لقاء في البعد السابع
نظر إلى ساعته الأنيقة ورفع رأسه ثم نظر إلى أمه ، وأخذ نفسا عميقا مصحوبا بحركة طفولية ارتسمت على الوجه الأسمر، فالحاجبان ارتفعا قليلا والفم ضمت شفتاه كأنما تحاولان حبس ابتسامة مشاكسة فكادتا تختفيان بين الشاربين وشعر اللحية الكثيف الذي علقت بنهاياته قطرات من الماء نسي أن يجففها فأخذت تلتمع بفعل تسربات ضوئية خارجية.
-الطعام ليس شهيا. يبتسم ابتسامته الماكرة بينما ترمقه أمه بنظرة معاتبة :
- لم يعد طعامي يعجبك ! فيضحك عاليا :
-يجب أن أذهب ، هذا هو السبب . فتضحك أمه ويستأنف:
- و.. لكنه ليس شهيا . تهم والدته بتسديد لكمة إلى صدره مداعبة ، فيتفاداها ويسرع خارجا من غرفة الطعام وهو يصفر لحنا من زمن مضى .وقبل أن يصل إلى باب الخروج أطل برأسه قليلا من باب غرفة الاستقبال لدى سماعه أصواتا وضحكات تنبعث منها ولكن أحدا لم يلحظه.دارت حدقتاه الصغيرتان الحادتان بنظرة سريعة مستعرضة تلك الوجوه الموضوعة بأناقة فوق أجسادها .. وجه واحد فقط استوقفه . شعر بأن خيوطا من حرير غير مرئية تشده إلى الداخل فتنحنح،وانتبهت شقيقته ومنحته ابتسامة مشجعة أن ادخل فدخل.
" الحمد لله على السلامة ".ترددت هذه العبارة في إيقاع متداخل النغمات صادر من صديقات أخته اللواتي يعرفنه منذ كان الجميع أطفالا يلعبون في حديقة البيت التي تشبه غابة صغيرة ترعاها الطبيعة ولمسة أمه الحانية التي لم تستطع يوما أن تقطع نبتة تطل برأسها من رحم الأرض حتى لو لم تكن للتذوق أو للشم أو للزينة .. فنمت أشجار الصنوبر السامقة إلى جانب شجيرات البيلسان ذات الزهيرات البيضاء المائلة للصفرة المتجمعة على شكل راحة اليد ،وبينهما تختلط روائح الورد والياسمين وأشتال النعناع والزعتر. ياألله .. تلك الرائحة لماذا يستحضرها الآن؟
تسحبه من حيث ذهب، اللحظة التي أضاعته ليصافح بقلبه هذا الوجه الذي يحس أنه يعرفه أكثر من كل الوجوه الموجودة هنا ..متى؟ وأين ؟ ومن ؟ من زمان .. ربما منذ بدء الخليقة .عادت روحه إلى مكمنها حين استقرت يدها في يده أو يده في يدها لا فرق ، فإذا به ينسحب من جديد إلى أغوار زمن سحيق ، غرق في العينين ولم ينقذه سوى صوتها .. عزفها المنفرد وتلك الرائحة ، وهي تسحب يدها بكياسة حازمة : أهلا .
ها هي شقيقته تتولى التعريف ولكن من يريد تعريفا؟ هو الآن لا يعرف في الغرفة سواها .. من هي ؟تذكر كل ما قرأه عن التناسخ والتقمص والتخاطر وأمور مشابهة خارجة عن دوائر إدراكه الواعي ، هل هي حقيقة؟ لم لا ؟ ها هي أمامه ، ملامحها المنحوتة في أعماقه ، نظرتها المنقوشة في قرار عينيه، ولمسة يدها التي لا بد تركت آثارا مطبوعة على راحة يده منذ زمن غابر .. وها هو يشم رائحة عطرها الغابيّ كرائحة حديقة أمه ..
-ماذايا أستاذ ؟أينك؟ماذا اكتشفت؟ إلهاما جديدا؟
ضربت هذه العبارات سمعه إلى أن تسلل إلى روحه عزفها المنفرد : ألن تجلس؟ وكاد يلتقط بعينيه نظرتها المرتبكة . جلس دون أن ينتبه ، وشاهد لقطة جانبية لوجهها مؤطرا ومفصولا ومنعزلا عما حوله .. وجه من عالم آخر مضى أو لماّ يأت بعد .تمنى لو يملك القدرة على الوقوف فوق ركبتيه المرتجفتين ليحضر لوحة وألوانا .. أحس بأنه يريد أن يرى العينين، فلم يدر كيف جلس قبالتها مكبلا أكثر بخيوط الحرير .. من أنت ؟ وألحّت عيناه فالتفتت إليه ، وتلقى انسكاب النظرة المتسائلة بألفة وحرج .
- ماذا تريد؟ أنا أعرفك ولكن .. من أنت ؟فيم تحديقك الذي يحرجني ؟وتجيب عيناه :
- بل من أنت ؟ يجب أن تعرفيني أرجوك ..ساعديني كي أتذكر ، لا تتجاهليني .. في أي مكان أو زمان التقينا؟ في أي بعد خارج الأبعاد؟ ربما في البعد السادس أو السابع ؟!!
زجرته بنظرة سريعة ومدت يدها إلى حقيبتها الصغيرة ثم وقفت وقد حددت حول شفتيها ابتسامة فشلت في إخفاء قلقها وحيْرتها .. اعذروني ، لا بد أن أذهب لأن حفلا فاخرا ينتظرني في البيت.. إنها الذكرى السادسة لزواجنا