أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: العبّاسون

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Sep 2003
    المشاركات : 173
    المواضيع : 58
    الردود : 173
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي العبّاسون

    العبّاسون




    الهرم
    يهرم من الإنسان كل شيء، ويشب منه الحرص والوهم والأمل. الوهم كلمة وضعتها في المنتصف، ما بين الحرص والأمل، وأدرجتها من عندي أنا الراوي، لكن ما عليكم. دعونا نكمل، وأدعوكم معي إلى مشاهدة فيلم بنجامين بوتن الذي مثله براد بيت مؤخرا، لنتخيل معا كيف يشب الإنسان وهو هرِم. لقد ولد بنجامين وهو أعمى تقريبا، متيبس الأطراف متساقط الشعر، منكفئا على نفسه هرما على الأصح، ليشيب منه الحرص والأمل بدلا من أن يشبّا كما في الحكمة، وليبدأ في فقدهما مع إقباله على مرحلة الشباب، وكأنما تنطق رسالة الفيلم فعلا بما تقوله هذه الحكمة الأثيرة.
    **

    والآن، لننطلق معا بعيدا عن التفكير المجرد، إلى ثلاثة عبّاسين، نعم، لم تقرؤوا العبارة خطأً، ثلاثة عباسين، وما يهمني في هذه الحكاية هو التأكيد المؤكد، على أن أي واحد منهم، لم يكن ذا دراية بهذه الحكمة.
    **

    إنني أكتب في هذه الأسابيع حكاية أحاول أن ألملم بها من شتات ذاكرتي ومشاهدات صغري عن مكة المكرمة، وقد تحمل هذه القصة عنوان (توهان في الحرم)، أو جزءا آخر إضافيا إلى ثنائية (يومان في مكة) ذلك أن هذه الذاكرة تخذلني دائما، ليس بأنها لا تتذكر، وإنما بأنني أخيب دائما كلما تخيلت أنني اعتصرتها حتى لم يبق منها شيء. وبرغم أهمية الكتابة في هذا الموضوع إلا أنني انقطعت عنه لأكتب عن العباسين، وعن الهرم وشباب الحرص والأمل، فعليكم إذن يا أعزائي أن تتوقفوا عما يدور ببالكم وتلتزموا بما يدور ببالي.
    **

    لنتخيل شيئا محالا: شخصا يتجه إلى اتجاهين متعاكسين في وقت واحد. سوف أضرب مثالا بخط مستقيم يحتوي على ثلاث نقاط، ولنتحدث بطريقة أسهل لي على الأقل: في المنتصف: النقطة ب، وفي الطرف الأيمن: النقطة ألف، وعن الشمال: النقطة جيم. وإذن؛ فالنقاط على التوالي: أ، ب، ج. فإذا كان هذا الشخص في نقطة المنتصف ويريد الاتجاه إلى ألف أو جيم فذلك ممكن، ولكنه لن يستطيع الاتجاه إليهما معا. لكن يمكننا أن نتجاوز ونتخيل أنه يمتلك يدين طويلتين، يستطيع أن يحوز بها هاتين النقطتين، ولكنه في النهاية يبقى مستقرا في النقطة باء، وحتى لو استطاع أن يذهب إلى إحدى النقطتين الطرفيتين، ويحوز النقطتين الأخريين فإنه سيبقى في النقطة التي هو فيها، وحتى لو كان في المنتصف وأمسك بالنقطتين وحناهما إلى نفسه لتصبح النقاط مثل قلب مرسوم في تجراف فتاة مراهقة، حتى لو حصل ذلك فإنه سيبقى في النقطة باء، بالإضافة إلى أن الخط يفقد هويته ليصبح شكلا غير مضلع ولا يحتوي أي خط مستقيم، وعليه فإن الفكرة المطروحة سوف تنتفي من أساسها. المهم أن يستقر معنا، أنه مع تصور الخط المستقيم والنقاط الثلاث فإن الشخص يستحيل أن يكون في نقطتين متعاكستين في وقت معا، كما يستحيل أن يتوجه إلى اتجاهين متعاكسين في الوقت نفسه، وذلك لأن أبسط قواعد المعقول أن الجسم الواحد لا يمكن أن يكون في مكانين، وهو من ضمن قواعد منطقية عفا الدهر على ترديدها، مثل قاعدة: العرض لا يبقى زمانين. ولو قلنا بأن هذا الشخص يستطيع أن يكون في النقطة ألف ويتجه إلى باء وجيم، أو أن يكون في النقطة جيم ويتجه إلى باء وألف فإنه سوف يغادر النقطة التي يوجد فيها بلا شك، ومجرد احتياجه إلى مغادرتها ينفي أي احتمال لبقائه فيها أثناء الاتجاه إلى النقطة الأخرى.
    **

    لكن العقل والنفس ليسا جسما ولا عرضا، والإنسان يلازم جسمه الهرم في زمانه الوجودي، ويلازم عقله ونفسه الحرص والأمل، فهو كـ(ذات) وليس كـ(جسم): يتجه إلى الجهتين ألف وجيم في الوقت نفسه مع أنه موجود في النقطة باء، ومع ذلك لا يمكن اقتناصه في باء أيضا. هكذا هو الإنسان، طائفة من المحالات مجتمعة في ذات ممكنة.
    **
    عباس الأول
    ظل يقول لي دائما: سوف تعلمك الأيام كيف تكون لطيفا، ومهذبا مع الآخرين. وكنت أتساءل إن كنت غير لطيف ولا مهذب؟ ولماذا يقول هذا وهو في مرض وفاته؟ ثم أتساءل: وإذا كنت في مرض وفاتي فلماذا أكون لطيفا ومهذبا مع الآخرين؟ ألا يكفي أن أكون على حق وألا أحمل معي ذنبا إلى قبري؟ ظل الحرص يشبّ فيه على هذا الشيء: اللطف والتهذيب، حتى إنه قبل وفاته بأسبوع، وقد تجمع حوله عدد من المراهقين من ذوي قرابته، تحدث عن المباراة القادمة بين فريقين شهيرين، ووعدهم بمشاهدتها معهم، وتوقع نتائجها، وأطلق بعض الطرف الرياضية، وما إن انصرفوا حتى سقطت رقبته على صدره منهكا. وظللت أرافقه وأنا في أشد حالات السوداوية، أقرأ صفحة من مذكرات روسو، وأعود لأنظر إلى جسده الذي تغادره الحياة رويدا رويدا، شيئا فشيئا. كان الموت يتسلقه بالمعنى الحرفي رغم أنه كان مستلقيا في أغلب وقته: بدأ الشلل من أطراف أصابع قدميه، وأخذ يرتفع، وانتفخ جسده، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى انقطعت حركته وتحول إلى كيان هائل لا يحتاج لينفجر إلا إلى شكة دبوس صغير، يتلخص في الأنفاس المتقطعة، والنظرة الزائغة، جسده يهرم ويتسارع في الهرم، وابتسامة حرصه وأمله في التهذب مع الآخرين تشب، وتزداد شبابا، ولولا أنه يؤديها بجزء من جسده المتهالك لقلت: وتزداد ألقاً.
    **

    عباس الثاني
    لا يعرف عباس الثاني شيئا عن التهذيب ولا عن مراعاة المشاعر، ولكنه يشيخ، ويزيده مرض السكريّ شيخوخة، يكاد أن يغادر الحياة وهو لا يزال في عقده الخامس، وحرصه وأمله يشب: على أن يحصل عظمة اجتماعية في عيون الآخرين.
    أتساءل: لو كان الإنسان يهرم إلى ما لا نهاية له، أليس هذا يعني أنه سوف يتحول إلى كومة من الجلد والعظام المتيبسة؟ لكن إذا كان الأمل والحرص يشبان فيه باستمرار فهل ينتهيان إلى أن يصبحا طفوليين كما هي حال بنجامين بوتن؟ بنجامين بوتن نفسه مات رضيعا، فماذا لو لم يمت؟ أكنا لننتظره ليتحول إلى حالة جنينية تفتقر إلى حبل المشيمة كيلا يموت؟ وجدلا: ولو وفرنا له الظروف اللازمة لحالة جنينية: أكان ليبقى حتى يعود نطفة؟ ولو قذفنا تلك النطفة من جديد في رحم فهل كان سيعود طفلا شيخا يكتهل ويشب ويصبح طفلا وتستمر دورته بلا نهاية؟ إن ذلك سوف يجعل من أمله الذي يتسلح به نهائيا، في حين يصبح جسده لا نهائيا، وإذن؛ فكأن المعادلة تقول: حيث يوجد الجسد النهائي، يوجد الأمل اللانهائي. والعكس صحيح. وقد سمعت شيئا من هذا القبيل لكنه مخالف له في المنظور، وهو أنه: لكي يتصالح الإنسان مع وجوده النهائي، ولكي يستطيع الحياة، فعليه أن يتسلح بوهم الحياة اللانهائية، وإلا فإنه سوف يفنى ويضمحل ويموت بسرعة فائقة. ولهذا السبب أدرجت من عندياتي عبارة الوهم في الحكمة المشهورة.
    ما أعرفه عن عباس الثاني أنه عندما يفقد الأمل في أن يصبح عظيما في عين عباس الأول أو عباس الثالث أو أي عباس آخر، فإنه يحكم على ذلك المرء حكمين نهائيين هما: أن ذلك الشخص: شخص دنيء. وأنه ميت بالنسبة له، موتا حقيقيا، وبالفعل.
    **

    عباس الثالث
    هو رجل شبيه بعباس في قصيدة أحمد مطر، هل تعرفونه؟ إنه عباس المشهور المسمى بعباس المتراس، الذي يقول عنه الشاعر: عباس وراء المتراس، ويخاطبه: أبناؤك قتلى عباس، وتقول له زوجته: ضيفك راودني عباس.
    وهو رجل يتمنى أن يبقى محترما وسالما، في حين أن السلامة إنما هي واحد من ممكنين متلازمين، فمتى ما وجد أحدهما وجب أن يعقبه الآخر وإن طال الزمن. إنه اليوم رجل في السبعين، لا يزال مهادنا، طيبا، يقصف صبيان الجيران بابه ونوافذه بالحجارة، وأحيانا تمرّ بجواره سيارة تطرطش في وجهه مياه المجاري السائلة من البيت المقابل. ترفض زوجته أن تعد له الطعام فيذهب إلى البوفيه ويقبل أن يحضر معه في ورقة نشافة ثلاث قطع طعمية وست أصابع بطاطس مقلي، وعلبة سفن أب، يأكل وينتظر أن يشعر بالحرقان، ليحدر السفن أب في حلقه، وأثناء ذلك يتجشّأ جيدا حتى يتخلص من الغازات الحارة المسببة للحرقان. وهو الآن كما كان قبل خمس وعشرين سنة عندما أحببت ابنته، وعندما كنت أتوصل إلى وصالها –من فوق الثياب طبعا- من باب افتعال مصارعة عابثة معها أمام عينيه وهو ينظر، بابتسامة مموهة، لا ساخطة جدا، ولا راضية، بل هي إلى الحرص والأمل أقرب.
    **

    عباس الرابع
    معذرة، فقد أصبحوا أربعة، وهكذا هو تجدد شباب الحرص والأمل، يبزغ فجأة، مثل كوكب في وقت الغروب، يظهر بلا استئذان، وتصيبك متابعته بالدوار، وما إن تظن إنه الكوكب الأخير حتى يبزغ لك كوكب آخر. لا أدري إن كان التشبيه بليغا أم لا. ولكن: إذا كان عباس الرابع يشبه الكوكب الدري من جهة، فإنه يشبهني من جهة أخرى، يشبهني في الظهور أمامك بغتة، مطلقا عليك موجة رصاص من الألفاظ السفسطائية التي تشعرك وكأن شتيمة ما أو بذاءة توجه إليك. اعذروني. ولكن هكذا هو، إنه يدرك هذه الأشياء، يدرك أن الحرص والأمل لا يكبران كما يظن كثيرون من خلال تردادهم للاستعارات الضعيفة، ولكنهما يشبان ويزدادان فتوة. وهو ليس من العباسين الثلاثة الذين لا يدرون شيئا عن هذه الحكمة. أما كيف توصل إليها فذلك بطريقة غير حرْفية: إنه مولع بالقراءة، وما إن فرغ من قراءة رواية د. جيفاجو، حتى توصل إلى السؤال الكبير الذي أدى به إليه خوضه لتلك الملحمة: ولماذا نعيش؟ ولماذا نحرص؟ ولماذا نأمل؟ غير أن عباس الرابع، ونظرا لاتصافه بجميع أشكال الحمق التي أتصف بها، يقنع نفسه بأنه يعيش ويحرص ويأمل؛ لكي يستمر في اكتشاف عدم جدوى الحياة والحرص والأمل. وواقع الأمر، ومع بالغ التوقير لكم: لم أكن أخطط فعلا لاختتام قصتي بهذه النهاية الجوفاء، التي تليق بمتسول حقيقي أو بمن هو في وضع يؤهله لذلك، أو تليق بفتاة عانس في الخامسة والثلاثين من العمر، غادر محيطها آخر رجل كان يفكر في التقدم لخطبتها، لكن: هذا هو عباس الرابع، وليس ذنبي أنني أحكي واقع الحال.
    **
    لو استنشقتَ عبير الأسحار لأفاقَ منكَ قلبُكَ المخمور

  2. #2
    الصورة الرمزية د. نجلاء طمان أديبة وناقدة
    تاريخ التسجيل : Mar 2007
    الدولة : في عالمٍ آخر... لا أستطيع التعبير عنه
    المشاركات : 4,224
    المواضيع : 71
    الردود : 4224
    المعدل اليومي : 0.68

    افتراضي

    يقيني دومًا أن الإبداع يبزغ كشمسٍ ساطعة من عمق الظلمة, أتانا نصكَ من بورة مظلمة في عقلٍ يفكر من ثم يترجم مخاض تفكيره عن طريق راوٍ يأخذ بأيدينا من مثال فلسفي لآخر في روعة.

    وقفت لبرهة أمام نصكَ , فلا هو أخذ وجه الرواية الكامل ولا منه أخذ جسد الفلسفة المجرد, لكنه ظل غلالةً رقيقة تهفهف أمام الأعين فترة طويلة, فتأخذها معها كالسحر في عالم فلسفي مميز.

    لله دركَ!

    اسمح لنا بتوجيهها من منتدى القصة إلى مكانها الصحيح

    تقديري
    الناس أمواتٌ نيامٌ.. إذا ماتوا انتبهوا !!!

  3. #3