والأمثل لشيوع الفاحشة في المجتمع قاطبة ، فطبيعة اللباس العسكري, وكثرة التمارين ، وخشونة التدريبات هي الطابع العام للعمل العسكري وهو أنسب بيئة لإبراز الرجال فتوة عضلاتهم ، وقوة أجسامهم ، وصلابة أعوادهم . كما أنه فرصة النساء لكشف محاسنهن ، وعرض مفاتنهن وكلا التصرفات من الجنسين أسرع إثارة للغرائز وأشوق داع لعقد صفقات الفاحشة والعار.

3- إذابة أخلاق الجند :

أنّ الجند الذين يصبحون ويمسون مختلطين بالحسناوات المتبرجات ، لا يمكن أن يبقى لهم خُلق يُفخر به أو رجولة يعتز بها ، فالخلاعة السائدة ، والتخنث المشين الذي يعصف بأرجاء ساحة التدريبات أو حُجر المكاتب كفيل بإذابة أخلاق الجند وإغراقهم في الشهوات !

ومن ثم تتحول مراصد الثغور إلى أوكار الفجور ، وتعود ثكنات الجنود ، مراتع للسفود عياذاً بالله .

4- الهزيمة العسكرية :

إنّ جنداً غارقين في شهواتهم ، وعقد الصفقات المشبوهة مع الفتيات والنساء المجندات لا يمكن أن يصمدوا في مواجهات حربية أو ينتصروا في مهمات قتالية فالحروب لا تعرف الميوعة ، ولا تأبه بالخلاعة ، فما هي إلا حمم ملتهبة ، وصواريخ مدمرة ، وقذائف ساحقة ، ودماء متفجرة ، وأشلاء متمزقة ، وهل هزم فرنسا إبّان الحرب العالمية إلا خلاعتها وفجورها ؟!

5- ضياع البيت وتصدع الأسرة :

إنّ خروج المرأة من بيتها لأي عمل كان كفيل بتفويت العديد من المصالح المنزلية والواجبات الأسرية ، والالتزامات الحيوية والأدبية تجاه زوجها وأولادها !!

فكيف إذا كان خروجها للجندية التي لا تتلائم مع طبيعتها الجسدية وقدراتها البدنية حيث سيقضي على البقية االباقية من قواها االطبعية ، وأي شيء سيبقى بعد ذلك لبيتها ؟!

الخاتمة :

وبعد هذا البحث الموجز ، في أهم مسائل الجهاد ، يتبين مشروعية جهاد النساء في حال هجوم العدو الصائل على بلاد المسلمين ليدافعن عن أنفسهن وأعراضهن بل إنّه ليتعين عليهن في هذه الحالة ؛ لأنّ مفسدة غزو العدو واستيلائه على حمى المسلمين , وخطره على الأديان والأعراض لا توازيه مفسدة أخرى ..

وأما مشاركة النساء في الجندية والجيوش ونحوها فغير جائز سيما في الأعصار الحاضرة لتوقف عجلة الجهاد أصلاً ، ولفساد أخلاق الرجال والنساء في هذا الزمان إلا من رحم الله ، ولافتقاد النساء للمحارم الذين يدفعون عنهن السوء والخطر .

فضلاً عن الاختلاط الفاحش واللباس الفاتن لتلك الجيوش وأولئك الجنود والله المستعان !

وختاما الله أسأل إن يحفظ ديننا وأمننا ويكبت عدونا ويرد كيده في نحره ويجعل تدبيره تدميرا لقوته, واستئصالا لشأفته إنه عزيز حكيم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

----------------------------------------
[1] - الرسول القائد لمحمود شيت خطاب ص 30 بواسطة محمد خير هيكل 2/996.
[2] - أحمد ( 6/ 322) [ الترمذي 3002] .