أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: من كتاب التوبه للامام الغزالى

  1. #1
    الصورة الرمزية د. عمر جلال الدين هزاع شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2005
    الدولة : سوريا , دير الزور
    العمر : 50
    المشاركات : 5,078
    المواضيع : 326
    الردود : 5078
    المعدل اليومي : 0.75

    Exclamation من كتاب التوبه للامام الغزالى

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بسم الله الرحمن الرحيم و الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين 0





    اعلم أن التوبة ترك الذنب ، ولا يمكن ترك الشىء إلا بعد معرفته ، وإذا كانت التوبة واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجبا ، فمعرفة الذنوب إذن واجبة ، والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل ، وتفصيل ذلك يستدعى شرح التكليفات من أولها إلى آخرها . وليس ذلك من غرضنا ، ولكنا نشير إلى مجامعها وروابط أقسامها ، والله الموفق للصواب برحمته.



    بيان أقسام الذنوب بالإضافة إلى صفات العبد



    اعلم أن للإنسان أوصافا وأخلاقا كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب وغوائله ، ولكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات : صفات ربوبية ، وصفات شيطانية ، وصفات بهيمية ، وصفات سبعية . وذلك لأن طينة الإنسان عجنت من أخلاط مختلفة فاقتضى كل واحد من الأخلاط في المعجون منه أثرا من الآثار كما يقتضى السكر والخل والزعفران في السكنجبين[21] آثارا مختلفة فأما ما يقتضى النزوع إلى الصفات الربوبية فمثل الكبر والفخر والجبرية وحب المدح والثناء والغنى وحب دوام البقاء وطلب الاستعلاء على الكافة حتى كأنه يريد أن يقول : أنا ربكم الأعلى ، وهذا يتشعب منه جملة من كبائر الذنوب غفل عنها الخلق ، ولم يعدوها ذنوبا وهى المهلكات العظيمة التى هى كالأمهات لأكثر المعاصي كما استقصيناه في ربع المهلكات ( الثانية ) : هى الصفة الشيطانية التى منها يتشعب الحسد والبغى والحيلة والخداع والأمر بالفساد والمكر وفيه يدخل الغش والنفاق والدعوة إلى البدع والضلال . ( الثالثة ) : الصفة البهيمية ومنها يتشعب الشره والكلب والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج ، ومنه يتشعب الزنا واللوط والسرقة وأكل مال الأيتام وجمع الحطام لأجل الشهوات . ( الرابعة ) : الصفة السبعية ، ومنها يتشعب الغضب والحقد والتهجم على الناس بالضرب والشتم والقتل واستهلاك الأموال ، ويتفرع عنها جمل من الذنوب ، وهذه الصفات لها تدريج في الفطرة ، فالصفة البهيمية هى التى تغلب أولا ثم تتلوها الصفة السبعية ثانيا ، ثم إذا اجتمعا استعملا العقل في الخداع والمكر والحيلة وهى الصفة الشيطانية ، ثم بالآخرة تغلب الصفات الربوبية وهى الفخر والعز والعلو وطلب الكبرياء ، وقصد الاستيلاء على جميع الخلق ، فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ثم تنفجر الذنوب من هذه المنابع على الجوارح ، فبعضها في القلب خاصة كالكفر والبدعة والنفاق وإضمار السوء للناس وبعضها على العين والسمع ، وبعضها على اللسان ، وبعضها على البطن ، والفرج ، وبعضها على اليدين والرجلين ، وبعضها على جميع البدن ، ولا حاجة إلى بيان تفصيل ذلك فإنه واضح . قسمة ثانية : اعلم أن الذنوب تقسم إلى ما بين العبد وبين الله تعالى وإلى ما يتعلق بحقوق العباد . فما يتعلق بالعبد خاصة كترك الصلاة والصوم والواجبات الخاصة به ، وما يتعلق بحقوق العباد ، كتركه الزكاة وقتله النفس وغصبه الأموال وشتمه الأعراض وكل متناول من حق الغير ، فإما نفس أو طرف أو مال أو عرض أو دين أو جاه ، وتناول الدين بالإغواء والدعاء إلى البدعة والترغيب في المعاصى وتهييج أسباب الجراءة على الله تعالى كما يفعله بعض الوعاظ بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف ، وما يتعلق بالعباد فالأمر فيه أغلظ ، وما بين العبد وبين الله تعالى إذا لم يكن شركا فالعفو فيه أرجى وأقرب ، وقد جاء فى الخبر ، الدواوين ثلاثة : ديوان يغفر ، وديوان لا يغفر ، وديوان لا يترك ؛ فالديوان الذي يغفر : ذنوب العباد بينهم وبين الله تعالى . وأما الديوان الذي لا يغفر : فالشرك بالله تعالى . وأما الديوان الذي لا يترك : فمظالم العباد[22] ؛ أي لا بد وأن يطالب بها حتى يعفى عنها . قسمة ثالثة : اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر ، وقد كثر اختلاف الناس فيها ، فقال قائلون : لا صغيرة ولا كبيرة ، بل كل مخالفة لله فهى كبيرة ، وهذا ضعيف ، إذ قال تعالى : ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ﴾ ( النساء : 31 ) . وقال تعالى : ﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾ ( النجم : 32) وقال صلى الله عليه وسلم : (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر ))[23] وفى لفظ آخر : (( كفارات لما بينهن إلا الكبائر )) وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص : (( الكبائر : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس ))[24] . واختلف الصحابة والتابعون في عدد الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع إلى إحدى عشرة فما فوق ذلك ، فقال ابن مسعود : هن أربع . وقال ابن عمر : هن سبع . وقال عبد الله بن عمرو : هن تسع . وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر الكبائر سبع يقول : هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع . وقال مرة :كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة . وقال غيره : كل ما أوعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر . وقال بعض السلف : كل ما أوجب عليه الحد فى الدنيا فهو كبيرة . وقيل : إنها مبهمة لا يعرف عددها كليلة القدر وساعة يوم الجمعة . وقال ابن مسعود لما سئل عنها : اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ﴾ ( النساء : 31 ) فكل ما نهى الله عنه فى هذه السورة إلى هنا فهو كبيرة . وقال أبو طالب المكى : الكبائر سبع عشر جمعتها من جملة الأخبار [25]. وجملة ما اجتمع من قول ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم : أربعة في القلب وهى : الشرك بالله ، والإصرار على معصيته ، والقنوط من رحمته ، والأمن من مكره . وأربع في اللسان وهى : شهادة الزور ، وقذف المحصن ، واليمين الغموس ؛ وهى التى يحق بها باطلا أو يبطل بها حقا ، وقيل : هى التى يقتطع بها مال أمرىء مسلم باطلا ولو سواكا من أراك ، وسميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار . والسحر ؛ وهو كل كلام يغير الإنسان وسائر الأجسام عن موضوعات الخلقة . وثلاث في البطن وهى : شرب الخمر ، والسكر من كل شراب ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وأكل الربا وهو يعلم . واثنتان في الفرج وهما : الزنا ، واللواط . واثنتان في اليدين وهما : القتل ، والسرقة . وواحدة في الرجلين وهى : الفرار من الزحف . الواحد من اثنتين والعشرة من العشرين . وواحدة في جميع الجسد وهى : عقوق الوالدين ، قال : وجملة عقوقهما أن يقسما عليه في حق فلا يبر قسمهما ، وإن سألاه حاجة فلا يعطيهما ، وأن يسباه فيضربهما ، ويجوعان فلا يطعمهما : هذا ما قاله وهو قريب ، ولكن ليس يحصل به تمام الشفاء ، إذ يمكن الزيادة عليه والنقصان منه ، فإنه جعل أكل الربا ومال اليتيم من الكبائر ، وهى جناية على الأموال ولم يذكر في كبائر النفوس إلا القتل ، فأما فقء العين وقطع اليدين وغير ذلك من تعذيب المسلمين بالضرب وأنواع العذاب فلم يتعرض له ، وضرب اليتيم وتعذيبه ، وقطع أطرافه لا شك في أنه أكبر من أكل ماله ، كيف وفي الخبر (( من الكبائر السبتان بالسبة ، ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم ))[26] وهذا زائد على قذف المحصن . وقال أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة : إنكم لتعملون أعمالا هى أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر[27] . وقالت طائفة : كل عمد كبيرة ، وكل ما نهى عنه فهو كبيرة وكشف الغطاء عن هذا أن نظر الناظر في السرقة أهى كبيرة أم لا : لا يصح ، ما لم يفهم معنى الكبيرة ، والمراد بها كقول القائل : السرقة حرام أم لا ؟ ولا مطمع في تعريفه إلا بعد تقرير معنى الحرام أولا ، ثم البحث عن وجوده في السرقة ، فالكبيرة من حيث اللفظ مبهم ليس له موضوع خاص في اللغة ولا في الشرع ، وذلك لأن الكبير والصغير من المضافات ، وما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه ، وصغير بالإضافة إلى ما فوقه ، فالمضاجعة مع الأجنبية بالاضافة إلى النظرة صغيرة بالإضافة إلى الزنا ، وقطع يد المسلم كبيرة إلى ضربة صغيرة بالاضافة إلى قتله . نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار على فعله خاصة اسم الكبيرة ، ونعنى بوصفه بالكبيرة : أن العقوبة بالنار عظيمة ، وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه مصيرا إلى أن ما عجل عليه في الدنيا عقوبه واجبة عظيم ، وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهى عنه فيقول : تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه ، ثم يكون عظيما وكبيرة لا محالة ، بالاضافة إذ منصوصات القرآن أيضا تتفاوت درجاتها ، فهذه الإطلاقات لا حرج فيها ، وما نقل من ألفاظ الصحابه يتردد بين هذه الجهات ولا يبعد تنزيلها على شىء من هذه الاحتمالات ، نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تعالى : ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ ( النساء : 31 ) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الصلوات كفارات لما بينهن إلا الكبائر )) فإن هذا إثبات حكم الكبائر ، والحق في ذلك أن الذنوب منقسمة في نظر الشرع إلى ما يعلم استعظامه إياها ، وإلى ما يعلم إنها معدودة في الصغائر ، وإلى ما يشك فيه ، فلا يدرى حكمه ، فالطمع في معرفة حد حاصر أو عدد جامع مانع طلب لما لم يمكن ، فإن ذلك لا يمكن إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إني أردت بالكبائر عشرا أو خمسا ويفصلها فإن لم يرد هذا بل ورد في بعض الألفاظ (( ثلاث من الكبائر ))[28] وفي بعضها (( سبع من الكبائر ))[29] ثم ورد أن (( السبتين بالسبة الواحدة من الكبائر )) وهو خارج عن السبع والثلاث : علم أنه لم يقصد به العدد بما يحصر ، فكيف يطمع في عدد ما لم يعده الشرع ؟ وربما قصد الشرع ابهامه ليكون العباد منه على وجل ، كما أبهم ليلة القدر ليعظم جد الناس في طلبها ، نعم لنا سبيل كلى يمكننا ان نعرف به أجناس الكبائر وأنواعها بالتحقيق . وأما أعيانها فنعرفها بالظن والتقريب ، ونعرف أيضا أكبر الكبائر ، فأما أصغر الصغائر فلا سبيل إلى معرفته ، وبيانه أنا نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعا أن مقصد الشرائع كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائه ، وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وكتبه ورسله ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ ( الذاريات : 56 ) أي : ليكونوا عبيد لى ، ولا يكون العبد عبدا ما لم يعرف ربه بالربوبية ، ونفسه بالعبودية ، ولا بد أن يعرف نفسه وربه ، فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبياء ، ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا ، وهو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام : (( الدنيا مزرعة الآخرة ))[30] . فصار حفظ الدنيا أيضا مقصودا تابعا للدين لأنه وسيلة إليه والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان : النفوس والأموال ، فكل ما يسد باب معرفة الله تعالى فهو أكبر الكبائر ، ويليه ما يسد باب حياة النفوس ، ويليه باب ما يسد المعايش ، التى بها حياة الناس . فهذه ثلاث مراتب فحفظ المعرفة على القلوب ، والحياة على الأبدان ، والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها ، وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل ، فلا يجوز أن الله تعالى يبعث نبيا يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ، ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله ، أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال ، فحصل من هذا أن الكبائر على ثلاث مراتب ، ( الأولى ) : ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر ، فلا كبيرة فوق الكفر ، إذ الحجاب بين الله وبين العبد هو الجهل ، والوسيلة المقربة له إليه هو العلم والمعرفة وقربة بقدر معرفته ، وبعده بقدر جهله ، ويتلو الجهل الذي يسمى كفرا الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته ، فإن هذا أيضا عين الجهل ، فمن عرف الله لم يتصور أن يكون آمنا ، ولا أن يكون آيسا ، ويتلو هذه الرتبة : البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله وبعضها أشد من بعض ، وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه بأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه ، ومراتب ذلك لاتنحصر وهى تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن . وإلى ما يعلم أنه لا يدخل وإلى ما يشك فيه ، وطلب دفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع . ( المرتبة الثانية ) : النفوس إذ ببقائها وحفظها تدوم الحياة وتحصل المعرفة بالله ، فقتل النفس لا محالة من الكبائر ، وإن كان دون الكفر ، لأن ذلك يصدم عين المقصود وهذا يصدم وسيلة المقصود ، إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى ، ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف ، وكل ما يفضى إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض ، ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط ، لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل ، ودفع الموجود قريب من قطع الوجود ، وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التى لا ينتظم العيش إلا بها ، بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول ، ولذلك لا يتصور أن يكون الزنا مباحا في أصل شرع قصد به الإصلاح ، وينبغى أن يكون الزنا فى الرتبة دون القتل ، لأنه ليس يفوت دوام الوجود ولا يمنع أصله ، ولكنه يفوت تمييز الأنساب ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضى إلى التقاتل ، وينبغى أن يكون أشد من اللواط لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم أثر الضرر بكثرته . ( المرتبة الثالثة ) : الأموال فإنها معايش الخلق ، فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما ، بل ينبغى أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس ، إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها ، وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها . نعم إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغى أن يكون ذلك من الكبائر ، وذلك بأربع طرق : أحدها الخفية ، وهى السرقة فإنه إذا لم يطلع عليه غالبا كيف يتدارك . الثانى : أكل مال اليتيم ، وهذا أيضا من الخفية وأعنى به في حق الولى والقيم فإنه مؤتمن فيه وليس له خصم سوى اليتيم وهو صغير لا يعرفه فتعظيم الأمر فيه واجب ، بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف ، وبخلاف الخيانة في الوديعة فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه . الثالث : تفويتها بشهادة الزور . الرابع : أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طريق لا يمكن فيها التدارك ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلا ، وبعضها أشد من بعض ، وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس ، وهذه الأربعة جديرة بأن تكون مرادة بالكبائر وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها ، ولكن أكثر الوعيد عليها وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها ، وأما أكل الربا فليس إلا أكل مال الغير بالتراضى مع الإخلال بشرط وضعه الشرع ، ولا يبعد أن تختلف الشرائع في مثله ، وإذا لم يجعل الغضب الذى هو أكل مال الغير بغيره رضاه ، وبغير رضا الشرع من الكبائر ، فأكل الربا أكل برضا المالك ، ولكن دون رضا الشرع ، وإن عظم الشرع الزنا بالزجر عنه فقد عظم أيضا الظلم بالغصب وغيره وعظم الخيانة ، والمصير إلى أن أكل دانق بالخيانة أو الغصب من الكبائر فيه نظر ، وذلك واقع في مظنة الشك وأكثر ميل الظن إلى انه غير داخل تحت الكبائر ، بل ينبغى أن تختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرع فيه ليكون ضروريا في الدين ، فيبقى مما ذكره أبو طالب المكي القذف والشرب والسحر والفرار من الزحف وحقوق الوالدين ، أما الشرب لما يزيل العقل فهو جدير بأن يكون من الكبائر ، وقد دل عليه تشديدات الشرع وطريق النظر أيضا ، لأن العقل محفوظ كما أن النفس محفوظة ، بل لا خير في النفس دون العقل فإزالة العقل من الكبائر ، ولكن هذا لا يجرى في قطرة من الخمر ، فلا شك في أنه لو شرب ماء فيه قطرة من الخمر لم يكن ذلك كبيرة وإنما هو شرب ماء نجس ،والقطرة وحدها في محل الشك ، وإيجاب الشرع الحد به يدل على تعظيم أمره ، فيعد ذلك من الكبائر بالشرع ، وليس في قوة البشرية الوقوف على جميع أسرار الشرع ، فإن ثبت إجماع في أنه كبيرة وجب الاتباع ، ولا فللتوقف فيه مجال . وأما القذف فليس فيه إلا تناول الأعراض ، والأعراض دون الأموال في الريبة ، ولتناولها مراتب ، وأعظمها التناول بالقذف بالإضافة إلى فاحشة الزنا ، وقد عظم الشرع أمره ، وأظن ظنا غالبا أن الصحابة كانوا يعدون كل ما يجب به الحد كبيرة ، فهو بهذا الاعتبار لا تكفره الصلوات الخمس ، وهو الذي نريده بالكبيرة الآن ، ولكن من حيث إنه يجوز أن تختلف فيه الشرائع فالقياس بمجرده لا يدل على كبره وعظمته ، بل كان يجوز أن يرد الشرع بأن العدل الواحد إذا رأى إنسانا يزنى فله أن يشهد ويجلد المشهود عليه بمجرد شهادته فإن لم تقبل شهادته ، فحده ليس ضروريا في مصالح الدنيا ، وإن كان على الجملة من المصالح الظاهرة الواقعة في رتبة الحاجات ، فإذن هذا أيضا يلحق بالكبائر في حق من عرف حكم الشرع ، فأما من ظن أن له أن يشهد وحده ، أو ظن أنه يساعده على شهادة غيره فلا ينبغى أن يجعل في حقه من الكبائر . وأما السحر فإن كان فيه كفر فكبيرة ، وإلا فعظمته بحسب الضرر الذي يتولد منه من هلاك نفس أو مرض أو غيره . وأما الفرار من الزحف وعقوق الوالدين ، فهذا أيضا ينبغى أن يكون من حيث القياس في محل التوقف ، وإذا قطع بأن سب الناس بكل شىء سوى الزنا ، وضربهم ، والظلم لهم بغصب أموالهم ، وإخراجهم من مساكنهم وبلادهم ، وإجلائهم من أوطانهم ليس من الكبائر - إذ لم ينقل ذلك في السبع عشرة كبيرة وهو أكبر ما قيل فيه - فالتوقف في هذا أيضا غير بعيد ، ولكن الحديث يدل على تسميته كبيرة فليحلق بالكبائر . فإذا رجع حاصل الأمر إلى أنا نعنى بالكبيرة ما لا تكفره الصلوات بحكم الشرع وذلك مما انقسم إلى ما علم أنه لا تكفره قطعا ، وإلى ما ينبغى أن تكفره وإلى ما يتوقف فيه ، والمتوقف فيه بعضه مظنون للنفى والإثبات وبعضه مشكوك فيه ، وهو شك لا يزيله إلا نص كتاب أو سنة ، وإذن لا مطمع فيه فطلب رفع الشك فيه محال .

    فإن قلت : فهذا إقامة برهان على استحالة معرفة حدها ، فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة حده ؟ فاعلم أن كل ما لا يتعلق به حكم في الدنيا فيجوز أن يتطرق إليه الإبهام ، لأن دار التكليف هى دار الدنيا ، والكبيرة على الخصوص لا حكم لها في الدنيا من حيث إنها كبيرة ، بل كل موجبات الحدود معلومة بأسمائها كالسرقة والزنا وغيرهما ، وإنما حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها ، وهذا أمر يتعلق بالآخرة ، والإبهام أليق به حتى يكون الناس على وجل وحذر فلا يتجرءون على الصغائر اعتمادا على الصلوات الخمس ، وكذلك اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله تعالى : ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ ( النساء : 31 ) ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة ، كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس ، فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه ، فهذا معنى تكفيره ، فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف أمر آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا ، وكل من يشتهى الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التى هى مقدماته كسماع الملاهى والأوتار ـ نعم من يشتهى الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التى ارتفعت إليه من معصية السماع ، فكل هذه أحكام أخروية ، ويجوز أن يبقى بعضها في محل الشك ، وتكون من المتشابهات فلا يعرف تفصيلها إلا بالنص ، ولم يرد النص بعد ولا حد جامع ، بل ورد بألفاظ مختلفات ، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الصلاة إلى الصلاة كفارة ، ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث : إشراك بالله ، وترك السنة ، ونكث الصفقة ))[31] . قيل : ما ترك السنة ؟ قيل : الخروج عن الجماعة . ونكث الصفقة : أن يبايع رجلا ثم يخرج عليه بالسيف يقاتله ، فهذا وأمثاله من الألفاظ لا يحيط بالعدد كله ، ولا يدل على حد جامع فيبقى لا محالة مبهما .

    فإن قلت : الشهادة لا تقبل إلا ممن يجتنب الكبائر ، والورع عن الصغائر ليس شرطا في قبول الشهادة ، وهذا من أحكام الدنيا ، فاعلم أنا لا نخصص رد الشهادة بالكبائر ، فلا خلاف في أن من يسمع الملاهى ويلبس الديباج ويتختم بخاتم الذهب ويشرب في أوانى الذهب والفضة لا تقبل شهادته ، ولم يذهب أحد إلى أن هذه الأمور من الكبائر ، وقال الشافعى رضي الله عنه : إذا شرب الحنفى النبيذ حددته ولم أرد شهادته ، فقد جعله كبيرة بإيجاب الحد ولم يرد به الشهادة ، فدل على أن الشهادة نفيا وإثباتا لا تدور على الصغائر والكبائر ، بل كل الذنوب تقدح في العدالة إلا ما لا يخلو الإنسان عنه غالبا بضرورة مجارى العادات : كالغيبة ، والتجسس ، وسوء الظن ، والكذب فى بعض الأقوال ، وسماع الغيبة ، وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وأكل الشبهات ، وسب الولد والغلام ، وضربهما بحكم الغضب زائدا على المصلحة ، وإكرام السلاطين الظلمة ، ومصادقة الفجار ، والتكاسل عن تعليم الأهل والولد جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين ، فهذه ذنوب لا يتصور أن ينفك الشاهد عن قليلها ، أو كثيرها إلا بأن يعتزل الناس ويتجرد لأمور الآخرة ، ويجاهد نفسه مدة بحيث يبقى على سمعته مع المخالفة بعد ذلك ، ولو لم يقبل إلا قول مثله لعز وجوده وبطلت الأحكام والشهادات . وليس لبس الحرير وسماع الملاهى واللعب بالنرد ومجالسة أهل الشرب في وقت الشرب والخلوة بالأجنبيات وأمثال هذه الصغائر من هذا القبيل ، فإلى مثل هذا المنهاج ينبغى أن ينظر في قبول الشهادة وردها لا إلى الكبيرة والصغيرة ، ثم آحاد هذه الصغائر التى لا ترد الشهادة بها لو واظب عليها لأثر في رد الشهادة كمن اتخذ الغيبة وثلب الناس عادة ، وكذلك مجالسة الفجار ومصادقتهم ، والصغيرة تكبر بالمواظبة ، كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة ، كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام وغيره ، فهذا بيان حكم الصغائر والكبائر .



    بيان كيفية نوزع الدرجات والدركات في الآخرة على الحسنات والسيئات في الدنيا



    اعلم أن الدنيا من عالم الملك والشهادة ، والآخرة من عالم الغيب والملكوت وأعنىبالدنيا حالتك قبل الموت ، وبالآخرة حالتك بعد الموت ، فدنياك وآخرتك صفاتك وأحوالك يسمى القريب الدانى منها دنيا ، والمتأخر آخرة ، ونحن الآن نتكلم من الدنيا فى الآخرة ، فإنا الآن نتكلم في الدنيا وهو عالم الملك ، وغرضنا شرح الآخرة وهى عالم الملكوت ، ولا يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال ، ولذلك قال تعالى : ﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾ ( العنكبوت : 43 ) وهذا لأن عالم الملك نوم بالإضافة إلى عالم الملكوت ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ))[32] وما سيكون في اليقظة لا يتبين لك في النوم إلا الأمثال المحوجة إلى التعبير ، فكذلك ما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبين في نوم الدنيا إلا في كثرة الأمثال ، وأعنى بكثرة الأمثال ما نعرفه من علم التعبير ، ويكفيك منه إن كنت فطنا ثلاثة أمثلة . فقد جاء رجل إلى ابن سرين فقال : رأيتك كأن في يدى خاتما أختم به أفواه الرجال وفروج النساء ، فقال : إنك مؤذن تؤذن في رمضان قبل طلوع الفجر . قال : صدقت . وجاء رجل آخر فقال : رأيت كأنى أصب الزيت في الزيتون . فقال : إن كان تحتك جارية اشتريتها ففتش عن حالها فإن أمك سبيت في صغرك ؛ لأن الزيتون أصل الزيت فهو يرد الى الأصل ، فنظر فإذا جاريته كانت أمه وقد سبيت في صغره . وقال له آخر : رأيت كأنى أقلد الدر في أعناق الخنازير ، فقال : إنك تعلم الحكمة غير أهلها ، فكان كما قال ، والتعبير من أوله إلى آخره أمثال تعرفك طريق ضرب الأمثال ، وإنما نعنى بالمثل أداء المعنى في صورة إن نظر إلى معناه وجده صادقا ، وإن نظر إلى صورته وجده كاذبا ، فالمؤذن إن نظر إلى صورة الخاتم والختم به على الفروج رآه كاذبا ، فإنه لم يختم به قط ، وإن نظر إلى معناه وحده صادقا إذ صدر منه روح الختم ومعناه وهو المنع الذي يراد الختم له ، وليس للأنبياء أن يتكلموا مع الخلق إلا بضرب الأمثال ، لأنهم كلفوا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم ، وقدر عقولهم أنهم في النوم والنائم لا يكشف له عن شيء إلا بمثل ، فإذا ماتوا انتبهوا وعرفوا أن المثل صادق ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ((قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ))[33] . وهو من المثال الذي لا يعقله إلا العالمون ، فأما الجاهل فلا يجاوز قدره ظاهر المثال لجهله بالتفسير الذي يسمى تأويلا ، كما يسمى تفسير ما يرى من الأمثلة في النوم تعبيرا فيثبت لله تعالى يدا واصبعا - تعالى الله عن قوله علوا كبيرا - وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله خلق آدم على صورته ))[34] ، فإنه لا يفهم من الصورة إلا اللون والشكل والهيئة فيثبت لله تعالى مثل ذلك - تعالى الله عن قوله علوا كبيرا - من ههنا زل من زل في صفات إلهية حتى في الكلام وجعلوه صوتا وحرفا إلى غير ذلك من الصفات ، والقول فيه يطول ، وكذلك قد يرد في أمر الآخرة ضرب أمثله يكذب بها الملحد بجمود نظره على ظاهر المثال وتناقضه عنده ، كقوله صلى الله عليه وسلم : (( يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح ))[35] ، فيثور الملحد الأحمق ويكذب ويستدل به على كذب الأنبياء ويقول : يا سبحان الله . الموت عرض والكبش جسم فكيف ينقلب العرض جسما ؟ وهل هذا إلا محال ، ولكن الله تعالى عزل هؤلاء الحمقى عن معرفة أسراره فقال : ﴿ وما يعقلها إلا العالمون ﴾ ( العنكبوت : 43 ) ولا يدرى المسكين أن من قال : رأيت في منامى أنه جىء بكبش وقيل : هذا هو الوباء الذي في البلد وذبح فقال المعبر : صدقت والأمر كما رأيت ، وهذا يدل على أن هذا الوباء ينقطع ولا يعود قط ، لأن المذبوح وقع اليأس منه ، فإذن المعبر صادق في تصديقه ، وهو صادق في رؤيته ، وترجع حقيقة ذلك إلى أن الموكل بالرؤيا وهو الذي يطلع الأرواح عند النوم على ما في اللوح المحفوظ عرفه بما في اللوح المحفوظ بمثال ضربه له ، لأن النائم إنما يحتمل المثال ، فكان مثاله صادقا وكان معناه صحيحا ، فالرسل أيضا إنما يكلمون الناس في الدنيا وهى بالإضافة إلى الآخرة نوم ، فيوصلون المعانى إلى أفهامهم بالأمثله حكمة من الله ولطفا بعباده وتيسيرا لإدراك ما يعجزون عن إدراكه دون ضرب المثل ، فقوله : (( يؤتى بالموت في صورة كبش أملح )) مثال ضربه ليوصل إلى الأفهام حصول اليأس من الموت ، وقد جبلت القلوب على التأثر بالأمثلة وثبوت المعانى فيها بواسطتها ، ولذلك عبر القرآن بقوله : ﴿ كن فيكون ﴾ ( البقرة : 117 ، آل عمران ، ... ) عن نهاية القدرة ، وعبر صلى الله عليه وسلم بقوله : (( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن )) عن سرعة التقليب . وقد أشرنا إلى حكمه ذلك في كتاب " قواعد العقائد " من ربع العبادات فلنرجع الآن إلى الغرض ، فالمقصود أن تعريف توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات لا يمكن إلا بضرب المثال ، فلنفهم من المثل الذي نضربه معناه لا صورته ، فنقول : الناس في الآخرة ينقسمون أصنافا وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتا لا يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها ولا تفارق الآخرة في هذا المعنى أصلا ألبته ، فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له ، وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها ، إلا أنا إن عجزنا عن احصاء آحاد الدرجات فلا نعجز عن إحصاء الأجناس . فنقول : الناس ينقسمون في الآخرة بالضرورة إلى أربعة : أقسام هالكين ، ومعذبين ، وناجين ، وفائزين . ومثاله في الدنيا أن يستولى ملك من الملوك على اقليم فيقتل بعضهم فهم الهالكون ، ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون ، ويخلى بعضهم فهم الناجون ، ويخلع على بعضهم فهم الفائزون ، فان كان الملك عادلا لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق ، فلا يقتل إلا جاحدا لاستحقاق الملك معاندا له في أصل الدولة ، ولا يعذب الا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلو درجته ، ولا يخلى إلا معترفا له برتبة الملك لكنه لم يقصر ليعذب ولم يخدم ليخلع عليه ، ولا يخلع الا على من ابلى عمره في الخدمة والنصرة ، ثم ينبغى أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة ، وإهلاك الهالكين إما تحقيقا بجز الرقبة أو تنكيلا بالمثلة بحسب درجاتهم في المعاندة ، وتعذيب المعذبين في الخفة والشدة وطول المدة وقصرها واتحاد انواعها واختلاقها بحسب درجات تقصيرهم ، فتقسم كل رتبة من هذه الرتب الى درجات لا تحصى ولا تنحصر ، فكذلك فافهم أن الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون ، فمن هالك ، ومن معذب مدة ، ومن ناج يحل في دار السلامة ، ومن فائز . والفائزون ينقسمون الى من يحلون في جنات عدن أو جنات المأوى أو جنات الفردوس ، والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب قليلا وإلى من يعذب ألف سنة إلى سبعة آلف سنة ، وذلك آخر من يخرج من النار كما ورد في الخبر[36] وكذلك الهالكون الآيسون من رحمة الله تتفاوت دركاتهم ، وهذه الدرجات بحسب اختلاف الطاعات والمعاصى فلنذكر كيفية توزعها عليها .

    ( الرتبة الأولى ) : وهى رتبة الهالكين ونعنى بالهالكين الآيسين من رحمة الله تعالى ، إذ الذي قتله الملك في المثال الذي ضربناه آيس من رضا الملك وإكرامه فلا تغفل عن معانى المثال ، وهذه الدرجة لا تكون إلا للجاحدين والمعرضين المتجردين للدنيا المكذبين بالله ورسله وكتبه ، فإن السعادة الأخروية في القرب من الله والنظر إلى وجهه ، وذلك لا ينال أصلا إلا بالمعرفة التى يعبر عنها بالإيمان والتصديق ، والجاحدون هم المنكرون ، والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الآباد وهم الذين يكذبون برب العالمين وبأنبيائه المرسلين ، إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة ، وكل محجوب من محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه لا محالة ، فهو لا محالة يكون مخترقا نار جهنم بنار الفراق ، ولذلك قال العارفون : ليس خوفنا من نار جهنم ، ولا رجاءونا للحور العين، وإنما مطالبنا اللقاء ، ومهربنا من الحجاب فقط . وقالوا : من يعبد الله بعوض فهو لئيم ، كأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره ، بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها ، وأما النار فقد لا يتقيها . إذ نار الفراق إذا استولت ربما غلبت النار المحرقة للأجسام ، فإن نار الفراق نار الله الموقدة التى تطلع على الأفئدة ، ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام : وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد ولذلك قيل :

    وفي فؤاد المحب نـار جـوى أحر نـار الجحيـم أبردهـا
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  2. #2
    الصورة الرمزية منى محمود حسان قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    المشاركات : 1,584
    المواضيع : 163
    الردود : 1584
    المعدل اليومي : 0.24

    افتراضي

    الأخ الكريم د. هزاع
    بارك الله فيك وجزاك خير الجزاء
    وجعل ما كتبته فى ميزان حسناتك وما نفعتنا به إن شاء الله
    وندعو الله أن يرزقنا توبة قبل الموت وشهادة عند الموت ومغفرة بعد الموت وعفوعند الحساب وآماناً من العذاب ولذة النظر إلى وجهه الكريم ، اللهم آمين
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية د. عمر جلال الدين هزاع شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2005
    الدولة : سوريا , دير الزور
    العمر : 50
    المشاركات : 5,078
    المواضيع : 326
    الردود : 5078
    المعدل اليومي : 0.75

    افتراضي

    آمين
    آمين

    بورك فيك أخيتي الطاهرة
    لك الود
    والتقدير

  4. #4
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    الامر خطير خصوصا حينما يتعلق الامر في المعاملات بين البشر فالصغائر قد تكون عند الله من الكبائر

    أما في شعائر العبادات فان الله تعالى يأخذ العبد برحمته التي وسعت كل شىء ....

    وهناك فرقة ظهرت في الاسلام ارجأت الامر كله الى الله تعالى .... ومعلوم ان الارجاء دين الملوك كما فطن الى ذلك الخليفة المأمون ليستفيد من قلب هذه الموازين فيعتبر السلطان كبائره مع المحكومين صغائر مخادعا ً ايانا ....


    \


    بالغ تقديري
    الإنسان : موقف

  5. #5
    الصورة الرمزية د. عمر جلال الدين هزاع شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2005
    الدولة : سوريا , دير الزور
    العمر : 50
    المشاركات : 5,078
    المواضيع : 326
    الردود : 5078
    المعدل اليومي : 0.75

    افتراضي

    أهلاً باخي الكريم
    فتحت نافذة جديدة للحوار
    سنعود إليها قريباً

    تقديري

  6. #6
    الصورة الرمزية عبدالصمد حسن زيبار مستشار المدير العام
    مفكر وأديب

    تاريخ التسجيل : Aug 2006
    المشاركات : 1,887
    المواضيع : 99
    الردود : 1887
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي

    بارك الله فيك أستاذنا الغالي هزاع


    بالغ تقديري لي عودة
    تظل جماعات من الأفئدة ترقب صباح الانعتاق,لترسم بسمة الحياة على وجوه استهلكها لون الشحوب و شكلها رسم القطوب ,يعانقها الشوق و يواسيها الأمل.

المواضيع المتشابهه

  1. كيف نفهم الشيخ الغزالى
    بواسطة هشام النجار في المنتدى الحِوَارُ المَعْرِفِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 24-03-2014, 04:32 PM
  2. التحدى بين الغزالى وفؤاد زكريا
    بواسطة هشام النجار في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 19-03-2014, 09:55 AM
  3. القصيده المحمديه للامام البوصيرى
    بواسطة يحيى زكريا في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 19-06-2007, 08:16 PM
  4. مَن قتل مَن ؟
    بواسطة سعيد أبو نعسة في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 01-12-2006, 09:20 PM