أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: مفهوم الجمالية بين الفكر الإسلامي والفلسفة الغربية

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالصمد حسن زيبار مستشار المدير العام
    مفكر وأديب

    تاريخ التسجيل : Aug 2006
    المشاركات : 1,887
    المواضيع : 99
    الردود : 1887
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي مفهوم الجمالية بين الفكر الإسلامي والفلسفة الغربية

    أحبتي في الواحة هذا مقال لأستاذ قدير من مدينة مكناس العاصمة الاسماعيلية بالمغرب
    أرجو أن ينال قبولكم

    تحياتي
    /

    مفهوم الجمالية بين الفكر الإسلامي والفلسفة الغربية

    أ.د. فريد الأنصاري - جامعة السلطان المولى إسماعيل- المغرب

    الجمالية" أو "علم الجمال" مصطلح يستعمل في الفكر المعاصر؛ للدلالة على تخصص من تخصصات العلوم الإنسانية التي تُعْنَى بدراسة "الجمال" من حيث هو "مفهوم" في الوجود، ومن حيث هو "تجربة" فنية في الحياة الإنسانية.

    "فالجمالية" إذن؛ علم يبحث في معنى "الجمال" من حيث مفهومه وماهيته ومقاييسه ومقاصده. "والجمالية" في الشيء تَعْنِي أن "الجمال" فيه حقيقة جوهرية وغاية مقصدية، فما وُجِدَ إلا ليكون جميلا!(1) وعلى هذا المعنى انبنت سائر "الفنون الجميلة" بشتى أشكالها التعبيرية والتشكيلية.

    ومصطلح "الجمالية" أو "علم الجمال" ترجمة لكلمة "استطيقا"، وهي كلمة ولدت في رحم الفلسفة الغربية من الناحية الاصطلاحية خلال القرن الثامن عشر الميلادي. فقد كان الفيلسوف "باومجارتن" سنة 1750م أول من سك هذا اللفظ، ثم انتقل استعماله إلى سائر الثقافات والعلوم الإنسانية كالأدب والفن.

    إلا أن "الجمالية" من حيث هي مفهوم قديمة قدم الإنسان نفسه، وصاحبت الحضارات البشرية كلها بدون استثناء، واتخذت لها طابعا خاصا مع كل حضارة، كما كانت لها تجليات خاصة ومتميزة مع كل تجربة إنسانية مختلفة.(2) ولم تكن الحضارة الإسلامية بدعا من الحضارات الإنسانية جملة. ذلك أن "الجمال" في الإسلام أصل أصيل، سواء من حيث هو قيمة دينية: عَقَدِيَّةٌ وتشريعية، أو من حيث هو مفهوم كوني، وكذا من حيث هو تجربة وجدانية إنسانية. ومن هنا كان تفاعل الإنسان المسلم مع قيم الجمال ممتدا من مجال العبادة إلى مجال العادة، ومن كتاب الله المسطور إلى كتاب الله المنظور! مما خلد روائع من الأدب والفن التي أنتجها الوجدان الإسلامي في قراءته الراقية للكَوْنَيْن وسياحته الرائعة في العالَمَيْنِ: عالم الغيب وعالم الشهادة!

    ولقد قاد الجهلُ بالتراث الإسلامي أو العمى الصليبي بعضَ فلاسفة الغرب إلى حصر التجربة الجمالية الإسلامية في مجال "الإدراك العقلي" دون "الإدراك الوجداني العاطفي"؛ واتهم التجربة الإسلامية بالفقر الفني والجمالي! فأقل ما يقال عن مثل هذا الاتهام أن صاحبه جاهل بحقيقة الإسلام وقيمه الجمالية من جهة، وبتجربة الأمة الإسلامية من جهة أخرى. أعني على المستوى الجمالي، في كل تجلياتها العربية وغير العربية: فارسيةً وهنديةً وتركيةً ثم مَالَوِيَّةً!

    ولقد انبرى الفيلسوف الفرنسي المعاصر "إتيان سوريو" فيلسوف "الجمالية" وأستاذ علم الجمال في جامعة السربون بباريس(3) للدفاع عن هذه الحقيقة، ردا على بعضهم، لكنه مع ذلك لم يكن موفّقا كل التوفيق بسبب نقص المعطيات عنده عن قيم الجمال في الإسلام وعن تجربة المسلمين في ذلك المجال. يقول محيلا على اتهامات "بلزاك" في كتابه "الابن الملعون": "لطالما قيل - وعلى غير وجهٍ من حق - إن الفن العربي قد كان فنا إدراكيا، لا يتوجه إلا إلى الفكر النظري المحض وليست له أية قدرة على الإثارة العاطفية!".(4) ثم يستطرد بعد ذلك مدافعا عن الجمالية الإسلامية، بشواهد من جمالية العمران وفن العمارة بالبلاد العربية والإسلامية، لكن -مع الأسف- بتحليلات هي أقرب إلى الخرافة منها إلى المقاييس العلمية للجمال!

    يقول: "إن هذا الرأي هو خاطئ تماما! والحقيقة هي ما ذهب إليه من قبل "غايي: Gayet" عندما تحدث في كتابه: "الفن العربي" عن المشاعر التي تثيرها -من وجهة نظر الجمالية العربية- المعطيات الهندسية لذلك الفن بتفاصيلها وأشكالها. ولذا فهو يقول بأن الدوائر الهندسية إذا كانت زواياها المتعددة مزدوجة، فإنها "توقظ في النفس مشاعر عميقة مطبوعة بطابع الصفاء العذب"، أما إذا كان عدد زواياها مفردا فإنها تبعث على "الحزن المبهم والقلق والاضطراب". ويقول أيضا: "إن الصورة المتكونة من الجمع بين المربعات والمثمنات تبعث على فكرة السكون الأبدي، أما تلك التي تنبثق من الأشكال ذات الزوايا التسع فإنها توقظ الإحساس بسر مبهم مضطرب!"(5) كذا..!! والعجيب حقا هو كيف فهم "غايي" أن هذا التفسير الغريب للأشكال الهندسية هو "من وجهة نظر الجمالية العربية"، ثم كيف قبل منه الأستاذ "سوريو" هذا الهذيان ونقله على سبيل التبني في كتابه! لقد كان الأولى بغايي هذا أن يعرض أحواله المترددة ما بين "الصفاء العذب، والحزن المبهم، والقلق، والاضطراب" على طبيب نفسي خير له وللعلم من أن يفسر به أشكالا هندسية في صومعة، أو قبة مسجد، أو زوايا قلعة! لقد ضل كثير من مؤرخي الجمالية الغربيين الطريقَ إلى معالم الجمال الحق في الإسلام، وأخطؤوا مواطنَ علم الجمال في التجربة الإنسانية الإسلامية! فأنكرها بعضهم، وبقي البعض الآخر أسير الجدران والأسوار يحاول فك رموز النقوش وأشكال الزخارف، كما يحاول العالم الأركيولوجي فك رموز بدائية، في قطعة حجرية من عصور ما قبل التاريخ.

    إن الجمالية الإسلامية تنبع أولا من حقائق الإيمان، إذْ تَشَكَّلَ الوجدانُ الإنساني فيها مما تلقاه من أنوار عن رب العالمين، الرحمن الرحيم، وما انخرط فيه بعد ذلك؛ سيرا إلى الله تعالى عبر أشواق الروح، مبدعا - باتباع تعاليم نبيه صلى الله عليه وسلم - أروع ألوان التعبير الجمالي، من سائر أشكال العبادات والمعاملات والعلاقات، انطلاقا من حركته التعبدية في جمالية الصلوات ولوحاتها الحية الراقية وما يَنْظِمُهَا من عمران روحي ومادي، إلى هندسة المدائن الإسلامية بما تحمله من قيم روحية سامية، وقيم حضارية متميزة جدا، إلى سائر النشاط الإنساني الذي أبدعه المسلمون في علاقتهم بربهم وعلاقتهم بأنفسهم وبغيرهم، إلى علاقتهم بالأشياء المحيطة بهم، بدءً بالمسخَّرَات من الممتلكات والحيوان، إلى المحيط الكوني الفسيح، الممتد من عالم الشهادة حولهم إلى عالم الغيب فوقهم... كل ذلك تفاعل معه المسلم؛ فأنتج أروع الأدبيات التعبيرية والرمزية، مما لا تزال تباريحه المشوقة بالمحبة، من الترتيل إلى التشكيل تفيض على العالَم بالجمال والجلال أبداً.

    إن العمارة الإسلامية - رغم ثرائها الجمالي الرفيع - هي آخر ما ينبغي الاشتغال به لمن أراد أن يدرس الجمالية الإسلامية في مصادرها الأولى. لأن حصون المدائن وجدرانها إنما هي التجليات المادية المعبرة عن أشواق الروح، الفياضة عبر القباب والمآذن مندفعة بقوة نحو السماء. وإنما هي صورة التعبير الرمزي عن معاني الاحتضان العاطفي وقيم الأخلاق الاجتماعية والحنان الرَّيان بما امتازت به من حياء وتستر وانحناءات، تتلوى أضلاعها الخفاقة بالمحبة بين الدروب، تسلك بالرجال والنساء مسالك الحشمة الرقيقة والوقار العالي، إلى المساجد وإلى الغرفات والشرفات الكاشفة الساترة... ثم تنشر أسرارها نقوشا وزخرفة تتبادل الأدوار مع أحرف الخط العربي بشتى أشكاله، في كلمات ناطقة حينا، وناظرة أحيانا أخرى... كلها تتدلى مثل العناقيد من بين الأقواس، تستقبل مواجيد المحبين وترد سلام المتبتلين، لتتوحد معهم في صلاة أبدية خالدة.

    ولقد دَبَّجَ المسلمون في مصنفات المحبة والسلام تباريحَ الأشواق أنى مرساها، ووصفوا مقامات النور كيف مجراها، ورسموا كلمات الجمال بما لا قِبَلَ به لأحد من العالمين.(6)

    وكأنما الفرق في "الجمالية" بين مفهومَيْها الغربي والإسلامي كالفرق بين الطبيعة والتمثال أو بين الحقيقة والخيال. ولم تكن الصورة التي يبدعها المسلم ثابتة قارة يأكلها البِلَى في متحف "اللوفر" أو غيره من متاحف العالم، ولكنها صورة حية يشكلها بإبداعه اليومي بين ركوع وسجود، وطواف وسعي، أو بين صوم وتبتل، وانقطاع يصله كليا بالملأ الأعلى... ثم مواجيد يتنفسها بعد ذلك كلماتٍ وكتاباتٍ ذات صورٍ الجمالُ فيها له روح، صور لا تبلى أبد الزمان: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح:29).

    تلك صورهم الحية، فأين منها بسمة "الجوكاندا" المصطنعة الشاحبة، أو وجوه "بيكاسو" المتداخلة المتنافرة! هذه صور الجمال في الأدبيات الإسلامية ما تزال تتجدد عبر التاريخ أبدا، ولا يزال القارئ لها في كل مكان يشارك بمخيلته في إبداع الأشكال كما هو يريد، بحرية تتحدى آخر الصيحات في عالم الرسم والتشكيل. وليس عندهم صور ميتة يفرضها فنان على الناس فتستعبد مُخَيِّلَةَ الأجيال وتقتل إبداعهم. ومن هنا توجه الفن الإسلامي حضاريا - في الأعم الغالب - إلى الإبداع ضمن جمالية "التجريد". والتجريد في الحقيقة إنما هو لغة الروح، وريشة الوجدان. يقول "إتيان سوريو": "والحقيقة التي لا بد من التنويه بها كذلك، هي أن الروحية الإسلامية تحترس على الأخص من مخاطر الفن التجسيمي، وتجد لها ضمانات كبرى في استعمال الفن التجريدي. من هنا، ومن هذه الوجهة خصوصا، يجب تفسير الوضع الجمالي للفن الإسلامي من الناحية التجريدية. أضف إلى ذلك أن الفن التجريدي هو بالضبط الفن الذي يستجيب في العالم العربي لما تقتضيه الحاجة الجمالية اقتضاء شديدا ودقيقا".(7)
    إن لغة التجريد في الفن الإسلامي هي التي تصنع حركة الحياة الفعلية في المجتمع، حيث تتفتق جماليتُها المتجددة سلوكا حضاريا راقيا، وعلاقات اجتماعية مفعمة بالود والمحبة والسلام، تتضافر جميعها في نسيج عمراني يرقى إلى درجة المثال، وذلك بما يفيض من وجدان الإنسان المسلم من تباريح الإيمان وأشواق الروح.

    وما قتل الفن الغربي شيء مثل الولع بسجن الإبداع في الصور الجامدة الثابتة، ولو في حركتها الوهمية الاصطناعية. وعليه فإن الوضع الفني في أوروبا قد وصل فعلا إلى الباب المسدود. يقول فيلسوف الجمالية المعاصر: "إذا أخذنا الفن أداة للحكم على الحاجات الجمالية لوقتنا الحاضر، نجدها قد أصيبت بتغييرات جذرية منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم. فالزائر الذي يتجول في أرجاء متحف للفن الحديث، لو انتقل من قاعة تضم لوحات انطباعية إلى قاعة أخرى تضم لوحات حديثة من الفن التجريدي أو التجسيمي، لاجتاحه -ولا ريب- شعور بالانتقال من عالم إلى عالم آخر، وإحساس بالغربة عميق. ولنقابل المسألة هنا بكل حدتها، فلا نتردد بالقول بأن هذا الزائر نفسه (...) قد تسول له نفسه أن يتحدث عن خط انحداري ومسيرة تقهقرية في الفن"،(8) إلى أن يقول - بعد وصف مآل بعض أنواع الفن الأخرى - بحدة نقدية شديدة: "ولا شك في أن من يراقب هذا التبديل المفاجئ سيجد نفسه مدفوعا إلى القول بأن ما يسمعه ويشاهده ليس إلا رجعة إلى حالة من البدائية والتوحش".(9)

    إلا أنه لا بد من البيان أن معاني الجمال في الإسلام، من صفاء الروح، ومنازل الإيمان، وأحوال الإحسان، لم يستفد منها جمهور كبير من أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة لأسباب شتى، منها اشتهار نسبة بعض مفاهيمها وألفاظها إلى المتصوفة؛ فكان أن زهد كثير من الناس فيها بسبب ما خالط بعض كتبهم من شطحات.(10) وإنما هي عبارات قرآنية أو نبوية محضة. نعم، ربما اكتسبت في سياق الاستعمال التاريخي دلالات منحرفة في بعض الأحيان، فيكون الواجب هو تحريرها منها، لا إلغاءها والتنكر لها.

    إنه ما ينبغي لذلك أن يعمينا عن جمال الدين، وإنما خاطبنا الله تعالى بالجمال، وأمرنا أن نرحل إلى منازله العليا، ونسير إليها سيرا لا يفتر ولا ينقطع حتى يدركنا اليقين. لا ينبغي للمؤمن الكَيِّسِ الفَطِنِ أن تعميه غلطات بعض الناس - مهما قبحت - عن محاسن الدين، فيقنع في دينه بظواهر الألقاب ويرمي بعيدا باللباب. إذن يكون من الجاهلين، كيف والجمال هو الدين؟!

    إن الصحوة الإسلامية المعاصرة لفي أشد الحاجة إلى تربية ذوقية فنية، ترهف حسها بمواطن الجمال، الموجِّهةِ لكل شيء في هذا الدين، عقيدةً وشريعة. ولقد انتبه السابقون إلى ذلك وانبهروا به فسارعوا إلى الالتحاق بقوافل المحبين. وكان منهم مُصَنِّفُون ذَوَّاقُون، نبهوا إلى هذه المعاني، من أمثال الحسن البصري والإمام المحاسبي والإمام الجنيد وابن الجوزي والإمام عبد القادر الجيلاني والإمام ابن القيم والإمام أبي عبد الله الساحلي المالقي والإمام الشاطبي والإمام أحمد زروق المغربي وغيرهم كثير، رحمهم الله أجمعين.

    ألا ما أحوجنا اليوم إلى إعادة القراءة للدين، في مصادره العذبة الصافية الجميلة، قراءة تصل المسلم بالله، قبل أن تكون قراءة ينتقم بها لنفسه، من الظلم الاجتماعي، والطغيان السياسي، فيكون بتدينه عدوا للدين من حيث يدري أو لا يدري.

    ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾(آل عمران: 8) ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاٌّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ﴾(الحشر: 10).

    ذلك، وإنما الموفق من وفقه الله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


    _________________
    الهوامش
    1. يقول ولترت ستيس: "لقد نظر الاستطيقيون إلى الجمال على أنه الهدف الوحيد للفن. وهم على حق في ذلك. ولا يصح ذلك إلا إذا استخدمت كلمة "الجمال" بمعنى واسع إلى أقصى حد." (معنى الجمال: نظرية في الاستطيقا، ص:94. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. نشر المجلس الأعلى للثقافة، مصر: 2000. طبع بالهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية).
    ثم استعمل مصطلح "الجمالية" في الأدب الحديث للدلالة على أن "الجمال" هو القيمة الأولى للنص، وأنه لا عبرة بما لم يُبْنَ على ذلك؛ إذ الوظيفة الأولى للنص هي أن يكون جميلا. (جمالية الأدب الإسلامي للأستاذ محمد إقبال عروي: ص 94-95، نشر المكتبة السلفية، الدار البيضاء، المغرب، ط: الأولى: 1986م).
    2. تلك هي القضية التي انبنى عليها موضوع كتاب البروفسور إتيان سوريو "الجمالية عبر العصور"، ترجمة د. ميشيل عاصي، منشورات عويدات، بيروت/باريس، ط. الثانية: 1982.
    3. كان ذلك خلال سنوات الستينات من القرن الميلادي الماضي.
    4. الجمالية عبر العصور، ص 179.
    5. الجمالية عبر العصور، ص 180.
    6. مثل كتاب كشف المحجوب للإمام الهجويري، ومنطق الطير لفريد الدين العطار، وهذا من الناحية الجمالية قطعة فنية رائعة. ومثله مدارج السالكين لابن القيم، وكتابه حادي الأرواح، ونحو ذلك كثير. ومن أهم الموسوعات الجمالية في الفكر الإسلامي الحديث مجموعة: كليات رسائل النور لبديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله، ويتلوه في ذلك وارث سره الأستاذ فتح الله كولن في أغلب كتبه وعلى رأسها: "التلال الزمردية" وديوانه الشعري: "المضرب الكسور."
    7. الجمالية عبر العصور، ص 179.
    8. الجمالية عبر العصور، ص 273-274.
    9. الجمالية عبر العصور، ص 275-276.
    10. لقد غالى بعضهم في الهجوم على التصوف، ولم يفرقوا في أقوال القوم بين حق وباطل.

    *
    تظل جماعات من الأفئدة ترقب صباح الانعتاق,لترسم بسمة الحياة على وجوه استهلكها لون الشحوب و شكلها رسم القطوب ,يعانقها الشوق و يواسيها الأمل.

  2. #2
    الصورة الرمزية عبدالصمد حسن زيبار مستشار المدير العام
    مفكر وأديب

    تاريخ التسجيل : Aug 2006
    المشاركات : 1,887
    المواضيع : 99
    الردود : 1887
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي

    وهذا مقال آخر لنفس الكاتب الدكتور فريد الأنصاري رئيس المجلس العلمي بمدينة مكناس المغربية
    وهو مهتم بالجمال ومتخصص في علم المصطلح

    أرجو الفائدة
    /


    مفهوم الجمالية في الإسلام من الترتيل إلى التشكيل

    أ.د. فريد الأنصاري - جامعة السلطان المولى إسماعيل- المغرب


    جمال الإنسان
    الإنسان جميل، بل هو أجمل مخلوق في الأرض، وتلك حقيقة قرآنية ووجودية؛ ذلك أن مصادر الدين في الإسلام تحدثنا أن الله قد خلق الإنسان في أجمل صورة وأحسنها، وقارن بينه وبين سائر الحيوانات -وهي غاية في الجمال- ظاهرا وباطنا. قال عز وجل: (اَللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اْلأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) (غافر: 64) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "خلق الله آدم على صورته"(متفق عليه)، ثم جعل له الكون من كل حواليه جميلا، وحسنه تحسينا، عساه يكون في تدينه حسنا جميلا. قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اْلأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف: 7) فالزينة الكونية مبعث وجداني للتحلي بالزينة الإيمانية.

    إن الناظر في هذا العالم الكوني الفسيح، يدرك بسرعة أن الإنسان يعيش في فضاء فنّي راق؛ بيئة واسعة بهية هي آية من الجمال الذي لا يبارى؛ بدءً بالأرض حتى أركان الفضاء، الممتدة بجمالها الزاخر في المجهول، تسير في رونق الغرابة الزاهي، إلى علم الله المحيط بكل شيء. ومن ذلك قوله سبحانه: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) (الحجر: 16) وجعل الأرض الحية تتنفس بالجمال نِعَماً لا تحصى ولا تنتهي (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف:32). وأرشد ذوق الإنسان إلى تبين معالم هذا الجمال في كل شيء: (وَاْلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (النحل: 5-6).

    ثم انظر إلى هذا الجمال المتدفق كالشلال، من الآيات التاليات؛ يقول سبحانه بعد الآية السابقة بقليل، في سياق الْمَنِّ بهذه النعم الجميلة الجليلة: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل: 10-12).

    بانوراما الأرض
    إنها صورة كلية شمولية ذات ألوان وأنوار حية متحركة، إنها »بانوراما« كاملة للأرض بتضاريسها وبحارها وأشجارها وأنهارها وأحيائها جميعا. ثم بفضائها الرحب الفسيح بما يملأ ذلك كله من حركة الحياة، والنشاط الإنساني بكل صوره مما أتيح له في هذه الأرض وفضائها من المسخَّرات الحيوية. هذا كله هو قصرك الزاهي أيها الإنسان، ومجالك الواسع، محاطا بكل آيات التسخير وكرامات التدبير، المتدفقة بين يديك بكل ألوان النعم والجمال؛ لتصريف العمر كأعلى ما يكون الذوق، وكأجمل ما تكون الحياة.

    وفي سورة الأنعام صور تنبض بجمال الخصب والنماء، جمال أرْضِيّ لا يملك معه من له أدنى ذرة من ذوق سليم إلا أن يخضع لمقام الجمال الأعلى، الجمال الرباني العظيم. قال جل جلاله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبٌّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام:99). ويلحق بها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)(فاطر:27-28).

    فالصورة تبتدئ -في الآيات الأولى ثم التي بعدها- من لحظة نزول المطر، إلى لحظة خروج النبات والشجر من التربة الندية، إلى مرحلة خروج الحب المتراكب في السنابل، وخروج القِنْوَان، (أي: العراجين والعُذُوق المثقلة بالفاكهة) بجمالها وبهائها، ثم ما يلامسها بعد ذلك من نضج وينع، فتراها -وقد تهيأت للقِطاف- متدليةً خلال خمائل الجنات والبساتين، ناظرة إلى الناس في دلال خلاب. والآيات لا تغفل الحركة الحية للألوان، في تطورها من الخضرة إلى سائر ألوان النضج والينع، مما يتاح للخيال أن يتصوره -تَوَرُّداً واصْفِرَاراً واحْمِرَاراً واسْوِدَاداً... إلخ- في الزروع، والتمور، والأعناب، والزيتون، والرمان ونحوها، إلى ما يحيط ذلك كله، أو يتخلله، من ألوان الجبال وجُدَدِهَا، وهي: مسالكها أو خطوطها والتواءاتها المتشكلة منها، وهي غالبا ما تكون ذات انحناءات مختلفة الألوان، كما قال الله تعالى بيض وحمر إلى ما يزينها من غرابيب سود، وهي الصخور الناصعة السواد... إلى حركة اللون المنتشرة هنا وهناك في الحيوان والإنسان، مما لا يملك المؤمن معه إلا أن يكون من الساجدين لمن أفاض على الكون بهذا الجمال كله، الجمال الحي المتجدد. وإنها لآيات تربي الذوق الإنساني على جمالية التوحيد والتفريد، مما تعجز الأقلام والألوان عن تجسيد صورته الحية النابضة، وأي ريشة في الأرض قادرة على رسم الحياة!؟

    وإنني لو قصدت إلى استقصاء جماليات القرآن الكريم من السور والآيات لجئت به كله، فهذه عباراته الصريحة وإشاراته اللطيفة كلها، كلها مشعة بتوجيهات ربانية لتربية الذوق الإنساني حتى يكون في مستوى تمثل مقاصد الدين البهية، بتدينه الجميل. فهل عبثا نصَّ القرآنُ على جمالية الكون والنعم والحياة؟ وهل عبثا نبه القرآن الحس البشري الإسلامي، وربَّاه لالتقاط دقائق الحسن والبهاء في مناظر الفضاء والأرض والجبال والشجر والنبات والبحار والأنهار والأنوار والأطيار؟!

    إن الله تعالى خلق الحياة على مقاييس الجمال الإلهية الباهرة الساحرة، وأرسل الرسل بالجمال ليتدين الناس على ذلك الوِزان وبتلك المقاييس. ولذلك قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأتقياء، وإمام المحبين: "إن الله تعالى جميل يحب الجمال"(رواه مسلم). وفيه زيادة صحيحة: "ويحب معالي الأخلاق ويكره سِفْسافَها"(رواه الطبراني وابن عساكر)؛ مما يشير إلى أن الجمال مطلوب في أداء المسلم شكلا ومضمونا، مبنى ومعنى، رسما ووجدانا.

    مواكب الجمال
    فليكن الدين إذن سيرا إلى الله في مواكب الجمال (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 29-30) وإنها للطافة كريمة أن يجمع الحق سبحانه في مفهوم الدين، من خلال هذه الكلمات النورانية بين جمالين: جمال الدين وجمال الدنيا: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ليكون ذلك كله هو صفة المسلم.

    ولقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تربية صحابته الكرام على كل هذه المعاني. وكيف لا، وهو أول من انبهر بجمال ربه وجلاله؛ فأحبه حتى درجة الخلة. قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه يوما: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة (أبا بكر) خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله"(رواه مسلم)، وصح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في سياق آخر: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا"(رواه مسلم). وكان يعلمهم كيفية سلوك طريق المحبة بعبارات وإشارات شتى، ما تزال تنبض بالنور إلى يومنا هذا، فانظر إن شئت، إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم الغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله!"(رواه مسلم) والغرة بياض في ناصية الحصان، والتحجيل بياض في يديه؛ فتلك سيم الجمال في وجوه المحبين وأطرافهم، يوم يرِدُون على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي سيم "ليست لأحد من الأمم"(متفق عليه)، بها يعرفون في كثرة الخلائق يوم القيامة، كالدر المتناثر في دجنة الفضاء. هذه ومضة الإبراق النبوي تبشر برشح الأنوار على أطراف المتوضئين الساجدين، رشحا لا يذبل وميضه أبدا!

    النبي الكريم ميز جمال المحبين وسط الزحام واحدا واحدا. قال صلى الله عليه وسلم: "ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة! قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟ قال: "أرأيت لو دخلتَ صُبْرَةً (محجرا) فيها خيلٌ دُهْمٌ، بُهْمٌ، وفيها فرَسٌ أغَرُّ مُحَجَّلٌ، أما كنتَ تعرفه منها؟" قالوا: بلى. قال: "فإن أمتي يومئذ غُرٌّ من السجود، مُحَجَّلون من الوضوء!"(رواه أحمد) فأي تذويق فني هذا للدين؟ وأي ترقية لطيفة للشعور هذه وأي تشويق؟

    ولم يفتأ النبي صلى الله عليه وسلم يرقي الذوق على مستوى التصرف والسلوك، ليس في مجال المعاملات فحسب، ولكن أيضا في مجال الدعوة والإرشاد. وليس قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف"(رواه البخاري) وقوله: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"(متفق عليه) وقوله أيضا في فرض الإحسان على المؤمن في كل تصرفاته وأعماله التعبدية والعادية: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"(رواه مسلم)، إلا نموذجا لعشرات الأحاديث المنضوية تحت هذا المعنى الكلي الكبير: الإحسان في كل شيء؛ في الشعور والأخلاق والمعاملات والتصرفات والسلوك.


    أسس الجمالية في الإسلام
    ومن هنا - بعد هذه الشواهد النموذجية والمقارنات التقريبية - يمكن أن نخلص إلى أن أسس "الجمالية" في الإسلام تقوم على أركان ثلاثة، هي: المتعة والحكمة والعبادة. وباجتماعها جميعا في وعي الإنسان ووجدانه يتكامل المفهوم الكلي للجمالية في الإسلام.

    1. الحكمة: فأما الحكمة فمعناها -هنا- أنه ما من "جمال" إلا وله هدف وجودي، ووظيفة حيوية، يؤديها بذلك الاعتبار. ذلك أنه ما من جمال في هذا الكون إلا وهو رسالة ناطقة بمعنى معين، هو حكمة وجوده ومغزى جماليته. فليس جميلا لذاته فحسب بل هو جميل لغيره أيضا. فعند التأمل في كل تجليات الجمال في الطبيعة، تجد أنها تؤدي وظائف أخرى هي سر جماليتها؛ من مثل الأهداف التناسلية الضرورية لاستمرار الحياة في الكائنات من الإنسان والحيوان والطيور والنبات... إلخ. ففي هذا السياق تقع استعراضات الجمال الخارق مما وهبه الله للكائن الحي؛ لإنتاج الشعور بالجمالية مما ينتج عنه أروع التعابير اللغوية أو الرمزية، على جميع المستويات البشرية والحيوانية والطبيعية عموما، كل على درجة طبقته الفطرية من الوعي بالحياة والوجود الخِلقي. وما ذلك كله في نهاية المطاف إلا ضربا من قوانين التوازن في الحياة، واستقرار الموجودات والخلائق، تماما كما هو دور قانون الجاذبية في استقرار الحياة الأرضية، وتوازن الأجرام والكواكب في الفضاء. فالإحساس الجمالي- بما فيه من عواطف جياشة لدى الإنسان مثلا - ما هو إلا وسيلة وجودية لاستمراره وتوازنه. قال تعالى: (وَمِنْ أَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ أَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:20-21).

    ونفس الحقيقة الجمالية التي نراها في الطبيعة والجبال والبحار والنجوم... إلخ؛ ما هي -رغم التصريح القرآني بجماليتها في مقاصد الخلق- إلا مخلوقات تؤدي وظائف في سياق التدبير الإلهي للكون؛ خلقاً وتقديراً ورعايةً. ومن ذلك قوله تعالى على سبيل المثال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة:189). وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (يونس:5) مشيرا بذلك إلى أن وظيفة الأقمار والأفلاك إنما هي إنتاج مفهوم الزمان؛ لتنظيم الحياة الكونية والإنسانية في أمور المعاش والمعاد معا، أي مجال العادات والعبادات على السواء. وكذلك ما ذكره الله من الوظيفة الجيولوجية والتسخيرية للجبال والأنهار والمسالك، في مثل قوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (النحل:15-16).

    فكل المشاهد الجميلة في الحياة والكون -كما عرضها القرآن الكريم- لا تخرج عن هذا القانون الكلي، من حكمة الوجود ووظيفة الخلق.

    2. المتعة والإمتاع: وأما الركن الثاني للجمالية في الإسلام فهو المتعة والإمتاع، سواء في ذلك ما هو على المستوى الحسي أو ما هو على المستوى النفسي والذوقي، أعني العاطفي والوجداني. ومعنى ذلك أن الله جل جلاله خلق في الإنسان مجموعة من الحاجات، كحاجته إلى الطعام والشراب واللباس؛ فكانت منها حاجة التمتع والاستمتاع بالجمال من حيث هو جمال. ومن هنا سعيه الدائم إلى البحث عنه والانجذاب إليه، وهذا صريح في كثير من الآيات والأحاديث النبوية الشريفة. ومن ذلك أن تلك الحقائق الكونية نفسها، التي ذُكرت في سياق هدفها الوجودي، وحكمتها الْخِلْقِيَّة، هي عينها ذُكِرَتْ لها أهداف إمتاعية في مساقات أخرى. قال تعالى مصرحا بفوائد الأنعام والبهائم الإمتاعية (الجمالية)، إلى جانب منافعها التسخيرية: (وَاْلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل:5-8).

    فقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) ثم قوله بَعْدُ: (لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)، دال بوضوح -بما في السياق اللغوي من حروف التخصيص والتعليل- على قصد إشباع الحاجة الجمالية للإنسان، إلى جانب حاجته البيولوجية إلى الطعام والشراب، وسائر حاجاته المعيشية من الخدمات.

    وعلى هذا يجرى ما ذكر في القرآن من مشاهد الجمال والتزيين.

    3. العبادة: وأما الركن الثالث فهو العبادة. العبادة بما هي سلوك وجداني جميل، يمارسه الإنسان في حركته الروحية السائرة نحو رب العالمين، الله ذي الجلال والجمال. وهذا من الوضوح بمكان حيث إن النصوص التي ذكرت قبلُ كافية في إثباته وبيانه. ذلك أنه هو الركن الغائي من خلق الجمال نفسه، بل هو غاية الغايات من الخلق كله، وما به من حقائق الزينة والْحُسْنِ المادية والمعنوية على السواء.

    إن إشباع الحاجات الجمالية لدى الإنسان لو تأملتها تجدها لا تخرج عن معنى حاجة الإنسان الفطرية إلى التعبد والسلوك الروحي. ولذلك فإن الإنسان الغربي إنما يمارس بإبداعه الجمالي ضربا من العبادة الخفية أو الظاهرة، التي يوجهها نحو الطبيعة حينا، ونحو ذاته أحيانا أخرى. إنه بدل أن يسلك بإنتاجه الجمالي مسلك التعبد لله الواحد الأحد، مصدر الجمال الحق، وغايته المطلقة في الوجود كله؛ ينحرف بها إلى إشباع شهواته أو أهوائه. ثم يمارس نوعا من الوثنية المعنوية أو المادية. ولذلك كانت فنونه الجميلة تميل إلى التجسيم والتشكيل، محكومة بمثل قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) (الأعراف:148).

    من هنا إذن أطَّرَ الإسلامُ الجماليةَ بمفهوم العبادة؛ حتى يصح الاتجاه في مسيرة الإبداع، ويستبصر الفنان بتواضعه التعبدي مصدرَ الجمال الحق؛ فيكون إبداعه على ذلك الوزان، وتتجرد مواجيده لتلك الغاية، وتلك هي جمالية التوحيد، عسى أن يستقيم سير البشرية نحو نبع النور العظيم، النور الذي هو (الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ)(النور:35).

    والعبادة في الإسلام سلوك جمالي محض. وذلك بما تبعثه في النفس من أنس وشعور بالاستمتاع. فالسير إلى الله عبر الترتيل والذِّكْرِ والتدبر والتفكر والصلاة والصيام وسائر أنواع العبادات إنما هو سير إليه تعالى في ضوء جمال أسمائه الحسنى بما هو رحمن رحيم مَلِكٌ قدوس سلام ... إلخ. وليس عبثا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصف الصلاة بما يجده فيها من معاني الراحة الروحية، ويقول لبلال رضي الله عنه: "يا بِلالُ! أقِمِ الصلاة!.. أرِحنا بها!"(رواه أحمد وأبو داود) ومن العجيب حقا أنه عليه الصلاة والسلام ذكر متع الدنيا وجماليتها فجعل منها الصلاة، مع العلم أن الصلاة عمل أخروي لا دنيوي، وذلك قوله الصريح الواضح: "حُبِّبَ إليَّ من الدنيا النساء والطِّيب، وجُعل قُرَّةُ عَيني في الصلاة"(رواه النسائي) وتوجيه الحديث دال بسياقه على أنه صلى الله عليه وسلم أحب من الدنيا جماليات النساء والطيب وما يوحي به الأمران من جمال العواطف والمظاهر، ويقول في السياق نفسه: "وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاَة" أي كمال سعادتي وجمال لذتي في صلاتي لله الواحد القهار؛ وذلك لما كان يجده صلى الله عليه وسلم من أنس وراحة تامين على مستوى الوجدان الآني الدنيوي، بغض النظر عن المآلات الأخروية؛ لأن التعبير صريح في تصنيف الصلاة في هذا السياق ضمن محبوبات الدنيا. وقد أُثِرَ عن غير واحد من السلف والزهاد تعلُّقُهم بالدنيا لا من أجل ذاتها ولكن من أجل ما يجدون فيها من لذة العبادة، وجمالية السير إلى الله وهذا من أدق المعاني وألطف الإشارات الوجدانية.

    فالجمالية الإسلامية إنما تكتمل بهذه الأركان الثلاثة جميعا: الحكمة والمتعة والعبادة. وعليه؛ فإن السلوك الإسلامي انطلق متحليا بجماليته إلى جميع مناحي الحياة الفنية والإبداعية والثقافية والعمرانية والأخلاقية والاجتماعية. فكانت له في كل ذلك تجليات خاصة تتميز بخصوص المفهوم الإسلامي للجمال.

  3. #3
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    المقال ثري

    كم وددت لو أختصرته لنا بقراءة خاصة بك أخي الحبيب عبد الصمد تضيف للمقال نكهتك المعهودة

    نحن بانتظارك



    وللتثبيت



    حتى تكتمل المتعة والفائدة للجميع
    الإنسان : موقف

  4. #4
    الصورة الرمزية عبدالصمد حسن زيبار مستشار المدير العام
    مفكر وأديب

    تاريخ التسجيل : Aug 2006
    المشاركات : 1,887
    المواضيع : 99
    الردود : 1887
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي

    بارك الله فيك خليل
    وأنا كذلك و كل الواحة تنتظر إثرائك للموضوع

    مشكور على التثبيت

    مفكرنا الغالي خليل

  5. #5
    الصورة الرمزية عبدالصمد حسن زيبار مستشار المدير العام
    مفكر وأديب

    تاريخ التسجيل : Aug 2006
    المشاركات : 1,887
    المواضيع : 99
    الردود : 1887
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي

    نظرات في مقال مفهوم الجمالية بين الفكر الإسلامي والفلسفة الغربية للدكتور فريد الأنصاري

    ما يمتاز به الدكتور فريد الأنصاري هو قدرته التصويرية إذ يسيح بك في عوالم شتى , يخاطب الوجدان من غير أن يعارض العقل المقال, تعيش معه قدسية الحرف و صفاء المعنى من غير تكلف و لا تقعر في البيان.
    النص الذي بين أيدينا نظرة عبر شرفة قلما ننتبه لها
    يبتدئ بشكل اعتيادي ليلقي نظرات حول مصطلح الجمالية" أو "علم الجمال" في الفكر المعاصر فهو تخصص من تخصصات العلوم الإنسانية التي تُعْنَى بدراسة "الجمال" من حيث هو "مفهوم" في الوجود، ومن حيث هو "تجربة" فنية في الحياة الإنسانية...
    و يميز بين المصطلح و المفهوم فإذا كان الأول حديث النشأة فالثاني أي مفهوم الجمالية قديم قدم الإنسان نفسه، والجمالية صاحبت الحضارات البشرية كلها بدون استثناء، واتخذت لها طابعا خاصا مع كل حضارة، كما كانت لها تجليات خاصة ومتميزة مع كل تجربة إنسانية مختلفة.ليلج بنا إلى مربط الفرس وهو مفهوم الجمالية في الحضارة الإسلامية.
    يقرر في البداية أصالة المفهوم في التصور الإسلامي يقول:
    "الجمال" في الإسلام أصل أصيل، سواء من حيث هو: قيمة دينية: عَقَدِيَّةٌ وتشريعية
    أو من حيث هو مفهوم كوني وكذا من حيث هو تجربة وجدانية إنسانية.
    ومن هنا كان تفاعل الإنسان المسلم مع قيم الجمال ممتدا من مجال العبادة إلى مجال العادة، ومن كتاب الله المسطور إلى كتاب الله المنظور! مما خلد روائع من الأدب والفن التي أنتجها الوجدان الإسلامي في قراءته الراقية للكَوْنَيْن وسياحته الرائعة في العالَمَيْنِ: عالم الغيب وعالم الشهادة!.

    بعد هذا المدخل لأصالة الجمال في الإسلام يعرض الدكتور فريد تصوره وزاوية إشرافه ووجهة نظره للمفهوم والتي تستمد من التراث الصوفي أحلى ما فيه فيكون الوجدان دائرة الاهتمام
    وهذا مقرر من البداية يقول : إن الجمالية الإسلامية تنبع أولا من حقائق الإيمان
    فيفصل ويتابع في فضاء روحاني :

    إذْ تَشَكَّلَ الوجدانُ الإنساني فيها مما تلقاه من أنوار عن رب العالمين، الرحمن الرحيم، وما انخرط فيه بعد ذلك؛ سيرا إلى الله تعالى عبر أشواق الروح، مبدعا - باتباع تعاليم نبيه صلى الله عليه وسلم - أروع ألوان التعبير الجمالي، من سائر أشكال العبادات والمعاملات والعلاقات، انطلاقا من حركته التعبدية في جمالية الصلوات ولوحاتها الحية الراقية وما يَنْظِمُهَا من عمران روحي ومادي، إلى هندسة المدائن الإسلامية بما تحمله من قيم روحية سامية، وقيم حضارية متميزة جدا، إلى سائر النشاط الإنساني الذي أبدعه المسلمون في علاقتهم بربهم وعلاقتهم بأنفسهم وبغيرهم، إلى علاقتهم بالأشياء المحيطة بهم، بدءً بالمسخَّرَات من الممتلكات والحيوان، إلى المحيط الكوني الفسيح، الممتد من عالم الشهادة حولهم إلى عالم الغيب فوقهم... كل ذلك تفاعل معه المسلم؛ فأنتج أروع الأدبيات التعبيرية والرمزية، مما لا تزال تباريحه المشوقة بالمحبة، من الترتيل إلى التشكيل تفيض على العالَم بالجمال والجلال أبداً.

    ثم يميز بين جمال الروح و الوجدان وأنه سابق على جمال الماديات كالعمارة وأنها إنما تجليات عنه.
    يقول:
    إن العمارة الإسلامية - رغم ثرائها الجمالي الرفيع - هي آخر ما ينبغي الاشتغال به لمن أراد أن يدرس الجمالية الإسلامية في مصادرها الأولى.

    ثم يسبح في توصيف الترابط بين الروح و الوجدان وبين التجليات :

    حصون المدائن وجدرانها إنما هي التجليات المادية المعبرة عن أشواق الروح، الفياضة عبر القباب والمآذن مندفعة بقوة نحو السماء. وإنما هي صورة التعبير الرمزي عن معاني الاحتضان العاطفي وقيم الأخلاق الاجتماعية والحنان الرَّيان بما امتازت به من حياء وتستر وانحناءات، تتلوى أضلاعها الخفاقة بالمحبة بين الدروب، تسلك بالرجال والنساء مسالك الحشمة الرقيقة والوقار العالي، إلى المساجد وإلى الغرفات والشرفات الكاشفة الساترة... ثم تنشر أسرارها نقوشا وزخرفة تتبادل الأدوار مع أحرف الخط العربي بشتى أشكاله، في كلمات ناطقة حينا، وناظرة أحيانا أخرى... كلها تتدلى مثل العناقيد من بين الأقواس، تستقبل مواجيد المحبين وترد سلام المتبتلين، لتتوحد معهم في صلاة أبدية خالدة.
    و يقول أن هذا امتياز المسلمين عن غيرهم وسبب ريادتهم :

    ولقد دَبَّجَ المسلمون في مصنفات المحبة والسلام تباريحَ الأشواق أنى مرساها، ووصفوا مقامات النور كيف مجراها، ورسموا كلمات الجمال بما لا قِبَلَ به لأحد من العالمين.
    ويستعرض الفروق بين مفهومين للجمالية الإسلامي و الغربي و يشبهها كالفرق بين الطبيعة و التمثال أو بين الحقيقة و الخيال

    يقول عن صورة الجمال الإسلامي التي يجسدها المسلم :
    ولم تكن الصورة التي يبدعها المسلم ثابتة قارة يأكلها البِلَى في متحف "اللوفر" أو غيره من متاحف العالم.
    بل هي : صورة حية يشكلها بإبداعه اليومي بين ركوع وسجود، وطواف وسعي، أو بين صوم وتبتل، وانقطاع يصله كليا بالملأ الأعلى... ثم مواجيد يتنفسها بعد ذلك كلماتٍ وكتاباتٍ ذات صورٍ الجمالُ فيها له روح، صور لا تبلى أبد الزمان.

    ثم يعقد مقارنة بينها وبين صورة الجمال الغربي :
    تلك صورهم الحية، فأين منها بسمة "الجوكاندا" المصطنعة الشاحبة، أو وجوه "بيكاسو" المتداخلة المتنافرة! هذه صور الجمال في الأدبيات الإسلامية ما تزال تتجدد عبر التاريخ أبدا، ولا يزال القارئ لها في كل مكان يشارك بمخيلته في إبداع الأشكال كما هو يريد، بحرية تتحدى آخر الصيحات في عالم الرسم والتشكيل. وليس عندهم صور ميتة يفرضها فنان على الناس فتستعبد مُخَيِّلَةَ الأجيال وتقتل إبداعهم.
    ليخلص ويقول :
    ومن هنا توجه الفن الإسلامي حضاريا - في الأعم الغالب - إلى الإبداع ضمن جمالية "التجريد". والتجريد في الحقيقة إنما هو لغة الروح، وريشة الوجدان

    ويضيف سابحا بنا في بحر الجمال:

    إن لغة التجريد في الفن الإسلامي هي التي تصنع حركة الحياة الفعلية في المجتمع، حيث تتفتق جماليتُها المتجددة سلوكا حضاريا راقيا، وعلاقات اجتماعية مفعمة بالود والمحبة والسلام، تتضافر جميعها في نسيج عمراني يرقى إلى درجة المثال، وذلك بما يفيض من وجدان الإنسان المسلم من تباريح الإيمان وأشواق الروح.
    و يقرر أنه :
    ما قتل الفن الغربي شيء مثل الولع بسجن الإبداع في الصور الجامدة الثابتة، ولو في حركتها الوهمية الاصطناعية. وعليه فإن الوضع الفني في أوروبا قد وصل فعلا إلى الباب المسدود.

    لينتهي بنا إلى واقع نظرة المسلمين للجمال خصوصا أبناء الصحوة الإسلامية :

    معاني الجمال في الإسلام، من صفاء الروح، ومنازل الإيمان، وأحوال الإحسان، لم يستفد منها جمهور كبير من أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة لأسباب شتى، منها اشتهار نسبة بعض مفاهيمها وألفاظها إلى المتصوفة؛ فكان أن زهد كثير من الناس فيها بسبب ما خالط بعض كتبهم من شطحات.
    وإنما هي عبارات قرآنية أو نبوية محضة. نعم، ربما اكتسبت في سياق الاستعمال التاريخي دلالات منحرفة في بعض الأحيان، فيكون الواجب هو تحريرها منها، لا إلغاءها والتنكر لها.


    و يضيف :
    ما ينبغي لذلك أن يعمينا عن جمال الدين، وإنما خاطبنا الله تعالى بالجمال، وأمرنا أن نرحل إلى منازله العليا، ونسير إليها سيرا لا يفتر ولا ينقطع حتى يدركنا اليقين.

    ويوجه خطابه في نهاية الحديث لأبناء الصحوة الإسلامية :

    إن الصحوة الإسلامية المعاصرة لفي أشد الحاجة إلى تربية ذوقية فنية، ترهف حسها بمواطن الجمال، الموجِّهةِ لكل شيء في هذا الدين، عقيدةً وشريعة. ...
    ألا ما أحوجنا اليوم إلى إعادة القراءة للدين، في مصادره العذبة الصافية الجميلة، قراءة تصل المسلم بالله، قبل أن تكون قراءة ينتقم بها لنفسه، من الظلم الاجتماعي، والطغيان السياسي، فيكون بتدينه عدوا للدين من حيث يدري أو لا يدري.

  6. #6
    الصورة الرمزية عبدالصمد حسن زيبار مستشار المدير العام
    مفكر وأديب

    تاريخ التسجيل : Aug 2006
    المشاركات : 1,887
    المواضيع : 99
    الردود : 1887
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي


    لنفتح نافدة نقاش و تأمل و استنباط من هذا النص :


    ... قصدت إلى استقصاء جماليات القرآن الكريم من السور والآيات لجئت به كله، فهذه عباراته الصريحة وإشاراته اللطيفة كلها، كلها مشعة بتوجيهات ربانية لتربية الذوق الإنساني حتى يكون في مستوى تمثل مقاصد الدين البهية، بتدينه الجميل. فهل عبثا نصَّ القرآنُ على جمالية الكون والنعم والحياة؟ وهل عبثا نبه القرآن الحس البشري الإسلامي، وربَّاه لالتقاط دقائق الحسن والبهاء في مناظر الفضاء والأرض والجبال والشجر والنبات والبحار والأنهار والأنوار والأطيار؟!

  7. #7
  8. #8
    الصورة الرمزية بهجت عبدالغني مشرف أقسام الفكر
    أديب ومفكر

    تاريخ التسجيل : Apr 2008
    الدولة : هنا .. معكم ..
    المشاركات : 5,142
    المواضيع : 253
    الردود : 5142
    المعدل اليومي : 0.88

    افتراضي


    ثرية جداً هذه المقالات وجميلة

    لي عودة بإذن الله

    لقراءتها بدقة


    الحبيب عبدالصمد
    أبدعت في اختيارك


    تحياتي


    لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

المواضيع المتشابهه

  1. العلم بين التطبيق والفلسفة
    بواسطة رافت ابوطالب في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 20-07-2015, 07:24 PM
  2. تأملات في بناء الفكر الإسلامي ( محمد عبد الله السمان - الإسلام اليوم )
    بواسطة زاهية في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 29-08-2008, 03:52 PM
  3. حقوق الانسان في الفكر السياسي الغربي والشرع الإسلامي
    بواسطة محمد حافظ في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 18-01-2005, 05:27 AM
  4. إلى متابع دوحة الفكر الإسلامي
    بواسطة د. سمير العمري في المنتدى أَخْبَارٌ وَإعْلانَاتٌ
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 09-11-2003, 02:11 AM