أحدث المشاركات

مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» @ تَعَاويــذ فراشَــةٍ عَاشِقـَـة @» بقلم دوريس سمعان » آخر مشاركة: دوريس سمعان »»»»»

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 19

الموضوع: المقامة الحجرية

  1. #1
    الصورة الرمزية حنان الاغا في ذمة الله
    أديبة وفنانة

    تاريخ التسجيل : Nov 2006
    الدولة : jordan
    المشاركات : 1,378
    المواضيع : 91
    الردود : 1378
    المعدل اليومي : 0.22
    من مواضيعي

      افتراضي المقامة الحجرية

      المقامة الحجرية

      انتشر الخبر ، بل انفجر .. وحملت نثاره أشعة الشمس والنسمات الباردة ، وتلقته البيوت الطينية ببعض الحبور . اذ أن تراكمات الهموم وسنوات القهر جعلت الحذر والشك أول ما تبثه هذه العتبات المختبئة وراء الأشجار العتيقة ، والسلاسل المحملة بأغصان الكرمة اليابسة. عباس وصل . عباس رجع.
      عباس وهو يحمل حقيبة أوراقه ، سمع صدى الصوت يندفع الى أذنيه في دفقات متلاحقة مع هبات الريح القادمة من جهة الغرب.. هو لا يكاد يذكر كم من السنوات غابت صورة هذه الأشجار وتلك البيوت عن ناظريه.
      وضع عباس حقيبته على الأرض والتقط حجرا من تلك الحجارة الغريبة المسكونة بالزمن ، حجارة مخرمة كأنها جسد تلقى عشرات الطلقات فتكوم على نفسه بلا شكل محدد، أو قل كأنها جماجم التحمت معا فاختفت جل تفاصيلها وبقيت منها العيون المجوفة والأفواه الفاغرة .ولكن لم لا تحاول_ فكر عباس _ أن تنتقي الصورة الأجمل ، لم لا تقول أنها كنوز تعبق برائحة الزمن ، وتمتلىء بنسغ المكان؟ التاريخ والأجداد والأرض الطيبة هم الذين زرعوا هذه الزيتونات التي تثقبت جذوعها كما الحجارة فأصبحت الواحدة منها مأوى لمخلوقات كثيرة متفاوتة في الحجم ومختلفة في النوع . لطالما أحب هذه الأشجار واتخذها ملاذا يقيه الصهد والعيون ، ولطالما جمع تلك الحجارة وبنى منها اشكالا كانت بمثابة ممتلكات خاصة به .. لم يكن حينها يعي ما تقترحه هذه الأشكال ولكنه _على أي حال_ كان يقف لساعات يتأملها ، بل كان يقاتل من أجلها أقرانه الذين كانوا يسخرون منها ومنه، وكان يكفي أن يمد أحدهم ساقه ويلكزها بقدمه حتى تنهار أمامه ، فيلهث عباس وراءه محاولا الأمساك به عبثا ، ويعود أدراجه ليبني من جديد والدموع تتجمد في مآقيه. سيبنيها ذات يوم وستكون له ، ملكه ، ولن يستطيع أي مخلوق أن يهدمها .
      جلس عباس وهو ما زال يحمل الحجر بين راحتيه ، ثم استند بظهره الى واحدة من تلك الأشجار _ عجوز جاوزت المائتين_ وضع الحجر أمامه برفق كأنما هو رضيع يوسد مهدا ، ومسح بظهر يده دمعتين معلقتين بين أهدابه، وشرد بذهنه بعيدا ، هناك في تلك البلاد البعيدة المليئة بمقالع الرخام ، كان يرى الرجل يقسو على الحجر ، وكلما ازداد قسوة يعطيه الحجر من أعماقه الصلبة جمالا وكلما غاص أزميله في قلب الكتلة الحجرية كلما تفتق ذاك القلب حبا وابداعا!يا الله! كيف يكون هذا؟
      لم يكن يجرؤ على فعل ذلك .. كيف يضرب الحجر وكيف يطعنه في القلب ؟ كيف يقابل حبه قتلا ؟ كان يذهب الى المقالع يوميا ويتخيل أشكاله المفترضة تنفصل ، وتنزلق من الكتل العملاقة وتقترب منه ، وتقترب. أكثر..أكثر فيخاف ويصرخ هاربا.
      قال له الطبيب يوما أن مايكل انجيلو كان يرى اشخاصه قبل أن ينحتها تتحرك وتقفز من الكتل الهائلة ، وقال له في وقت آخر أنه سيصبح نحاتا عظيما مثله .. ابتسم عباس ، لم يكن الطبيب يعرف أن الحجارة هناك في قريته الجبلية الغافية في أحضان الضباب والتاريخ والزيتون ، لم يطعنها أزميل النحات وأنها تتطور وتتشكل وتتجسم وتتثقب دون أن تخضع لعمليات التعذيب . حجارتنا دافئة وحجارتكم صقيلة باردة.
      قالوا انه مجنون . فهو ينحت الحجر بعينيه . مجنون . وتدافعت صور كثيرة أمام ناظريه وتقافزت إلى ذاكرته المضطربة أحداث هاربة من اسار الزمان والمكان . أمسك عباس حقيبته التي تحمل شهاداته الطبية المصدقة حسب الأصول .. نظر إليها طويلا ، ثم فتحها .كانت الريح قد اشتدت واهتزت لها أشجار الزيتون العتيقة ، طارت الأوراق وحملتها الريح وبعثرتها .. ربما وصل بعضها إلى حيث بيت العائلة ، هو لا يعرف .
      نظر إلى حيث تأتي الريح من جهة الغرب وقد اتخذ قرارا بالسير هبوطا ،ثم صعودا وهبوطا مرة أخرى ليصل هناك حيث يتقدس الحجر، فهو المأوى والرغيف والسلاح ، يستسلم للأيدي الصغيرة وينفلق لها طوعا دون أزميل ، ومنه يتدفق شريان الحياة الآتية

      حنان الأغا
      13-1-1998

    • #2
      عضو غير مفعل
      تاريخ التسجيل : Mar 2006
      المشاركات : 219
      المواضيع : 14
      الردود : 219
      المعدل اليومي : 0.03

      افتراضي

      الله الله الفنانة المقتدرة حنان
      افلحت ايما فلاح فى رسم صورة فنية غير اعتيادية
      تخللها احساس بعلاقة الفرد بالأرض والوطن

      تخيلى انى لا استطع لأول مرة اكتب تعليقى كما اشعره من هذه القطعة الفنية الراقية !

      سأعاود التعليق بعد ما افكر جيدا بما تستحقه

      دام ابداعك

    • #3
      في ذمة الله
      تاريخ التسجيل : Nov 2006
      العمر : 76
      المشاركات : 674
      المواضيع : 101
      الردود : 674
      المعدل اليومي : 0.11

      افتراضي

      نظر إلى حيث تأتي الريح من جهة الغرب وقد اتخذ قرارا بالسير هبوطا ،ثم صعودا وهبوطا مرة أخرى ليصل هناك حيث يتقدس الحجر، فهو المأوى والرغيف والسلاح ، يستسلم للأيدي الصغيرة وينفلق لها طوعا دون أزميل ، ومنه يتدفق شريان الحياة الآتية
      أراني طفل في في انتفاضة الحجارة ، يستسلم في يدي الصغيرة حجر وينفلق من تلقاء نفسه طوعاً دون أزميل ، أطلقه علي غاصب حياتي فيتدفق شريان الحياة لمن سوف يأتي من بعدي
      كل قراءة احتمال
      رائعة يا حنان لك خالص تحياتي

    • #4
      قاص
      تاريخ التسجيل : Feb 2006
      المشاركات : 598
      المواضيع : 65
      الردود : 598
      المعدل اليومي : 0.09

      افتراضي

      الكعكة الحجرية لأمل دنقل ، والمقامة الحجرية لحنان الأغا ، مجرد خاطر تزاحم على رأسي وأنا أشاغب العنوان ، والذي يُهيأ آذاني لإستقبال عزفا موسيقيا ، عزف منفرد على مقام الحجارة في الأرض الطيبة ، عزف جميل من بلاد الزيتون تعزفه حنان على أوتار الحجارة ، فهو المأوى وهو الرغيف وهو السلاح ، هو إذن الحضارة ، هو في يد الصبية طيعا ، لينا ، وينطلق من آياديهم الطرية رصاصات تستقر في قلوب الغاصبين ، دانات وقنابل نابلم تحرق البرابرة ، هو الطريق إلى التحرير والمستقبل ، للحجارة في فلسطين شكل مختلف ، صارت رمزا ، صارت وصارت وصارت ، لحنا ، أغنية ، مقامة ، مقامة حجرية يعزفها الأدباء والفنانيين والشعراء والموسيقيين وكل أبناء الشعب الفلسطيني ، وما يأتي من الغرب لا يسُر القلب كما يقول المثل المصري وأكدته حنان في مقامتها ، فحل القضية ليس في يد الغرب ، فالرياح التي تأتي من هناك رياح سامة ، بغيضة ، قاتلة ، منحازة ، الحل عندنا ، في داخلنا ومن حضارتنا وبين أيدينا في الحجارة ، التي نصنع منها حياة ، وحضارة ، ونصرا مظفرا بإذن الله ، بورك فيك حنان كما بورك في الأقصى وما حوله وفي شجرة الزيتون ودعونا نردد قول الشاعر :
      أخي جاوز الظالمون المدى / وحق الجهاد وحق الفدا

    • #5
      الصورة الرمزية حنان الاغا في ذمة الله
      أديبة وفنانة

      تاريخ التسجيل : Nov 2006
      الدولة : jordan
      المشاركات : 1,378
      المواضيع : 91
      الردود : 1378
      المعدل اليومي : 0.22
      من مواضيعي

        افتراضي

        اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نهير محمد عبد الله الشيخ مشاهدة المشاركة
        الله الله الفنانة المقتدرة حنان
        افلحت ايما فلاح فى رسم صورة فنية غير اعتيادية
        تخللها احساس بعلاقة الفرد بالأرض والوطن
        تخيلى انى لا استطع لأول مرة اكتب تعليقى كما اشعره من هذه القطعة الفنية الراقية !
        سأعاود التعليق بعد ما افكر جيدا بما تستحقه
        دام ابداعك
        ___________________________
        أحييك نهير لهذا التعليق الذي أسعدني
        ليس لأنك امتدحت القصة فقط ، بل لأنني أحب البطل
        الحجر !
        شكرا وأهلا بك مع النص وكل نص دائما

      • #6
        الصورة الرمزية وفاء شوكت خضر أديبة وقاصة
        تاريخ التسجيل : May 2006
        الدولة : موطن الحزن والفقد
        المشاركات : 9,734
        المواضيع : 296
        الردود : 9734
        المعدل اليومي : 1.49

        افتراضي

        الأديبة / حنان الآغا ...

        اقشعر بدني ، وانتابتني حالة غريبة وأنا أقرأ النص ، والتعليقات التي تبعته ، فضيعت مني الكلمات ..
        قد قلنا عمن قدس الحجر ، وثني ..
        أترانا في وثنية ونحن نقدس هذا الحجر ؟؟
        بات هذا الحجر حشقنا الذي نتغنى به ..
        طوبا لذلك الحجر ..
        طوبا لحامله ..
        طوبا لمن كتبت عنه .

        جميلة أنت وكلماتك بجمال ذلك الوطن ، وعريقة بعراقة أشجار الزيتون ، وصلبة صامدة حنونة ، كحجارته .

        لك ودي واحترامي .
        //عندما تشتد المواقف الأشداء هم المستمرون//

      • #7
        الصورة الرمزية حنان الاغا في ذمة الله
        أديبة وفنانة

        تاريخ التسجيل : Nov 2006
        الدولة : jordan
        المشاركات : 1,378
        المواضيع : 91
        الردود : 1378
        المعدل اليومي : 0.22
        من مواضيعي

          افتراضي

          اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الشربينى خطاب مشاهدة المشاركة
          نظر إلى حيث تأتي الريح من جهة الغرب وقد اتخذ قرارا بالسير هبوطا ،ثم صعودا وهبوطا مرة أخرى ليصل هناك حيث يتقدس الحجر، فهو المأوى والرغيف والسلاح ، يستسلم للأيدي الصغيرة وينفلق لها طوعا دون أزميل ، ومنه يتدفق شريان الحياة الآتية
          أراني طفل في في انتفاضة الحجارة ، يستسلم في يدي الصغيرة حجر وينفلق من تلقاء نفسه طوعاً دون أزميل ، أطلقه علي غاصب حياتي فيتدفق شريان الحياة لمن سوف يأتي من بعدي
          كل قراءة احتمال
          رائعة يا حنان لك خالص تحياتي
          ____________________________
          الشربيني خطاب
          أيها المبدع
          سلمت روحك الوطنية الصادقة
          ردك يجعلني أحس أننا ما نزال بخير
          وأن عروبتنا تلغي الحواجز بين قضايانا لتصبح واحدة
          تحيتي لك

        • #8
          عضو غير مفعل
          تاريخ التسجيل : Mar 2006
          المشاركات : 219
          المواضيع : 14
          الردود : 219
          المعدل اليومي : 0.03

          افتراضي

          لم يكن الطبيب يعرف أن الحجارة هناك في قريته الجبلية الغافية في أحضان الضباب والتاريخ والزيتون ، لم يطعنها أزميل النحات وأنها تتطور وتتشكل وتتجسم وتتثقب دون أن تخضع لعمليات التعذيب . حجارتنا دافئة وحجارتكم صقيلة باردة
          ليصل هناك حيث يتقدس الحجر، فهو المأوى والرغيف والسلاح ، يستسلم للأيدي الصغيرة وينفلق لها طوعا دون أزميل
          الأخت المبدعة حنان
          لا أرانى افهم الأقصوصة كما فهما اآخرون
          اراك فيها راقية .. راقية !
          اراها علاقة الأنسان بالبيئة بحجرها وجدرانها وأشجارها وكل ما بها .
          كما تعطيها تعطيك بل حتى تشعر بك وتتشكل بك
          كنت اسمع دائما انه اذا احب شخصين بعضهما يأخذان نفس الملامح !

          وكيف يهون علينا ان نشوها بأيدينا ؟ أليست هى المأوى والسلاح والرغيف ؟

          هذا انسان رقيق لا يحتمل ان يكون طبيبا يشرح الناس ويمثل بالحجر الذى يعتبره جزء منه - هذا موهوب بالفطرة ستطوع يده الحجر ان مسته وطوعا ينصاع له الحجر فى اى موقف واى حال يحتاجه .. هو السلاح يدافع به عن نفسه ، وهو يشكله ليعيش منه ، وهو المأوى يحتمى فيه .
          يعطيه ما يريد ، وقتما شاء وكيفما شاء .. انه حقا البطل . ولذا وجب تقديسه .

          والأجمل العنوان : المقامة الحجرية " اى الحجارة المقدسة ! "

          ثانى مرة لا افلح فى التعبير عما اريد ان اقوله !!!

          حنان - انت مبدعة وكفــى !

        • #9
          الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
          في ذمة الله

          تاريخ التسجيل : May 2006
          الدولة : محارة شوق
          العمر : 64
          المشاركات : 3,523
          المواضيع : 160
          الردود : 3523
          المعدل اليومي : 0.54

          افتراضي

          اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حنان الاغا مشاهدة المشاركة
          المقامة الحجرية

          انتشر الخبر ، بل انفجر .. وحملت نثاره أشعة الشمس والنسمات الباردة ، وتلقته البيوت الطينية ببعض الحبور . اذ أن تراكمات الهموم وسنوات القهر جعلت الحذر والشك أول ما تبثه هذه العتبات المختبئة وراء الأشجار العتيقة ، والسلاسل المحملة بأغصان الكرمة اليابسة. عباس وصل . عباس رجع.
          عباس وهو يحمل حقيبة أوراقه ، سمع صدى الصوت يندفع الى أذنيه في دفقات متلاحقة مع هبات الريح القادمة من جهة الغرب.. هو لا يكاد يذكر كم من السنوات غابت صورة هذه الأشجار وتلك البيوت عن ناظريه.
          وضع عباس حقيبته على الأرض والتقط حجرا من تلك الحجارة الغريبة المسكونة بالزمن ، حجارة مخرمة كأنها جسد تلقى عشرات الطلقات فتكوم على نفسه بلا شكل محدد، أو قل كأنها جماجم التحمت معا فاختفت جل تفاصيلها وبقيت منها العيون المجوفة والأفواه الفاغرة .ولكن لم لا تحاول_ فكر عباس _ أن تنتقي الصورة الأجمل ، لم لا تقول أنها كنوز تعبق برائحة الزمن ، وتمتلىء بنسغ المكان؟ التاريخ والأجداد والأرض الطيبة هم الذين زرعوا هذه الزيتونات التي تثقبت جذوعها كما الحجارة فأصبحت الواحدة منها مأوى لمخلوقات كثيرة متفاوتة في الحجم ومختلفة في النوع . لطالما أحب هذه الأشجار واتخذها ملاذا يقيه الصهد والعيون ، ولطالما جمع تلك الحجارة وبنى منها اشكالا كانت بمثابة ممتلكات خاصة به .. لم يكن حينها يعي ما تقترحه هذه الأشكال ولكنه _على أي حال_ كان يقف لساعات يتأملها ، بل كان يقاتل من أجلها أقرانه الذين كانوا يسخرون منها ومنه، وكان يكفي أن يمد أحدهم ساقه ويلكزها بقدمه حتى تنهار أمامه ، فيلهث عباس وراءه محاولا الأمساك به عبثا ، ويعود أدراجه ليبني من جديد والدموع تتجمد في مآقيه. سيبنيها ذات يوم وستكون له ، ملكه ، ولن يستطيع أي مخلوق أن يهدمها .
          جلس عباس وهو ما زال يحمل الحجر بين راحتيه ، ثم استند بظهره الى واحدة من تلك الأشجار _ عجوز جاوزت المائتين_ وضع الحجر أمامه برفق كأنما هو رضيع يوسد مهدا ، ومسح بظهر يده دمعتين معلقتين بين أهدابه، وشرد بذهنه بعيدا ، هناك في تلك البلاد البعيدة المليئة بمقالع الرخام ، كان يرى الرجل يقسو على الحجر ، وكلما ازداد قسوة يعطيه الحجر من أعماقه الصلبة جمالا وكلما غاص أزميله في قلب الكتلة الحجرية كلما تفتق ذاك القلب حبا وابداعا!يا الله! كيف يكون هذا؟
          لم يكن يجرؤ على فعل ذلك .. كيف يضرب الحجر وكيف يطعنه في القلب ؟ كيف يقابل حبه قتلا ؟ كان يذهب الى المقالع يوميا ويتخيل أشكاله المفترضة تنفصل ، وتنزلق من الكتل العملاقة وتقترب منه ، وتقترب. أكثر..أكثر فيخاف ويصرخ هاربا.
          قال له الطبيب يوما أن مايكل انجيلو كان يرى اشخاصه قبل أن ينحتها تتحرك وتقفز من الكتل الهائلة ، وقال له في وقت آخر أنه سيصبح نحاتا عظيما مثله .. ابتسم عباس ، لم يكن الطبيب يعرف أن الحجارة هناك في قريته الجبلية الغافية في أحضان الضباب والتاريخ والزيتون ، لم يطعنها أزميل النحات وأنها تتطور وتتشكل وتتجسم وتتثقب دون أن تخضع لعمليات التعذيب . حجارتنا دافئة وحجارتكم صقيلة باردة.
          قالوا انه مجنون . فهو ينحت الحجر بعينيه . مجنون . وتدافعت صور كثيرة أمام ناظريه وتقافزت إلى ذاكرته المضطربة أحداث هاربة من اسار الزمان والمكان . أمسك عباس حقيبته التي تحمل شهاداته الطبية المصدقة حسب الأصول .. نظر إليها طويلا ، ثم فتحها .كانت الريح قد اشتدت واهتزت لها أشجار الزيتون العتيقة ، طارت الأوراق وحملتها الريح وبعثرتها .. ربما وصل بعضها إلى حيث بيت العائلة ، هو لا يعرف .
          نظر إلى حيث تأتي الريح من جهة الغرب وقد اتخذ قرارا بالسير هبوطا ،ثم صعودا وهبوطا مرة أخرى ليصل هناك حيث يتقدس الحجر، فهو المأوى والرغيف والسلاح ، يستسلم للأيدي الصغيرة وينفلق لها طوعا دون أزميل ، ومنه يتدفق شريان الحياة الآتية

          حنان الأغا
          13-1-1998

          ============

          أديبتنا الصادقة : حنان



          أول ما لفت نظري في هذه القصة المتميزة اللغة العالية المتفجرة التي كتبت بها
          منذ البداية :
          انتشر الخبر ، بل انفجر
          بما تحمل من حيوية وتشويق لهذا الخبر
          ثم هاهي الطبيعة تشارك في رسم المشهد :
          "وحملت نثاره أشعة الشمس والنسمات الباردة"
          في مفارقة بين أشعة الشمس بما توحي من حرارة
          والنسمات التي تدل على البرودة
          ومنهما تتولد الأحداث
          فهاهي البيوت الطينية تتلقى هذه الأشعة ببعض الحبور
          فالبيوت هنا كما الأشعة شخوص حقيقية لها مشاعرها مثلها مثل العتبات المختبئة، والأشجار العتيقة ، والسلاسل المحملة بأغصان الكرمة اليابسة.

          ثم يسلمنا هذا المشهد الكوني إلى بطلنا الإنسان:
          " عباس وصل . عباس رجع."
          وكأن هذا الهتاف نابع من الطبيعة والبيوت.

          وبين الوصول والرجوع:
          تتحرك القصة المقامة حركتها الوجدانية العميقة

          كل شيء هنا حي حتى :
          العجوز ذات المئتين خريفا
          والحجر الرضيع
          هذا الحجر الذي يشبه حجر مايكل انجلو حيث كان يطيل فيه التأمل ليصوغه فنا جميلا
          تماما كما صنعت كاتبتنا من المقامة الحجرية لوحة فنية إنسانية
          وقصة أدبية حميمة مثلما كان كل شيء هنا حميما مع عباس ومعنا.


          شكرا لك يا أستاذة حنان على هذه التحفة الغالية

          ألف شكر
          نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي ولريشة الغالية أهداب الشكر الجميل

        • #10
          الصورة الرمزية حنان الاغا في ذمة الله
          أديبة وفنانة

          تاريخ التسجيل : Nov 2006
          الدولة : jordan
          المشاركات : 1,378
          المواضيع : 91
          الردود : 1378
          المعدل اليومي : 0.22
          من مواضيعي

            افتراضي

            الأديب الأخ مجدي محمود جعفر
            بارك الله فيك
            سأعترف أنني استمتعت بقراءة ردك
            لم أدهش أبدا للحس الوطني الصادق والعربي المستنير الذي حملته حروفك
            وذكرني هذا بأيام كانت الروح العربية تخترق أجواء الكون
            وتقطع بحاره ومحيطاته
            وتجوس رمال صحاريه الممتدة
            وأهمس لك بسر
            الرياح التي كان عباس يتوجه باتجاهها غربا هي غربنا هنا ، البحر المتوسط ، الوطن المغتصب ، فلسطين .
            ولكن رياحك الغربية أيضا تحمل المعنى المضمر دائما وهو صحيح
            الغرب وما يأتينا منه من رياح سموم
            أبدعت بالرد
            شكرا لك ولمشاغبتك عنواني

          صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

          المواضيع المتشابهه

          1. المَقامة العجيبة في عائلة غالي الغريبة
            بواسطة أحمد فؤاد في المنتدى الأَدَبُ السَّاخِرُ
            مشاركات: 13
            آخر مشاركة: 01-07-2018, 10:30 PM
          2. الكتب السماوية والكتب الحجرية ...للشربينى الاقصرى .
            بواسطة الشربينى الاقصرى في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
            مشاركات: 0
            آخر مشاركة: 25-11-2014, 01:59 AM
          3. (المقامة الهذيانية)...!!
            بواسطة يوسف الحربي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
            مشاركات: 8
            آخر مشاركة: 30-05-2007, 11:43 PM
          4. المقامة الكويتية
            بواسطة أبو القاسم في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
            مشاركات: 2
            آخر مشاركة: 27-10-2004, 11:00 PM
          5. المقامة الذرية
            بواسطة أبو القاسم في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
            مشاركات: 2
            آخر مشاركة: 27-01-2003, 11:48 PM