أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 12

الموضوع: بين مستوياتِ اللغةِ الشعرية، وأبعادِ التجربة الإبداعية

  1. #1
    الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
    في ذمة الله

    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : محارة شوق
    العمر : 64
    المشاركات : 3,523
    المواضيع : 160
    الردود : 3523
    المعدل اليومي : 0.54

    افتراضي بين مستوياتِ اللغةِ الشعرية، وأبعادِ التجربة الإبداعية

    • رؤية نقدية
    بين مستوياتِ اللغةِ الشعرية، وأبعادِ التجربة الإبداعية
    قراءة في البناء اللغوي لقصيدة : "اسمُك راشيل كوري" للشاعرة: فاطمة ناعوت
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    راشيل كوري تحاول إيقاف جرافة الاحتلال الصهيوني
    مدخل:
    تهدف هذه القراءة إلى تأمل العلاقة بين توظيف القصيدة لمستويات اللغة ، وأبعاد التجربة الإبداعية التي تخوضها.
    ولما كانت القصيدة الجيدة ذات أبعاد متعددة كان لا بد لقارئها محاولة رصد تلك الأبعاد وتجليتها ، وقد رأيت في البحث عن مستويات اللغة المتدرجة، وأساليبها المتنوعة ، ووظائفها السياقية سبيلا مهما من سبل الكشف عن أسرار بنائها اللغوي، ودلالاته الثرية.
    تقول تشايكا( Chaika ): "إن الأسلوب يشير إلى انتقاء أشكال لغوية معينة بغرض إيصال تأثيرات اجتماعية أو فنية ما". (1)
    وتوضح قيمة هذه الأشكال قائلة:" أشكال لغوية متناوبة لإيصال المشاعر الشخصية أو الرسائل الأخرى اجتماعية اجتماعيةً كانت أو فنية".(2)
    فهي إذن "أساليب تتوزع على المواقف المختلفة فيأتي الوقت المناسب لكل منها عندما يحصل الموقف الذي يقتضي هذا الأسلوب أو ذاك".(3)
    وهنا تظهر مقدرة المبدع في انتقاء هذه المستويات الدالة على الأبعاد الفنية والإنسانية ، وأرى أننا يمكننا أن نتخذ قصيدة:" "اسمُك راشيل كوري" للشاعرة: فاطمة ناعوت". أنوذجًا لبيان القيمة الفنية والدلالية لتوظيف المستويات اللغوية المتعددة في النص الشعري، لأنها جاءت معبرة عن تجربة إنسانية مشحونة بالأبعاد النفسية ، الاجتماعية والسياسية كل ذلك في بناء فني موحٍ.
    أولا: النص :
    "طبعًا
    كنتِ ترسمين وردةً
    في أوراق حصة الحساب
    وتومئين للمعلِّمة بين لحظةٍ وأخرى
    كأنكِ تتابعين الدرس.
    وربما
    شُغِلتِ بابنِ الجيران
    عن إتمام واجب التاريخ
    لتضحكَ البناتُ في الفصل
    من دفترك المملوء قلوبًا وأسهمًا
    محلَّ أسبابَ الحملة الفرنسية على مصر،
    أقصد
    أسبابَ محوِ فيتنام
    وحتميةَ القرنِ الأميركي.
    ولابد نامَ شعرُك محلولاً
    في انتظار كوبِ الحليب
    وقُبلة الأمِّ في الصباح،
    تحلُمين بولدٍ أزرقِ العينين
    سيحلُّ يومًا محلَّ دبدوبِكِ الأبيضْ.
    أزرقُ وأبيضُ
    موجٌ وزبَد
    لونان جميلان!
    في زهرةٍ بفستان صبية،
    وجناح عصفورٍ فوق حافةِ شرفتك
    وسماءٍ وسحابة في كراسة رسم،
    في ألبوم الصور،
    وليس في عَلَمٍ ينقرُ عينَ صبيٍّ
    بستة مناقيرَ مدببةٍ
    حتى ولو حملَ
    اسمَ نبيّ.
    مثلَ البنات تحلُمين
    في الصباح تحملين كيس الفلوس
    وتعودين بعد ساعة من المتجر
    بكيس كرفس وبازلاّء
    ولن تنسي كيزانَ الذرةِ الصفراءِ التي يحبها الصغار.
    طناجرُ وملاعقُ
    وأكروبات
    بين المطبخ والمغسلة
    وغرفة الأطفال التي يجبُ أن تُرتَّبُ
    قبل الرابعة.
    ماما خرجنا اليومَ لنطاردَ الضفادعَ
    وغدًا نمزّقُها بالمِشرط
    حرامٌ يا ديفيد!
    ماما هو درس التشريح
    كي نعرفَ ماذا تخبئُ في بطنها.
    قومي يا حبيبة وكفى نومًا
    البناتُ بالخارج
    ...
    ما أثقلَ نومَك يا راشيل
    قومي!
    لكنني لن أذهبَ للمرقص
    أمي أين باسبوري الأزرق؟
    مثلُنا جميعًا يا بنت
    أحببتِ وحاورتِ المرآةَ
    وأخجلتكِ نقطةٌ حمراءُ في الفستان،
    مثلُنا جميعًا
    رسمتِ كيوبيد وسهمًا وحرفيْن
    وانتظرتِ الفارسَ والحصان،
    مثلَ كلِّ صبيّةٍ سمراء
    تمنيتِ حذاءً عاليَ الكعبِ
    وجوربًا شفافًا
    وأضجرتِك شرائطُ الشَّعرِ والضفيرة،
    ومثلنا – لو كنت تمهلّت–
    ستنتجين صغارًا
    وتلعنين سخافاتِ الرجال
    مثلنا أنتِ
    لكننا لم نقف أمام جرّافة لتسحقَنا
    لنوقفَ مدفعًا
    يريد أن يخطفَ طفلا
    من ضحكته." (4)
    ==

  2. #2
    الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
    في ذمة الله

    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : محارة شوق
    العمر : 64
    المشاركات : 3,523
    المواضيع : 160
    الردود : 3523
    المعدل اليومي : 0.54

    افتراضي 2

    ثانيا: القراءة :
    تمثل قصيدة :"اسمُك راشيل كوري" للشاعرة المصرية : فاطِمَـة ناعـُوت ، حوارا خاصًّا جدا ورسالة حميمةً إلى الشابة : "راشيل كوري (Rachel Corrie) "المتصفة – يقول الدكتور إدوارد سعيد- بالبطولة والشعور بالكرامة في الوقت نفسه. والتي ولدت ونشأت في أوليمبيا، وهي مدينة صغيرة تبعد 60 ميلاً جنوب سياتل، وانضمت إلى "حركة التضامن العالمية" وذهبت إلى غزة للوقوف إلى جانب بشر معذبين لم تكن لها أي صلة بهم من قبل، وقتلت في 16 مارس الماضي(2003م) في غزة ببلدوزر إسرائيلي، بصورة متعمدة، لأنها كانت تحاول ببسالة أن تمنع تدمير منزل فلسطيني في رفح" (5)
    ولكن الشاعرة المتميزة:" فاطمة ناعوت" لن تحدثنا عن راشيل كوري من تلك الزاوية وإنما تختار –بعين الفنان- زاوية أخرى ،فتُجري معها حوارا إنسانةً طبيعيةً ، وصديقةً قديمةً بدءًا من العنوان الأخاذ : "اسمك راشيل كوري"(6)
    كأن شاعرتنا مشفقة على (صديقتها) من أنها نسيت كل شيء – حتى اسمها - في غمار انشغالها بواجبها الإنساني ، فهي تحتاج منها أن تعرفها باسمها، بل أن تفتخر بهذا الاسم ؛ لأنها لم تكن تدري ما كان ينتظرها من فخر أن تتحدى أولياء الأمر على بلادها وعلى العالم، وأن تقف بوجه ربتهم وربيبتهم إسرائيل.
    إن الخطاب منذ العنوان مُوَجَّهٌ إلى راشيل، فلم تقل الشاعرة :اسمها راشيل،بضمير الغيبة وإنما اختارت ضمير الخطاب : كأنها تقول لنا إن قضيتي ليست معكم وإنما معك أنت يا راشيل، أريد أن أعيد إليك اسمَكِ الذي انشغلتِ عنه ، وبطولتكِ التي تشاغلتِ عنها يا صديقتي ؛ لأنكِ ببساطة لم تكوني إلى بطولة تسعيْن بل إلى إنسانية مشرقة ترْقَيْن.
    وتلك خدعة جديدة من خدع الشعر .
    فلا تتجه القصيدة إلينا ( إلى الجمهور) ، بل إليها ، ولهذا تبدأ القصيدة بكلمة :"طبعا" التي ستصبغ القصيدة بتلك السمة التي اختارتها الشاعرة في حوارها الخاص بصورة حميمة كأنها تتحدث مع صديقة قديمة تنتقل معها بالذكريات باستخدام الأزمنة اللغوية الثلاثة في تضافر عجيب
    فالأفعال الماضية (كنت – شُغلتَ) ينقلنا إلى عالم الذكرى ، بينما تجسد الأفعال المضارعة( ترسمين – تومئين – تتابعين ) المشهد حيا كأننا يتحرك الآن أمامنا ) ثم يأتي الزمن المستقبل :
    (سيحلُّ يومًا محلَّ دبدوبِكِ الأبيضْ - ولن تنسي كيزانَ الذرةِ الصفراءِ التي يحبها الصغار- ومثلنا – لو كنت تمهلّت ستنتجين صغارًا) لنتابع راشيل في مسيرة حياتها على مستوى الحلم والتخيل.
    ولا تكتفي الشاعرة بهذه الأزمنة الرئيسة ، في رسم المشهد، بل تلجأ إلى زمن فرعي داخلي :
    وغرفة الأطفال التي يجبُ أن تُرتَّبُ
    قبل الرابعة.
    لتضفي على المشهد سمةً واقعية تسجيلية
    هكذا تمر أمامنا المشاهد في تتابع سلس بين الفقرات، بأسلوب تصويري، تتقنه الشاعرة لتجسد لنا الأماكن المشحونة بالذكرى والحياة: حصة الدرس - بيت الجيران - حجرة النوم الخاصة - قاعة التشريح – أماكن اللهو - وفي الخلفية تتراءى من بعيد مشاهد أخرى: الحملة الفرنسية على مصر، محوِ فيتنام وحتميةَ القرنِ الأميركي.
    ونحن في هذه المشاهد جميعا نتابع رحلة بطلتنا، نراها، نتأملها، نتعاطف معها.
    أما الحوار فقد نهض بدور بارز في رسم المشهد وحيويته، واختيار المستوى اللغوي الملائم للحوار، كما يتجلى في أسلوب نداء الأم في مستويات لغوية متعددة، فتأتي أولا كلمة (ماما) بما تحمل من عفوية وحميمية.
    "ماما هو درس التشريح
    كي نعرفَ ماذا تخبئُ في بطنها.
    قومي يا حبيبة وكفي نومًا"
    بينما في مستوى آخر من مستويات الحوار تستعمل كلمة "أمي"
    "أمي أين باسبوري الأزرق؟"
    إحساسا منها باختلاف الموقف!
    وفي موقف ثالث ، تلجأ إلى مستوى لغوي مختلف خارج اللغة العربية إلى لغة الفتاة الأم :
    But Ma, I was dreaming!
    لتنقلنا إلى عالمها الخاص نقلا حيا!
    وهذا توظيف جيد لمستويات لغوية للتعبير عن أبعاد تجربة شعرية.
    وكذلك ينجح أسلوب التعجب :" ما أثقلَ نومَك يا راشيل!"
    والاستفهام : "كي نعرفَ ماذا تخبئُ في بطنها." في إثراء الحوار بأساليب حيوية معبرة.
    كانت الشاعرة - إذن - ماهرة في تصوير البطولة تصويرا إنسانيا قريبا منا، فلم تلجأ إلى جعل بطلتها وبطلتنا في صورة أسطورية بل صورتها لنا فتاة طبيعية (وجاءت كلمة "طبعًا" في بدء القصيدة) موفقة في أداء هذا المعنى.
    إنها فتاة طبيعية (مثلنا جميعا)
    ""مثلنا أنتِ يا بنت"
    ولاحظ اختيار المنادى الذي يدل على مدى الاقتراب إنه من قبيل نداء الأصدقاء الذي ترفع فيه الكلفة ؛ فـ "راشيل" هنا ربما كانت زميلة في حصة الدرس أو جارة في المنزل القديم بل ربما كانت هي الشاعرة ذاتها، وقد نجحت التفاصيل الصغيرة في تقريب الصورة إلينا كأننا نراها رأي العين ، كلُّ التفاصيل عدا تفصيلة واحدة هي تلك "النقطة الحمراء" التي خدشت السياق الفني . ومشكلتها أنها ستشغل القارئ بظلالها الثقيلة عن تأمل اللوحة الكلية القصيدة، وهي لوحة بارعة ، أرى في تفاصيلها الثرية الموحية ما يُغني عن تلك النقطة . لاسيما وقد جاءت بعد صورة محاورة المرآة المعبرة، وهو تعبير مبتكر فالفتاة هنا لا تقنع بالنظر في المرآة بل هي تدخل معها في حوار!
    بما يعمق من قيمة الحوار في هذه القصيدة
    وهذه التفاصيل تدل على أن الشاعرة عُنِيَتْ عنايةً فائقةً بتعمق شخصية راشيل كوري الحقيقية، فقد قرأتِ رسائلها بل استذكرتها،(7)
    ولم تكتفِ شاعرتنا المجتهدة بذلك بل أضافتْ إليها من عالمها الخاص ومن فنِّها تفاصيل أخرى زادتها منا قربا، وحياةً.
    ومثل مخرج سينمائي واعٍ يبدأ المشهد صغيرا بسيطا من مفردات طفولية بريئة :
    "ولابد نامَ شعرُك محلولاً
    في انتظار كوبِ الحليب
    وقُبلة الأمِّ في الصباح"
    إلى مرحلة إنسانية أخرى باستخدام تقنية الحلم:
    "تحلُمين بولدٍ أزرقِ العينين
    سيحلُّ يومًا محلَّ دبدوبِكِ الأبيضْ.
    أزرقُ وأبيضُ
    موجٌ وزبَد
    لونان جميلان!
    في زهرةٍ بفستان صبية،
    وجناح عصفورٍ فوق حافةِ شرفتك
    وسماءٍ وسحابة في كراسة رسم،
    في ألبوم الصور"
    ثم بكاميرا خفية تنقلنا من عالم الحلم والجمال فإذا نحن أمام المأساة: وجها لوجه:
    "وليس في عَلَمٍ ينقرُ عينَ صبيٍّ
    بستة مناقيرَ مدببةٍ
    حتى ولو حملَ
    اسمَ نبيّ"
    إن هذا المشهد يجسد ذروة النمو الدرامي للقصيدة. فهو مبني على المشاهد السابقة ، وممهد للمشاهد التالية ، وهو مشهد موحٍ ثري بتراكيب مشحونة بالشعور تنثرها الشاعرة لكنها في النهاية تتآلف معا في تشكيل فني، وإيقاع عذب متسق مع طبيعة التجربة ، ووعي مدرك بأسلوب رمزي تصويري غير مباشر. إن الشاعرة لم تلجأ إلى التصريح بلفظ "العلم الإسرائيليّ" ولا بالنجمة السداسية وإنما ابتكرت صورة جديدة لطيور جارحة ذات مناقيرَ ستةٍ مدببةٍ تنقر عين صبي. ولن يشفع لهذه الصقور الجارحة أن تتستر باسم نبي الله يعقوب (إسرائيل(.
    و المشهد يختار أدوات التشكيل من لونين ( الأزرق والأبيض) يوحيان بالبحر والسماء فيعطيان للمشهد بعدا وأفقا جديدين. لقد نما المشهد في كراسة الرسم حتى أصبح مشهدا كونيا مرسوما بالسحاب وأجنحة العصافير كما يتلمس أيضا وسائط الرسم؛ فإذا هي:
    "فستان الصبية، وكراسة الرسم وألبوم الصور"
    وكما يختار الرسام ريشته وألوانه ووسائطه يأتي دور الشاعر باستبعاد مالا يريد عن لوحته ونفي ما يرفض. ولكن النفي لن يمحو ما يراد نفيه تماما ولكنه يجعله في مكان ما من الصورة لا يحظى بالتعاطف بل بالرفض. وهذا ما أسميه ببلاغة النفي. فالنفي لا يمحو الصورة وإنما يبعدها عن صدارة اللوحة. أضف إلى ذلك لعبة التبادل اللوني بين الدبدوب الأبيض، ولون عيني الطفل، بما يؤكد الحس التشكيلي اللوني لدى الشاعرة حتى تجعلنا نتأمل كيف يتولد اللون الأزرق من الأبيض، كما يتولد الأبيض(الزبد) من زرقة البحر.
    وفي حين اختارت القصيدة أسلوب الخطاب (مخاطبة راشيل كوري) فها نحن نكتشف مع نهاية القصيدة أنه لم يكن إلا خطابا لنا بأسلوب غير مباشر على غرار "الكلام لكِ واسمعي يا جارة".
    والجارة هي نحن المتفرجين!

    http://www.bintjbeil.com/images/album/0com_rachel.html
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي ولريشة الغالية أهداب الشكر الجميل

  3. #3
    الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
    في ذمة الله

    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : محارة شوق
    العمر : 64
    المشاركات : 3,523
    المواضيع : 160
    الردود : 3523
    المعدل اليومي : 0.54

    افتراضي 3

    وهذه القصيدة تثبت ارتياد قصيدة النثر على - يد فاطمة ناعوت - آفاقًا جديدةً غير تلك التي حددها الآباء المؤسسون، وذلك على مستويات كثيرة منها مستوى الوعي حين تختار القصيدة راشيل كوري التي انتصرت على البلدوزر الإسرائيلي، وعهدنا بقصيدة النثر غير ذلك!
    و كذلك على مستوى البناء بما تمتلك من حس درامي ، ولغة سينمائية لا نحظى بهما كثيرا.
    وبيننا نحن في استرسال مع هذه التفاصيل الحميمة لحياة الفتاة التي هي مثل الفتيات جميعا ، كما عبرت الشاعرة أكثر من مرة:
    مثلَ البنات تحلُمين - مثلُنا جميعًا يا بنت - مثلَ كلِّ صبيّةٍ سمراء)
    وبعد أن اطمأنت الشاعرة أننا اقتنعنا بأن راشيل بنت مثل كل البنات على مستوى الحلم والواقع، والمستقبل المتخيل ، إذا بها تقطع هذا الاسترسال باستدراك يبدو هادئا:
    "مثلنا أنتِ يا بنت
    لكننا لم نقف أمام جرّافة لتسحقَنا
    لنوقفَ مدفعًا
    يريد أن يخطفَ طفلا
    من ضحكته."
    فقد ألقتْ علينا الاستدراك بهدوء وقرأناه نحن بهدوء، لكننا بعد أن ننتهي من قراءته نكتشف أنها كانت تخدعنا، نكتشف أن الفتاة التي صادقناها وعايشناها عن قرب، ليست مثلنا تماما كما تخيلنا بل إنها مختلفة عنا ؛ لأنها ببساطة شديدة وقفت أمام جرَّافة لتوقف مدفعا يريد أن يخطف طفلا من ضحكته!
    (لاحظ تصوير الجريمة شعريا لم تصرخ الشاعرة بأن هذه الجرافة تريد أن تهدم منازل أهليها، وتخطف وطنا والشاعرة تدرك ذلك يقينا، لكنها أرادت تكثيف هذه المعاني في معادل موضوعي فني ، فكان "مدفعا يريد أن يخطف طفلا من ضحكته".)
    ها نحن نكتشف أن تحت هذا السطح الهادئ انفجارا هائلا و دويا مزلزلا، لم تشأ الشاعرة –بذكاء- أن تصدمنا بهما، ولكنها استدرجتنا كي نكتشفهما معها.
    بل إن الشاعرة لم تسند البطولة – على مستوى اللغة - إلى البطلة بل التفتتْ إلينا نحن ؛ لأننا نحن الذين لم نصنع ما صنعت راشيل كوري!
    لكننا لم نقف أمام جرّافة لتسحقَنا!
    في هذه اللحظة اندمج المتفرجين مع الشاعرة في ضمير المتكلمين ، حتى صرنا فريقا واحدا .
    كأنها تقول: "إن المسألة ليست ما صنعت "راشيل" بل ما لم نصنعه نحن(انا وأنتم) . والقضية ليست إسباغ ثياب أسطورية على بطلة قامت بواجبها الإنساني، وإنما إدانة لنا جميعا؛ إذ قنعنا بدور النظارة المتفرجين!
    وهذا الأسلوب عن طريق التلميح أبلغ في إدانة السلبية – لمن يتأمل – من الأساليب المباشرة التي تنحو نحو التصريح.
    وهذا توظيف بارع للغة لدى فاطمة ناعوت، يشي بإدراك فاعليتها في تشكيل القصيدة ، وبنائها.
    هوامش:
    (1) انظر: . جلال محمد آل رشيد: مستويات العربية المعاصرة في خطاب الكويتيين. دهر الصدوق – الكويت 2001م : 77
    (2) انظر: السابق.
    (3) السابق.
    (4) جريدة لحياة : 16-2-2006م
    (5) انظر: الدكتور:إدوارد سعيد: "جريدة السفير، وفي جريدة الرياض(26-9-2003م): أن والدها كريغ كوري خلال اللقاء مع عرفات أعلن أنه "سيحث الكونغرس الأمريكي على ان يجري تحقيقا حول ظروف مقتل ابنته". وفتح الجيش الاسرائيلي تحقيقا حول هذه المأساة، ثم اقفل الملف ولم يتخذ تدابير تأديبية ضد المجرمين من جنوده.
    (6) لعل الشاعرة هنا تأثرت بعنوان مسرحية عرضت على مسرح "رويال كورت" بالعاصمة البريطانية لندن ( حتى نهاية إبريل 2005) مسرحية ترصد خطى الأمريكية راشيل كوري في رحلة بدأت بحياتها الناعمة في الولايات المتحدة وانتهت بمقتلها بمخيم رفح للاجئين الفلسطينيين بقطاع غزة؛ في محاولة لتقديم صورة للشابة التي دافعت عن السلام.
    حيث ترسم مسرحية "اسمي راشيل كوري" التي يخرجها الممثل البريطاني آلان ريكمان صورة شخصية لراشيل من خلال رسائلها عبر البريد الإلكتروني ويومياتها للكشف عن كاتبة شاعرية تتدفق منها الأفكار وتنضح بالحيوية وروح الفكاهة. (لندن- رويترز- إسلام أون لاين : 20-4-2005م )
    وقد نجحت الشاعرة فاطمة ناعوت في رصد هذه المراحل بتجسيدها مشاهد حية من خلال الغوص في أبعاد التجربة عبر مستويات اللغة - كما سترى-
    (7) راجع: رسائل راشيل كوري التي قتلها البلدوزر الإسرائيلي http://www.alsakher.com/vb2/showthread.php?t=70588
    ملحق:صور لـ "راشيل" التي قتلتها الجرافة الإسرائيلية من موقع:
    http://www.bintjbeil.com/images/album/0com_rachel.html

  4. #4
    الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
    في ذمة الله

    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : محارة شوق
    العمر : 64
    المشاركات : 3,523
    المواضيع : 160
    الردود : 3523
    المعدل اليومي : 0.54

    افتراضي

    ملحق لاحق

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    راشيل كوري صلاح نور الدين
    راشيل كوري، تقوم من الموت بعد ثلاثة أيام، في بيروت، وتحديدا في حارة حريك. راشيل كوري، الاسم كاملا، حملته المولودة الجديدة لزوجة صلاح مهدي نور الدين. كانت ما تزال منذ ولادتها في الثامن والعشرين من شباط الماضي، من دون اسم، والدها أراد أن يسميها “ليلى” ولكنه “غير عصري” برأي الوالدة، “تيا” قد يكون أفضل ليتناسب مع “ديانا” وقبلها “نتالي”، كلهن بنات صلاح. ناتالي من زوجته السويسرية الأولى، وديانا من زوجته الثانية، سميت كذلك تيمنا ب”الليدي ديانا التي قتلوها لأنها تحدتهم وأرادت الزواج بمسلم أو مصاحبته... “.

    و”راشيل، جميلة، رأيناها، أثر فينا مشهدها كثيرا، أحببنا ان نفي لها، هي التي استشهدت لأجلنا..”. لذلك لا يكفي “راشيل، وحدها، اسميناها راشيل كوري، لدينا راشيل، ولكن راشيل كوري، اسم اجنبي وغريب، وأنا مسلم، لا بد من أن يثير التساؤل فيأتي جوابنا للتذكير بها”. وسماها راشيل، من أجل أهلها أيضا “لقد اتصلت بوكالة “رويترز” وأردت أن يوصلوا الخبر لأهلها، ربما سنتواصل معهم لاحقا، وربما يشعرهم ذلك بالعزاء..”.

    صلاح، لا يهوى “الأسماء الغريبة، ولا هو صاحب فنعات” يرد علينا، لكنه صاحب ذاكرة، يقول. هو ابن خربة سلم، قاتل الاحتلال كما يقول مع “جبهة المقاومة الوطنية” ثم التحق ب”السرايا اللبنانية”. واليوم هو “كربلائي” الهوى، “أؤمن بالرسالة الكربلائية، لانها المنطق الذي هزم اسرائيل”. لكنه غير متعصب دينيا، “انا شيعي وامرأتي الأولى مسيحية والثانية سنية”.

    صلاح، خليط من “التواريخ”، هُزم في انتخابات نيابية ترشح إليها في العام 1996 “بفضل الأخوان” يقول.

    راشيل كوري صلاح نور الدين، هكذا سيكون اسمها طويلا، ولكن على الأرجح أنهم سيعتادون اختصاره “راشيل” وربما لأكثر. وسننسى بعد عشرين عاما، من كانت راشيل بل سننسى الأرض التي استشهدت فوقها. هل يمكن لاسم أن يكون حاجزا أمام النسيان. راشيل كانت تكافح النسيان بجسد، ونحن نكافحه باسم!



    منحة دراسية باسم راشيل
    تعقد الجمعية الاسلامية للتخصص والتوجيه العلمي مؤتمراً صحافياً عند الثانية عشرة من ظهر اليوم في مقرها في منطقة السبينس قرب مبنى امن الدولة في الرملة البيضاء، تعلن فيه عن تقديم منحة دراسية باسم الشهيدة الاميركية راشيل كوري التي دهستها جرافة اسرائيلية.
    منقول عن : http://www.bintjbeil.com/A/news/2003/0320_rachel.html

  5. #5
    الصورة الرمزية عبد القادر رابحي شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 1,735
    المواضيع : 44
    الردود : 1735
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    أستاذي الكريم
    ما شاء الله
    على القصيدة
    و على الدراسة
    تسجيل حضور في هذه العجالة
    سأعود إن شاء الله في أسرع وقت ممكن
    تحياتي

  6. #6
    الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
    في ذمة الله

    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : محارة شوق
    العمر : 64
    المشاركات : 3,523
    المواضيع : 160
    الردود : 3523
    المعدل اليومي : 0.54

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد القادر رابحي مشاهدة المشاركة
    أستاذي الكريم
    ما شاء الله
    على القصيدة
    و على الدراسة
    تسجيل حضور في هذه العجالة
    سأعود إن شاء الله في أسرع وقت ممكن
    تحياتي
    ========
    أخانا الغالي وشاعرنا المتميز إبداعا وإشعاعا : الأستاذ عبد القادر
    وبارك الله في جمال متابعتك بكل هذا النبل والفضل
    تسجيلك نقشٌ في القلب
    وعودتك أمل جميل مُسعد
    ما أجمل أن تكون في الجوار والحوار يا صديقي عبد القادر
    مصطفى

  7. #7
    الصورة الرمزية شموخ الحرف قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    الدولة : بين الحنايا
    المشاركات : 533
    المواضيع : 41
    الردود : 533
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي

    جميلة راشيل كوري بما حملته من فكر ماتت في سبيله
    ولله درها من كاتبة فاطمة ناعوت
    ما أجمل أن نجيد استخدام اللغة ونوظفها لتحمل أفكارنا وتجاربنا
    وهنا يتمايز صناع الكلمة
    د/ مصطفى :
    وقفة تقدير

  8. #8
    الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
    في ذمة الله

    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : محارة شوق
    العمر : 64
    المشاركات : 3,523
    المواضيع : 160
    الردود : 3523
    المعدل اليومي : 0.54

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شموخ الحرف مشاهدة المشاركة
    جميلة راشيل كوري بما حملته من فكر ماتت في سبيله
    ولله درها من كاتبة فاطمة ناعوت
    ما أجمل أن نجيد استخدام اللغة ونوظفها لتحمل أفكارنا وتجاربنا
    وهنا يتمايز صناع الكلمة
    د/ مصطفى :
    وقفة تقدير
    =======


    شموخ الحروف
    وما أجمل الحروف عندما تبنع من بين الحنايا بسموِّ الشموخ، ورقيِّ الوعي
    بعين على الثريا ترى الغد أفضل


    شكرا لنبل الحضور
    وتحية لجمال التقدير



    مصطفى

  9. #9

  10. #10
    الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
    في ذمة الله

    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : محارة شوق
    العمر : 64
    المشاركات : 3,523
    المواضيع : 160
    الردود : 3523
    المعدل اليومي : 0.54

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ليلى ناسيمي مشاهدة المشاركة
    تسجيل حضور ووقفة تقدير..
    وتحية لجمال ما حملته من حروف
    تحياتي
    =


    أديبتنا المبدعة ليلى

    شكرا لهذا التسجيل الغالي ،

    ولك أطيب التحيات
    وأصدق الدعوات


    مصطفى

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. رؤى وأبعاد في الفنون الأدبية -المستشار الأدبي : حسين علي الهنداوي
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى قَضَايَا أَدَبِيَّةٌ وَثَقَافِيَّةٌ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 21-05-2016, 09:09 PM
  2. الفلسفة -ماهية وأبعاد- المستشار الأدبي : حسين علي الهنداوي
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى التَّفكِيرُ والفَلسَفةُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 21-05-2016, 10:59 AM
  3. كيف تعرف صدق التجربة الشعرية
    بواسطة محمد محمد أبو كشك في المنتدى قَضَايَا أَدَبِيَّةٌ وَثَقَافِيَّةٌ
    مشاركات: 26
    آخر مشاركة: 30-08-2014, 02:34 AM
  4. القراءة الإبداعية
    بواسطة عطية العمري في المنتدى الإِعْلامُ والتَّعلِيمُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 08-07-2006, 01:02 PM
  5. القراءة الإبداعية ( منقول )
    بواسطة عطية العمري في المنتدى الإِعْلامُ والتَّعلِيمُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 16-03-2006, 08:28 AM