مقال للكاتب و الصحفي المغربي بلال التليدي
نقد مقولة "الإسلام هو الحل"
"الإسلام هو الحل" كان هذا هو الشعار الذي تلقيناه من التجربة الحركية الإخوانية، وكنا إذ نتدارس الاختيارات الفكرية والسياسية المطروحة في الساحة، لا يساورنا شك في أن ما عندنا من أسس ومنطلقات هو الكفيل بخروج الأمة من مأزقها.
وكنا ننظر إلى الآخرين بعين الإشفاق، إذ حرموا أنفسهم من الانطلاق من عقيدة هذه الأمة وقاعدتها المرجعية، وكان الشعور بالتعالي والتميز هو الذي يطبع أطروحاتنا النظرية وسلوكنا السياسي.
"
انبعثت مقولة الإسلام هو الحل كأرضية تعبوية نهضوية، تلفت الأمة إلى منطلقها الإستراتيجي وثوابتها المرجعية وتؤسس لخياراتها المتميزة
"
وزاد في تأكيد هذا التوجه نظرتنا للمشروع المجتمعي الذي كنا نبشر به، إذ لم تنقطع كتابات تؤسس لعقلية الانعزال والانفصال عن نمط الحياة الذي يعيشه أفراد المجتمع، منطلقة من مفهوم العزلة الشعورية الذي نحته الشهيد سيد قطب.
وغلب على كتابات عديدة الحديث عن المستقبل للإسلام عقب كل مقاربة ومناظرة، وقد كان القصد من ذلك تبرير الانسجام ما بين الشعار المؤسس للعمل وبين الخلاصة المستنتجة من كل دراسة وتحليل.
لم يكن العقل الإسلامي حينها معنيا بالقدر الكافي بالنقاش الأصولي الذي يميز بين النص الشرعي وبين فهمه، أو بين المراد الإلهي وبين الاجتهاد في تحصيله.
كان الإسلام حينها يعني قيم الدين ومقاصده، واجتهادات العلماء، والتجربة التاريخية الإسلامية.. كان الإسلام يتضمن كل هذا الرصيد الهائل الذي يشمل ما يتوافق مع مقصود الشرع، وما يختلف، وما يتعارض.
وكان العقل الإسلامي الحركي في كثير من الأحيان معنيا بالدفاع عن اجتهادات مرجوحة، انطلقت من تغليب فهم من الفهوم عند النظر إلى نص ظني الدلالة، أو حققت المناط بشكل لا يستقيم مع موارد النازلة، أو بنت حكمها بناء على مآل لا يتصور بالضرورة "سد الذرائع"، وفي بعض الأحيان كان الفقه الإسلامي -السياسي منه على الخصوص- مناصرا لصور من الاستبداد في التاريخ الإسلامي.
لم يكن التمييز بين الموارد في الحقل الإسلامي حاضرا بشكل كبير، إذ كان ينظر لمثل هذا التمايز -على الأقل من طرف نخبة من مثقفي هذه الأمة- وكأنه تأسيس لعلمنة فكرية وثقافية سرعان ما ستهدد كل الحصون، وتنحي الدين من مواقعه الرئيسية.
وفي هذا الإطار وضمن هذه الخلفية انبعثت مقولة "الإسلام هو الحل" كأرضية تعبوية نهضوية، تلفت الأمة إلى منطلقها الإستراتيجي وإلى ثوابتها المرجعية، وتؤسس لاختياراتها المتميزة، وتفاضل بين رؤيتها الفلسفية والمنظور الغربي المستحكم.
في هذا السياق إذن، طرحت هذه المقولة وهذا الشعار ليكون عنوان عمل وأرضية برنامج حركي يهدف إلى التغيير، في حين لم تكن اللحظة تسمح بالحديث عن البرامج والاختيارات التفصيلية.
"
ما دام أمر السياسة والاقتصاد متعلقا بالاجتهاد، فشعار الإسلام هو الحل يبقى طرحا عاما لا يسعف في بيان المقصود، وقد يربك العقول ويجعلها تخلط بين الإسلام كدين وكمقاصد وبين الاجتهاد البشري المنطلق منه
"
فالنخبة السائدة والمتحكمة هي التي تملك السلطة ومؤسساتها وآليات تجديدها، والحركة الإسلامية التي طرحت ذلك الشعار لم تكن في أحسن أحوالها سوى نخبة فكرية ريادية، تحاول أن تنغرس في الشعب وتتجذر داخل شرائحه، وهي بالضرورة تتوسل من أجل ذلك آليات متعددة في الدعوة والحركة والعمل الاجتماعي والسياسي والإعلامي.
إنها بعبارة واضحة، كانت تبحث عن "الخطاب" وتنحت مفرداته، وتضم بعضها لبعض، لتظهر في النهاية ملامحه الكبرى. وطبيعي أن أي خطاب إنما يتشكل ابتداء بالشعار.
"الإسلام هو الحل" مقولة فكرية فيها كثير من اللبس والغموض، فهي تفتح الباب واسعا لطرح السؤال، خاصة في حقل التدبير السياسي والاقتصادي، إذ إن الإسلام لا يقدم بخصوص هذه الموارد سوى مبادئ عامة ومقاصد كلية يمكن للاجتهاد البشري أن ينطلق منها ليفرع مئات الجزئيات والتفاصيل، حتى يكون الاختيار والبرنامج السياسي والاقتصادي أقرب إلى تحقيق مقصود الشرع.
قد ترد في بعض النصوص أحكام تفصيلية لبعض الجزئيات والوقائع، غير أنها بالنظر إلى الكم الهائل من القضايا المستجدة التي تنتظر تأطيرا شرعيا، تبقى نادرة لا يمكن أن نبني عليها حكما عاما.
وقديما دار نقاش أصولي حاد حول محدودية النصوص ولاتناهي الوقائع، ولم يكن لرأي ابن حزم في المسألة وجاهة، وإن كانت بعض تكلفاته في اجتهاداته الفقهية في كتابه المحلى، تصور النصوص وكأنها محيطة بكل الوقائع على سبيل التفصيل.
والذي ترجح وتحقق بدليل الاستقراء، أن النصوص مستوعبة لكل الوقائع من حيث الإجمال، إذ الوقائع كلها تندرج ضمن الأصول العامة والمقاصد الكلية. أما على سبيل التفصيل فالقول بذلك وهم وادعاء يضر بالنصوص من حيث يريد أن يخدمها.
وللدكتور أحمد الريسوني في هذا المقام كلام محقق، إذ يرى في كتابه نظرية المقاصد أن المصالح المرسلة إنما هي مرسلة لاعتبار عدم التنصيص التفصيلي عليها، أما من حيث اندراجها ضمن القواعد العامة التي تؤصلها الآيات الكريمة مثل "إن الله يأمر بالعدل والإحسان.." فليست هناك مصلحة مرسلة بهذا الاعتبار.
وحيث إن الأمر بهذا الوضوح فالاجتهاد في حقل السياسة والاقتصاد مرجعه النظر والتقدير العقلي، وفهم الواقع ضمن القواعد العامة للشريعة ومقاصدها. وما دام الأمر متعلقا بالاجتهاد، وما دامت موارده مفتوحة لكل العقول، فشعار "الإسلام هو الحل" يبقى طرحا عاما لا يسعف في بيان المقصود، وقد يربك العقول ويجعلها تخلط بين الإسلام كدين وكمقاصد وبين الاجتهاد البشري المنطلق منه.
"
الكسب السياسي المؤقت الذي ستربحه الحركة الإسلامية من توظيفها الآني لشعار الإسلام هو الحل لا يهم، إنما الأهم هو القوة الجماهيرية وحجم العلاقات التي تنسجها مع المكونات الأخرى
"
وحينها يصبح هذا الشعار بغير مضمون، خاصة في حقل النظر والتدبير السياسي، إذ إن العقل الاجتهادي الذي ينسب اجتهاده إلى الإسلام ويحتكر بذلك الصفة الإسلامية يجوز أن لا يبصر مقاصد الشرع، ويجوز أن يفقد الصواب، وحينها يضيع الكسب السياسي ويسيء إلى الإسلام حين يقدم اجتهاده بمنطق المطابقة.
والمطابقة بين الإسلام والاجتهاد في فهمه أمر غير مطرد، فالاجتهاد قد ينطلق من فهم غير صحيح للنص الشرعي، وقد يخطئ القراءة السليمة للواقع، وقد تختل منهجية التنزيل وتحقيق المناط.
وإذاك تصبح عملية التماهي بين المراد الإلهي وبين الفهم البشري ذات خطورة بالغة، إذ ينسب الخطأ في الاجتهاد إلى الدين، فيعود هذا الأمر على شعار "الإسلام هو الحل" بالإبطال.
فإذا ما ساوينا على سبيل الافتراض بين الاجتهاد الذي نقدمه للنص الشرعي، وبين الإسلام في مقاصده وقواعده، وإذا اجتهد العقل الإسلامي في إقناع الناس بأن ذاك الاجتهاد هو عين الإسلام وتبين بعد ذلك أن لهذا الاختيار نتائج كارثية على المجتمع، أو على الأقل لم يحقق ما أمله الناس فيه، فالضرر لا يصيب الحركة الإسلامية وكسبها الاجتهادي والسياسي فحسب، وإنما يعود على الإسلام كله، فتضعف بذلك قناعة الناس به كمصدر للتشريع، وتقوى حجج العلمانيين القاضية بضرورة فصل الدين عن السياسة.
وعملية المطابقة هذه بين الفهم البشري للنص وبين الإسلام ومقاصده، تطرح مشكلة احتكار الحديث والاجتهاد باسم الدين، وهي معضلة خطيرة ما زالت تجثم على العقل المسلم.
والواقع أن دعاوى العلمانيين في هذا الباب وانتقاداتهم للحركة الإسلامية ليست عارية من كل صحة، خاصة أن التجربة الغربية شاخصة بدلالاتها وتداعياتها.
ولعل صور الاستبداد والتحكم التي مورست باسم النص الديني قد تفزع هذه الأطراف حين ترى مكونات من الحركة الإسلامية تقدم اجتهادها على أساس أنه الدين، وأنه هو المراد الإلهي الذي أمرنا بتحصيله واتباعه.
صحيح أن الحركة الإسلامية في مكوناتها الكبرى لا تطرح مثل هذه التصورات ولا تقتنع بمثل هذه القناعات والأفكار في أدبياتها وحتى في سلوكها السياسي، غير أن الشعار يبقى معبرا عن طبيعة الرؤية ومنهج العمل.
يكون مناسبا أن يكون هذا الشعار عنوان مشروع للأمة بكل مكوناتها وأطيافها، ولا يستقيم بالنظر إلى إحالاته المفهومية والسياسية أن يكون عنوان فئة معينة أو مكون واحد.
حينها ووسط الفرز السياسي، ينظر الطرف المغاير والمخالف إلى نفسه وكأنه ينازل مضمون هذا الشعار ويضع بذلك نفسه خصيما للدين، وتلك معضلة كبرى قد تجلب من الخصومات على الحركة الإسلامية أكثر مما قد تكسبها من قوة جماهيرية تتعبأ وراء جاذبية الشعار وقوته السياسية.
لا يهم إذن الكسب السياسي المؤقت الذي ستربحه الحركة الإسلامية من جراء توظيفها الآني لهذا الشعار، إنما الأهم بالنظر الإستراتيجي ليس فقط هو القوة الشعبية الجماهيرية، وإنما أيضا حجم العلاقات التي تنسجها هذه الحركة مع المكونات الأخرى، وطبيعة السلوك الذي يتعامل به معها من رف دوائر صناعة القرار والنخبة الاقتصادية، ومراكز الضغط الخارجي.
"
مطلوب أن نطهر خطاباتنا -وبدرجة أكبر شعاراتنا- من كل نفس قد يلمس فيه الإقصاء واحتكار الحديث والاجتهاد باسم الدين
"
وليس خافيا أن تجارب عديدة إنما أجهضتها قوة الخطاب الذي التفت إلى البعد الجماهيري وأغفل عناصر أساسية في معادلة التمكين، فكان أن ضاعت الجماهير وفقد المشروع الإسلامي إشعاعه، وتراجعت مواقع الحركة الإسلامية إلى الخلف، في حين تقدمت الأطروحات العملية ذات المرجعية الإسلامية، واستطاعت أن تؤسس لنفسها تجربة معتدلة تنساب بهدوء وتحقق قانونيا وسياسيا وحتى بالمقياس الجماهيري مكاسب عديدة على الأرض.
والمتأمل في رصيد التجربة الحركية الإسلامية وكسبها السياسي، لا يمكن أن يزيح من الحساب مثل هذه الخلاصات المهمة التي قد تفيد في إنضاج الخطاب وتسديد السلوك السياسي وتصويبه وترشيده.
مطلوب من الحركة الإسلامية أن تقدم اجتهادها على أساس أنه إمكانية واحدة للفهم من موارد الشريعة، لأن نصوص الشرع يتسع فضاؤها لإمكانات متعددة، ولأنه لا يضير هذه الحركة أن تتعدد الاجتهادات من داخل النص الديني، ما دامت تنطلق من المرجعية الإسلامية.
وإذا نجحت هذه الحركة في أن تقنع الشعب والنخب أنها إنما تقدم اجتهاداتها واختياراتها النسبية، وأنه يجوز في حقها الخطأ كما يحتمل الصواب، فإنها تكون بذلك قد أسهمت في مراجعة نقدية لمقولة "الإسلام هو الحل"، وأسست لأرضية التوافق بين فعاليات المجتمع وفرقائه السياسيين.
فكم من حاجز أقيم، وكم من إمكانات للحوار والتواصل أجهضت من هذا الباب، إذ تقرأ مجموعة من النخب أدبيات الحركة الإسلامية وخطابها السياسي، وتلمس فيه بعض نزعات الإقصاء، فترفض الجلوس للحوار فضلا عن الحديث عن التقارب والتنسيق.
وحين تقتنع الأطراف الأخرى أن الحركة الإسلامية إنما تقدم اجتهادا إلى جانب اجتهاداتها، وأنه لا يميزها عن غيرها سوى أنها قد اتخذت من المرجعية الإسلامية منطلقا لإبداع اختيارها، حينها تتغير الرؤى وتتأسس أرضية حقيقية للحوار البناء.
هذه رؤية منفتحة لا تتنازل عن المرجعية الإسلامية وعن أسسها المنهجية، غير أنها تنضبط للصرامة الأصولية، وتفسح المجال لكل ناظر في موارد الشريعة أن يدلي بدلوه، وأن يسهم باجتهاده لتحصيل المراد الإلهي المثبث في النص الشرعي. وهي دعوة لكل الأطراف أن تنطلق من ذات المرجعية وأن تشحذ آلتها الذهنية، وتفجر إبداعها للوصول إلى أفضل الاختيارات والبرامج التي يمكنها أن تقود هذه الأمة إلى نهضتها ويقظتها.
مطلوب إذن وضمن هذا النسق، أن نطهر خطاباتنا، وبدرجة أكبر شعاراتنا، من كل نفس قد يلمس فيه الإقصاء واحتكار الحديث والاجتهاد باسم الدين.
ولعل الكسب يكون كبيرا لو انبرت مكونات هذه الأمة لتنطلق من المرجعية الإسلامية، وتنافس الفاعل السياسي الإسلامي على مستوى البرامج والاختيارات، وينطلق بذلك حراك سياسي وثقافي يغني التجربة ويثريها، ويسهم في خلق ديناميكية ضرورية لكل تنمية شاملة.
__________