السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم و الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين 0
اعلم أن التوبة ترك الذنب ، ولا يمكن ترك الشىء إلا بعد معرفته ، وإذا كانت التوبة واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجبا ، فمعرفة الذنوب إذن واجبة ، والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل ، وتفصيل ذلك يستدعى شرح التكليفات من أولها إلى آخرها . وليس ذلك من غرضنا ، ولكنا نشير إلى مجامعها وروابط أقسامها ، والله الموفق للصواب برحمته.
بيان أقسام الذنوب بالإضافة إلى صفات العبد
اعلم أن للإنسان أوصافا وأخلاقا كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب وغوائله ، ولكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات : صفات ربوبية ، وصفات شيطانية ، وصفات بهيمية ، وصفات سبعية . وذلك لأن طينة الإنسان عجنت من أخلاط مختلفة فاقتضى كل واحد من الأخلاط في المعجون منه أثرا من الآثار كما يقتضى السكر والخل والزعفران في السكنجبين[21] آثارا مختلفة فأما ما يقتضى النزوع إلى الصفات الربوبية فمثل الكبر والفخر والجبرية وحب المدح والثناء والغنى وحب دوام البقاء وطلب الاستعلاء على الكافة حتى كأنه يريد أن يقول : أنا ربكم الأعلى ، وهذا يتشعب منه جملة من كبائر الذنوب غفل عنها الخلق ، ولم يعدوها ذنوبا وهى المهلكات العظيمة التى هى كالأمهات لأكثر المعاصي كما استقصيناه في ربع المهلكات ( الثانية ) : هى الصفة الشيطانية التى منها يتشعب الحسد والبغى والحيلة والخداع والأمر بالفساد والمكر وفيه يدخل الغش والنفاق والدعوة إلى البدع والضلال . ( الثالثة ) : الصفة البهيمية ومنها يتشعب الشره والكلب والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج ، ومنه يتشعب الزنا واللوط والسرقة وأكل مال الأيتام وجمع الحطام لأجل الشهوات . ( الرابعة ) : الصفة السبعية ، ومنها يتشعب الغضب والحقد والتهجم على الناس بالضرب والشتم والقتل واستهلاك الأموال ، ويتفرع عنها جمل من الذنوب ، وهذه الصفات لها تدريج في الفطرة ، فالصفة البهيمية هى التى تغلب أولا ثم تتلوها الصفة السبعية ثانيا ، ثم إذا اجتمعا استعملا العقل في الخداع والمكر والحيلة وهى الصفة الشيطانية ، ثم بالآخرة تغلب الصفات الربوبية وهى الفخر والعز والعلو وطلب الكبرياء ، وقصد الاستيلاء على جميع الخلق ، فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ثم تنفجر الذنوب من هذه المنابع على الجوارح ، فبعضها في القلب خاصة كالكفر والبدعة والنفاق وإضمار السوء للناس وبعضها على العين والسمع ، وبعضها على اللسان ، وبعضها على البطن ، والفرج ، وبعضها على اليدين والرجلين ، وبعضها على جميع البدن ، ولا حاجة إلى بيان تفصيل ذلك فإنه واضح . قسمة ثانية : اعلم أن الذنوب تقسم إلى ما بين العبد وبين الله تعالى وإلى ما يتعلق بحقوق العباد . فما يتعلق بالعبد خاصة كترك الصلاة والصوم والواجبات الخاصة به ، وما يتعلق بحقوق العباد ، كتركه الزكاة وقتله النفس وغصبه الأموال وشتمه الأعراض وكل متناول من حق الغير ، فإما نفس أو طرف أو مال أو عرض أو دين أو جاه ، وتناول الدين بالإغواء والدعاء إلى البدعة والترغيب في المعاصى وتهييج أسباب الجراءة على الله تعالى كما يفعله بعض الوعاظ بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف ، وما يتعلق بالعباد فالأمر فيه أغلظ ، وما بين العبد وبين الله تعالى إذا لم يكن شركا فالعفو فيه أرجى وأقرب ، وقد جاء فى الخبر ، الدواوين ثلاثة : ديوان يغفر ، وديوان لا يغفر ، وديوان لا يترك ؛ فالديوان الذي يغفر : ذنوب العباد بينهم وبين الله تعالى . وأما الديوان الذي لا يغفر : فالشرك بالله تعالى . وأما الديوان الذي لا يترك : فمظالم العباد[22] ؛ أي لا بد وأن يطالب بها حتى يعفى عنها . قسمة ثالثة : اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر ، وقد كثر اختلاف الناس فيها ، فقال قائلون : لا صغيرة ولا كبيرة ، بل كل مخالفة لله فهى كبيرة ، وهذا ضعيف ، إذ قال تعالى : ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ﴾ ( النساء : 31 ) . وقال تعالى : ﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾ ( النجم : 32) وقال صلى الله عليه وسلم : (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر ))[23] وفى لفظ آخر : (( كفارات لما بينهن إلا الكبائر )) وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص : (( الكبائر : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس ))[24] . واختلف الصحابة والتابعون في عدد الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع إلى إحدى عشرة فما فوق ذلك ، فقال ابن مسعود : هن أربع . وقال ابن عمر : هن سبع . وقال عبد الله بن عمرو : هن تسع . وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر الكبائر سبع يقول : هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع . وقال مرة :كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة . وقال غيره : كل ما أوعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر . وقال بعض السلف : كل ما أوجب عليه الحد فى الدنيا فهو كبيرة . وقيل : إنها مبهمة لا يعرف عددها كليلة القدر وساعة يوم الجمعة . وقال ابن مسعود لما سئل عنها : اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾ ( النساء : 31 ) فكل ما نهى الله عنه فى هذه السورة إلى هنا فهو كبيرة . وقال أبو طالب المكى : الكبائر سبع عشر جمعتها من جملة الأخبار [25]. وجملة ما اجتمع من قول ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم : أربعة في القلب وهى : الشرك بالله ، والإصرار على معصيته ، والقنوط من رحمته ، والأمن من مكره . وأربع في اللسان وهى : شهادة الزور ، وقذف المحصن ، واليمين الغموس ؛ وهى التى يحق بها باطلا أو يبطل بها حقا ، وقيل : هى التى يقتطع بها مال أمرىء مسلم باطلا ولو سواكا من أراك ، وسميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار . والسحر ؛ وهو كل كلام يغير الإنسان وسائر الأجسام عن موضوعات الخلقة . وثلاث في البطن وهى : شرب الخمر ، والسكر من كل شراب ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وأكل الربا وهو يعلم . واثنتان في الفرج وهما : الزنا ، واللواط . واثنتان في اليدين وهما : القتل ، والسرقة . وواحدة في الرجلين وهى : الفرار من الزحف . الواحد من اثنتين والعشرة من العشرين . وواحدة في جميع الجسد وهى : عقوق الوالدين ، قال : وجملة عقوقهما أن يقسما عليه في حق فلا يبر قسمهما ، وإن سألاه حاجة فلا يعطيهما ، وأن يسباه فيضربهما ، ويجوعان فلا يطعمهما : هذا ما قاله وهو قريب ، ولكن ليس يحصل به تمام الشفاء ، إذ يمكن الزيادة عليه والنقصان منه ، فإنه جعل أكل الربا ومال اليتيم من الكبائر ، وهى جناية على الأموال ولم يذكر في كبائر النفوس إلا القتل ، فأما فقء العين وقطع اليدين وغير ذلك من تعذيب المسلمين بالضرب وأنواع العذاب فلم يتعرض له ، وضرب اليتيم وتعذيبه ، وقطع أطرافه لا شك في أنه أكبر من أكل ماله ، كيف وفي الخبر (( من الكبائر السبتان بالسبة ، ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم ))[26] وهذا زائد على قذف المحصن . وقال أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة : إنكم لتعملون أعمالا هى أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر[27] . وقالت طائفة : كل عمد كبيرة ، وكل ما نهى عنه فهو كبيرة وكشف الغطاء عن هذا أن نظر الناظر في السرقة أهى كبيرة أم لا : لا يصح ، ما لم يفهم معنى الكبيرة ، والمراد بها كقول القائل : السرقة حرام أم لا ؟ ولا مطمع في تعريفه إلا بعد تقرير معنى الحرام أولا ، ثم البحث عن وجوده في السرقة ، فالكبيرة من حيث اللفظ مبهم ليس له موضوع خاص في اللغة ولا في الشرع ، وذلك لأن الكبير والصغير من المضافات ، وما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه ، وصغير بالإضافة إلى ما فوقه ، فالمضاجعة مع الأجنبية بالاضافة إلى النظرة صغيرة بالإضافة إلى الزنا ، وقطع يد المسلم كبيرة إلى ضربة صغيرة بالاضافة إلى قتله . نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار على فعله خاصة اسم الكبيرة ، ونعنى بوصفه بالكبيرة : أن العقوبة بالنار عظيمة ، وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه مصيرا إلى أن ما عجل عليه في الدنيا عقوبه واجبة عظيم ، وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهى عنه فيقول : تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه ، ثم يكون عظيما وكبيرة لا محالة ، بالاضافة إذ منصوصات القرآن أيضا تتفاوت درجاتها ، فهذه الإطلاقات لا حرج فيها ، وما نقل من ألفاظ الصحابه يتردد بين هذه الجهات ولا يبعد تنزيلها على شىء من هذه الاحتمالات ، نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تعالى : ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ ( النساء : 31 ) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الصلوات كفارات لما بينهن إلا الكبائر )) فإن هذا إثبات حكم الكبائر ، والحق في ذلك أن الذنوب منقسمة في نظر الشرع إلى ما يعلم استعظامه إياها ، وإلى ما يعلم إنها معدودة في الصغائر ، وإلى ما يشك فيه ، فلا يدرى حكمه ، فالطمع في معرفة حد حاصر أو عدد جامع مانع طلب لما لم يمكن ، فإن ذلك لا يمكن إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إني أردت بالكبائر عشرا أو خمسا ويفصلها فإن لم يرد هذا بل ورد في بعض الألفاظ (( ثلاث من الكبائر ))[28] وفي بعضها (( سبع من الكبائر ))[29] ثم ورد أن (( السبتين بالسبة الواحدة من الكبائر )) وهو خارج عن السبع والثلاث : علم أنه لم يقصد به العدد بما يحصر ، فكيف يطمع في عدد ما لم يعده الشرع ؟ وربما قصد الشرع ابهامه ليكون العباد منه على وجل ، كما أبهم ليلة القدر ليعظم جد الناس في طلبها ، نعم لنا سبيل كلى يمكننا ان نعرف به أجناس الكبائر وأنواعها بالتحقيق . وأما أعيانها فنعرفها بالظن والتقريب ، ونعرف أيضا أكبر الكبائر ، فأما أصغر الصغائر فلا سبيل إلى معرفته ، وبيانه أنا نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعا أن مقصد الشرائع كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائه ، وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وكتبه ورسله ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ ( الذاريات : 56 ) أي : ليكونوا عبيد لى ، ولا يكون العبد عبدا ما لم يعرف ربه بالربوبية ، ونفسه بالعبودية ، ولا بد أن يعرف نفسه وربه ، فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبياء ، ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا ، وهو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام : (( الدنيا مزرعة الآخرة ))[30] . فصار حفظ الدنيا أيضا مقصودا تابعا للدين لأنه وسيلة إليه والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان : النفوس والأموال ، فكل ما يسد باب معرفة الله تعالى فهو أكبر الكبائر ، ويليه ما يسد باب حياة النفوس ، ويليه باب ما يسد المعايش ، التى بها حياة الناس . فهذه ثلاث مراتب فحفظ المعرفة على القلوب ، والحياة على الأبدان ، والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها ، وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل ، فلا يجوز أن الله تعالى يبعث نبيا يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ، ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله ، أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال ، فحصل من هذا أن الكبائر على ثلاث مراتب ، ( الأولى ) : ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر ، فلا كبيرة فوق الكفر ، إذ الحجاب بين الله وبين العبد هو الجهل ، والوسيلة المقربة له إليه هو العلم والمعرفة وقربة بقدر معرفته ، وبعده بقدر جهله ، ويتلو الجهل الذي يسمى كفرا الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته ، فإن هذا أيضا عين الجهل ، فمن عرف الله لم يتصور أن يكون آمنا ، ولا أن يكون آيسا ، ويتلو هذه الرتبة : البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله وبعضها أشد من بعض ، وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه بأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه ، ومراتب ذلك لاتنحصر وهى تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن . وإلى ما يعلم أنه لا يدخل وإلى ما يشك فيه ، وطلب دفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع . ( المرتبة الثانية ) : النفوس إذ ببقائها وحفظها تدوم الحياة وتحصل المعرفة بالله ، فقتل النفس لا محالة من الكبائر ، وإن كان دون الكفر ، لأن ذلك يصدم عين المقصود وهذا يصدم وسيلة المقصود ، إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى ، ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف ، وكل ما يفضى إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض ، ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط ، لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل ، ودفع الموجود قريب من قطع الوجود ، وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التى لا ينتظم العيش إلا بها ، بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول ، ولذلك لا يتصور أن يكون الزنا مباحا في أصل شرع قصد به الإصلاح ، وينبغى أن يكون الزنا فى الرتبة دون القتل ، لأنه ليس يفوت دوام الوجود ولا يمنع أصله ، ولكنه يفوت تمييز الأنساب ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضى إلى التقاتل ، وينبغى أن يكون أشد من اللواط لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم أثر الضرر بكثرته . ( المرتبة الثالثة ) : الأموال فإنها معايش الخلق ، فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما ، بل ينبغى أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس ، إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها ، وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها . نعم إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغى أن يكون ذلك من الكبائر ، وذلك بأربع طرق : أحدها الخفية ، وهى السرقة فإنه إذا لم يطلع عليه غالبا كيف يتدارك . الثانى : أكل مال اليتيم ، وهذا أيضا من الخفية وأعنى به في حق الولى والقيم فإنه مؤتمن فيه وليس له خصم سوى اليتيم وهو صغير لا يعرفه فتعظيم الأمر فيه واجب ، بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف ، وبخلاف الخيانة في الوديعة فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه . الثالث : تفويتها بشهادة الزور . الرابع : أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طريق لا يمكن فيها التدارك ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلا ، وبعضها أشد من بعض ، وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس ، وهذه الأربعة جديرة بأن تكون مرادة بالكبائر وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها ، ولكن أكثر الوعيد عليها وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها ، وأما أكل الربا فليس إلا أكل مال الغير بالتراضى مع الإخلال بشرط وضعه الشرع ، ولا يبعد أن تختلف الشرائع في مثله ، وإذا لم يجعل الغضب الذى هو أكل مال الغير بغيره رضاه ، وبغير رضا الشرع من الكبائر ، فأكل الربا أكل برضا المالك ، ولكن دون رضا الشرع ، وإن عظم الشرع الزنا بالزجر عنه فقد عظم أيضا الظلم بالغصب وغيره وعظم الخيانة ، والمصير إلى أن أكل دانق بالخيانة أو الغصب من الكبائر فيه نظر ، وذلك واقع في مظنة الشك وأكثر ميل الظن إلى انه غير داخل تحت الكبائر ، بل ينبغى أن تختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرع فيه ليكون ضروريا في الدين ، فيبقى مما ذكره أبو طالب المكي القذف والشرب والسحر والفرار من الزحف وحقوق الوالدين ، أما الشرب لما يزيل العقل فهو جدير بأن يكون من الكبائر ، وقد دل عليه تشديدات الشرع وطريق النظر أيضا ، لأن العقل محفوظ كما أن النفس محفوظة ، بل لا خير في النفس دون العقل فإزالة العقل من الكبائر ، ولكن هذا لا يجرى في قطرة من الخمر ، فلا شك في أنه لو شرب ماء فيه قطرة من الخمر لم يكن ذلك كبيرة وإنما هو شرب ماء نجس ،والقطرة وحدها في محل الشك ، وإيجاب الشرع الحد به يدل على تعظيم أمره ، فيعد ذلك من الكبائر بالشرع ، وليس في قوة البشرية الوقوف على جميع أسرار الشرع ، فإن ثبت إجماع في أنه كبيرة وجب الاتباع ، ولا فللتوقف فيه مجال . وأما القذف فليس فيه إلا تناول الأعراض ، والأعراض دون الأموال في الريبة ، ولتناولها مراتب ، وأعظمها التناول بالقذف بالإضافة إلى فاحشة الزنا ، وقد عظم الشرع أمره ، وأظن ظنا غالبا أن الصحابة كانوا يعدون كل ما يجب به الحد كبيرة ، فهو بهذا الاعتبار لا تكفره الصلوات الخمس ، وهو الذي نريده بالكبيرة الآن ، ولكن من حيث إنه يجوز أن تختلف فيه الشرائع فالقياس بمجرده لا يدل على كبره وعظمته ، بل كان يجوز أن يرد الشرع بأن العدل الواحد إذا رأى إنسانا يزنى فله أن يشهد ويجلد المشهود عليه بمجرد شهادته فإن لم تقبل شهادته ، فحده ليس ضروريا في مصالح الدنيا ، وإن كان على الجملة من المصالح الظاهرة الواقعة في رتبة الحاجات ، فإذن هذا أيضا يلحق بالكبائر في حق من عرف حكم الشرع ، فأما من ظن أن له أن يشهد وحده ، أو ظن أنه يساعده على شهادة غيره فلا ينبغى أن يجعل في حقه من الكبائر . وأما السحر فإن كان فيه كفر فكبيرة ، وإلا فعظمته بحسب الضرر الذي يتولد منه من هلاك نفس أو مرض أو غيره . وأما الفرار من الزحف وعقوق الوالدين ، فهذا أيضا ينبغى أن يكون من حيث القياس في محل التوقف ، وإذا قطع بأن سب الناس بكل شىء سوى الزنا ، وضربهم ، والظلم لهم بغصب أموالهم ، وإخراجهم من مساكنهم وبلادهم ، وإجلائهم من أوطانهم ليس من الكبائر - إذ لم ينقل ذلك في السبع عشرة كبيرة وهو أكبر ما قيل فيه - فالتوقف في هذا أيضا غير بعيد ، ولكن الحديث يدل على تسميته كبيرة فليحلق بالكبائر . فإذا رجع حاصل الأمر إلى أنا نعنى بالكبيرة ما لا تكفره الصلوات بحكم الشرع وذلك مما انقسم إلى ما علم أنه لا تكفره قطعا ، وإلى ما ينبغى أن تكفره وإلى ما يتوقف فيه ، والمتوقف فيه بعضه مظنون للنفى والإثبات وبعضه مشكوك فيه ، وهو شك لا يزيله إلا نص كتاب أو سنة ، وإذن لا مطمع فيه فطلب رفع الشك فيه محال .
فإن قلت : فهذا إقامة برهان على استحالة معرفة حدها ، فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة حده ؟ فاعلم أن كل ما لا يتعلق به حكم في الدنيا فيجوز أن يتطرق إليه الإبهام ، لأن دار التكليف هى دار الدنيا ، والكبيرة على الخصوص لا حكم لها في الدنيا من حيث إنها كبيرة ، بل كل موجبات الحدود معلومة بأسمائها كالسرقة والزنا وغيرهما ، وإنما حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها ، وهذا أمر يتعلق بالآخرة ، والإبهام أليق به حتى يكون الناس على وجل وحذر فلا يتجرءون على الصغائر اعتمادا على الصلوات الخمس ، وكذلك اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله تعالى : ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ ( النساء : 31 ) ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة ، كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس ، فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه ، فهذا معنى تكفيره ، فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف أمر آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا ، وكل من يشتهى الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التى هى مقدماته كسماع الملاهى والأوتار ـ نعم من يشتهى الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التى ارتفعت إليه من معصية السماع ، فكل هذه أحكام أخروية ، ويجوز أن يبقى بعضها في محل الشك ، وتكون من المتشابهات فلا يعرف تفصيلها إلا بالنص ، ولم يرد النص بعد ولا حد جامع ، بل ورد بألفاظ مختلفات ، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الصلاة إلى الصلاة كفارة ، ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث : إشراك بالله ، وترك السنة ، ونكث الصفقة ))[31] . قيل : ما ترك السنة ؟ قيل : الخروج عن الجماعة . ونكث الصفقة : أن يبايع رجلا ثم يخرج عليه بالسيف يقاتله ، فهذا وأمثاله من الألفاظ لا يحيط بالعدد كله ، ولا يدل على حد جامع فيبقى لا محالة مبهما .
فإن قلت : الشهادة لا تقبل إلا ممن يجتنب الكبائر ، والورع عن الصغائر ليس شرطا في قبول الشهادة ، وهذا من أحكام الدنيا ، فاعلم أنا لا نخصص رد الشهادة بالكبائر ، فلا خلاف في أن من يسمع الملاهى ويلبس الديباج ويتختم بخاتم الذهب ويشرب في أوانى الذهب والفضة لا تقبل شهادته ، ولم يذهب أحد إلى أن هذه الأمور من الكبائر ، وقال الشافعى رضي الله عنه : إذا شرب الحنفى النبيذ حددته ولم أرد شهادته ، فقد جعله كبيرة بإيجاب الحد ولم يرد به الشهادة ، فدل على أن الشهادة نفيا وإثباتا لا تدور على الصغائر والكبائر ، بل كل الذنوب تقدح في العدالة إلا ما لا يخلو الإنسان عنه غالبا بضرورة مجارى العادات : كالغيبة ، والتجسس ، وسوء الظن ، والكذب فى بعض الأقوال ، وسماع الغيبة ، وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وأكل الشبهات ، وسب الولد والغلام ، وضربهما بحكم الغضب زائدا على المصلحة ، وإكرام السلاطين الظلمة ، ومصادقة الفجار ، والتكاسل عن تعليم الأهل والولد جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين ، فهذه ذنوب لا يتصور أن ينفك الشاهد عن قليلها ، أو كثيرها إلا بأن يعتزل الناس ويتجرد لأمور الآخرة ، ويجاهد نفسه مدة بحيث يبقى على سمعته مع المخالفة بعد ذلك ، ولو لم يقبل إلا قول مثله لعز وجوده وبطلت الأحكام والشهادات . وليس لبس الحرير وسماع الملاهى واللعب بالنرد ومجالسة أهل الشرب في وقت الشرب والخلوة بالأجنبيات وأمثال هذه الصغائر من هذا القبيل ، فإلى مثل هذا المنهاج ينبغى أن ينظر في قبول الشهادة وردها لا إلى الكبيرة والصغيرة ، ثم آحاد هذه الصغائر التى لا ترد الشهادة بها لو واظب عليها لأثر في رد الشهادة كمن اتخذ الغيبة وثلب الناس عادة ، وكذلك مجالسة الفجار ومصادقتهم ، والصغيرة تكبر بالمواظبة ، كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة ، كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام وغيره ، فهذا بيان حكم الصغائر والكبائر .
بيان كيفية نوزع الدرجات والدركات في الآخرة على الحسنات والسيئات في الدنيا
اعلم أن الدنيا من عالم الملك والشهادة ، والآخرة من عالم الغيب والملكوت وأعنىبالدنيا حالتك قبل الموت ، وبالآخرة حالتك بعد الموت ، فدنياك وآخرتك صفاتك وأحوالك يسمى القريب الدانى منها دنيا ، والمتأخر آخرة ، ونحن الآن نتكلم من الدنيا فى الآخرة ، فإنا الآن نتكلم في الدنيا وهو عالم الملك ، وغرضنا شرح الآخرة وهى عالم الملكوت ، ولا يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال ، ولذلك قال تعالى : ﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾ ( العنكبوت : 43 ) وهذا لأن عالم الملك نوم بالإضافة إلى عالم الملكوت ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ))[32] وما سيكون في اليقظة لا يتبين لك في النوم إلا الأمثال المحوجة إلى التعبير ، فكذلك ما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبين في نوم الدنيا إلا في كثرة الأمثال ، وأعنى بكثرة الأمثال ما نعرفه من علم التعبير ، ويكفيك منه إن كنت فطنا ثلاثة أمثلة . فقد جاء رجل إلى ابن سرين فقال : رأيتك كأن في يدى خاتما أختم به أفواه الرجال وفروج النساء ، فقال : إنك مؤذن تؤذن في رمضان قبل طلوع الفجر . قال : صدقت . وجاء رجل آخر فقال : رأيت كأنى أصب الزيت في الزيتون . فقال : إن كان تحتك جارية اشتريتها ففتش عن حالها فإن أمك سبيت في صغرك ؛ لأن الزيتون أصل الزيت فهو يرد الى الأصل ، فنظر فإذا جاريته كانت أمه وقد سبيت في صغره . وقال له آخر : رأيت كأنى أقلد الدر في أعناق الخنازير ، فقال : إنك تعلم الحكمة غير أهلها ، فكان كما قال ، والتعبير من أوله إلى آخره أمثال تعرفك طريق ضرب الأمثال ، وإنما نعنى بالمثل أداء المعنى في صورة إن نظر إلى معناه وجده صادقا ، وإن نظر إلى صورته وجده كاذبا ، فالمؤذن إن نظر إلى صورة الخاتم والختم به على الفروج رآه كاذبا ، فإنه لم يختم به قط ، وإن نظر إلى معناه وحده صادقا إذ صدر منه روح الختم ومعناه وهو المنع الذي يراد الختم له ، وليس للأنبياء أن يتكلموا مع الخلق إلا بضرب الأمثال ، لأنهم كلفوا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم ، وقدر عقولهم أنهم في النوم والنائم لا يكشف له عن شيء إلا بمثل ، فإذا ماتوا انتبهوا وعرفوا أن المثل صادق ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ((قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ))[33] . وهو من المثال الذي لا يعقله إلا العالمون ، فأما الجاهل فلا يجاوز قدره ظاهر المثال لجهله بالتفسير الذي يسمى تأويلا ، كما يسمى تفسير ما يرى من الأمثلة في النوم تعبيرا فيثبت لله تعالى يدا واصبعا - تعالى الله عن قوله علوا كبيرا - وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله خلق آدم على صورته ))[34] ، فإنه لا يفهم من الصورة إلا اللون والشكل والهيئة فيثبت لله تعالى مثل ذلك - تعالى الله عن قوله علوا كبيرا - من ههنا زل من زل في صفات إلهية حتى في الكلام وجعلوه صوتا وحرفا إلى غير ذلك من الصفات ، والقول فيه يطول ، وكذلك قد يرد في أمر الآخرة ضرب أمثله يكذب بها الملحد بجمود نظره على ظاهر المثال وتناقضه عنده ، كقوله صلى الله عليه وسلم : (( يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح ))[35] ، فيثور الملحد الأحمق ويكذب ويستدل به على كذب الأنبياء ويقول : يا سبحان الله . الموت عرض والكبش جسم فكيف ينقلب العرض جسما ؟ وهل هذا إلا محال ، ولكن الله تعالى عزل هؤلاء الحمقى عن معرفة أسراره فقال : ﴿ وما يعقلها إلا العالمون ﴾ ( العنكبوت : 43 ) ولا يدرى المسكين أن من قال : رأيت في منامى أنه جىء بكبش وقيل : هذا هو الوباء الذي في البلد وذبح فقال المعبر : صدقت والأمر كما رأيت ، وهذا يدل على أن هذا الوباء ينقطع ولا يعود قط ، لأن المذبوح وقع اليأس منه ، فإذن المعبر صادق في تصديقه ، وهو صادق في رؤيته ، وترجع حقيقة ذلك إلى أن الموكل بالرؤيا وهو الذي يطلع الأرواح عند النوم على ما في اللوح المحفوظ عرفه بما في اللوح المحفوظ بمثال ضربه له ، لأن النائم إنما يحتمل المثال ، فكان مثاله صادقا وكان معناه صحيحا ، فالرسل أيضا إنما يكلمون الناس في الدنيا وهى بالإضافة إلى الآخرة نوم ، فيوصلون المعانى إلى أفهامهم بالأمثله حكمة من الله ولطفا بعباده وتيسيرا لإدراك ما يعجزون عن إدراكه دون ضرب المثل ، فقوله : (( يؤتى بالموت في صورة كبش أملح )) مثال ضربه ليوصل إلى الأفهام حصول اليأس من الموت ، وقد جبلت القلوب على التأثر بالأمثلة وثبوت المعانى فيها بواسطتها ، ولذلك عبر القرآن بقوله : ﴿ كن فيكون ﴾ ( البقرة : 117 ، آل عمران ، ... ) عن نهاية القدرة ، وعبر صلى الله عليه وسلم بقوله : (( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن )) عن سرعة التقليب . وقد أشرنا إلى حكمه ذلك في كتاب " قواعد العقائد " من ربع العبادات فلنرجع الآن إلى الغرض ، فالمقصود أن تعريف توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات لا يمكن إلا بضرب المثال ، فلنفهم من المثل الذي نضربه معناه لا صورته ، فنقول : الناس في الآخرة ينقسمون أصنافا وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتا لا يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها ولا تفارق الآخرة في هذا المعنى أصلا ألبته ، فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له ، وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها ، إلا أنا إن عجزنا عن احصاء آحاد الدرجات فلا نعجز عن إحصاء الأجناس . فنقول : الناس ينقسمون في الآخرة بالضرورة إلى أربعة : أقسام هالكين ، ومعذبين ، وناجين ، وفائزين . ومثاله في الدنيا أن يستولى ملك من الملوك على اقليم فيقتل بعضهم فهم الهالكون ، ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون ، ويخلى بعضهم فهم الناجون ، ويخلع على بعضهم فهم الفائزون ، فان كان الملك عادلا لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق ، فلا يقتل إلا جاحدا لاستحقاق الملك معاندا له في أصل الدولة ، ولا يعذب الا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلو درجته ، ولا يخلى إلا معترفا له برتبة الملك لكنه لم يقصر ليعذب ولم يخدم ليخلع عليه ، ولا يخلع الا على من ابلى عمره في الخدمة والنصرة ، ثم ينبغى أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة ، وإهلاك الهالكين إما تحقيقا بجز الرقبة أو تنكيلا بالمثلة بحسب درجاتهم في المعاندة ، وتعذيب المعذبين في الخفة والشدة وطول المدة وقصرها واتحاد انواعها واختلاقها بحسب درجات تقصيرهم ، فتقسم كل رتبة من هذه الرتب الى درجات لا تحصى ولا تنحصر ، فكذلك فافهم أن الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون ، فمن هالك ، ومن معذب مدة ، ومن ناج يحل في دار السلامة ، ومن فائز . والفائزون ينقسمون الى من يحلون في جنات عدن أو جنات المأوى أو جنات الفردوس ، والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب قليلا وإلى من يعذب ألف سنة إلى سبعة آلف سنة ، وذلك آخر من يخرج من النار كما ورد في الخبر[36] وكذلك الهالكون الآيسون من رحمة الله تتفاوت دركاتهم ، وهذه الدرجات بحسب اختلاف الطاعات والمعاصى فلنذكر كيفية توزعها عليها .
( الرتبة الأولى ) : وهى رتبة الهالكين ونعنى بالهالكين الآيسين من رحمة الله تعالى ، إذ الذي قتله الملك في المثال الذي ضربناه آيس من رضا الملك وإكرامه فلا تغفل عن معانى المثال ، وهذه الدرجة لا تكون إلا للجاحدين والمعرضين المتجردين للدنيا المكذبين بالله ورسله وكتبه ، فإن السعادة الأخروية في القرب من الله والنظر إلى وجهه ، وذلك لا ينال أصلا إلا بالمعرفة التى يعبر عنها بالإيمان والتصديق ، والجاحدون هم المنكرون ، والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الآباد وهم الذين يكذبون برب العالمين وبأنبيائه المرسلين ، إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة ، وكل محجوب من محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه لا محالة ، فهو لا محالة يكون مخترقا نار جهنم بنار الفراق ، ولذلك قال العارفون : ليس خوفنا من نار جهنم ، ولا رجاءونا للحور العين، وإنما مطالبنا اللقاء ، ومهربنا من الحجاب فقط . وقالوا : من يعبد الله بعوض فهو لئيم ، كأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره ، بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها ، وأما النار فقد لا يتقيها . إذ نار الفراق إذا استولت ربما غلبت النار المحرقة للأجسام ، فإن نار الفراق نار الله الموقدة التى تطلع على الأفئدة ، ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام : وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد ولذلك قيل :
وفي فؤاد المحب نـار جـوى أحر نـار الجحيـم أبردهـا