دعني أبوح اليوم لك بسر...وعدني أن تستمع إليّ إلى النهاية...
اعلم أن وقتك قصير وانك ربما لم تعد تستمتع بأحاديثي.. واعلم أني ربما ما عدت املك أسرار القدر في منحك تفاصيل المطر... واعلم أكثر انك ربما ما عدت تتذكر لون عيني...
لكني أرجوك استمع لي هذه المرة فقط ودعني أخبرك سرا... اقترب مني لأهمس لك في أذنك فلا أريد لأحد آخر أن يستمع إليّ...
امسك بيدي...وأغمض عينيك..وحاول أن تسافر معي إلى أول ورقة جمعتني بك... وأول كلمة وأول عبارة أهديتها إليك... صدقني إن أخبرتك أن أول لقاء لنا كان بمحض الصدفة واني لم اعتقد أني ذات يوم سأغمض عيني فوق صدرك وانك ربما تهديني ثوبا ابيض ووردة حمراء...
اذكر جيدا كيف التقينا ... وكيف دون أن ادري أرديتني في معركتك قتيلة... وكيف يومها أخذت على نفسي عهدا ألا أكون لغيرك شهيدة...
أتبتسم!!!!
لا تعتقد أني كنت في يوم ضعيفة....لكني اليوم اعترف بكل قوة..أني الأضعف... واعترف بقوة اكبر أني ما عدت أجيد البحث عن قصائد جديدة....
لطالما اعتقدت أن أولئك الذين يعترفون بضعفهم لا يستحقون أن تنشر صورهم في الجرائد ولا يستحقون أن يرتدوا الأوسمة... لكني اليوم اعتقد بقوة اكبر أن أولئك الذين يتساقطون ليعلنوا أنهم الأقوى... هم الأجدر بارتداء القلائد...
أتراك لمحتني يومها...كانت القاعة تعج بالمشاركين وأنا من خلفهم جميعا كنت استرق النظر إليك... لون عينيك وشكل حقيبتك وجريدتك... وثنيات قميصك... وعدد الخطوط في ابتسامة وجهك...ما زلت اذكرها جميعا... وأكثر ما اذكر صوت أنفاسك...
كل من كان هناك كان يستمع إلى كل شيء... إلا أنا ما عدت أجيد الاستماع إلى غيرك... وما عدت أجيد البحث عن صوت احدهم عدا صوت صمتك...فحينما يملأ الضجيج الأماكن وحينما تموت وتولد القصائد وحينما تعلو أصوات البائعين وتملأ أصوات المتشاجرين سماء المدينة.. وحينما يعم الصمت المكان ويحاول الليل أن يلقي على الجميع تعويذة السلام وتحاول الريح البحث عن مكان تختبئ به خوفا من إيقاظ النيام حينها فقط أجيد الاستماع إليك أكثر وأكثر ما استطيع أن استمع إلى صوتك أكثر...
كم حاولت ألا انظر في عينيك... وكم حاولت أن أجد مكانا آخر استلقي به دون أن تشعر بي ...كم كنت احلم أن تراني وكم كنت أخاف ألا تجيد الاستماع إلى صوت أنفاسي...
كل من استطعت التعرف إليه كان يهم بالسفر... بعد أن نلتقي يلملم أغراضه ويهديني ابتسامة وزهرة ويخبرني انه القدر... أتعلم كم بت اكره حقائب السفر وأثواب المهاجرين وسكك العابرين وأصوات المحركات وجثث الموتى وتراتيل السفر... حتى تلك الرسائل الصغيرة التي كانوا يحملونها البحر لتصل اللي... لم اعد استطيع جمعها فكيف لبضع من قطرات حبر أن تغنيني عن صوت المطر...
لم اعد أهوى جمع الرسائل ولا تلاوة القصائد ولا محاولة البحث عن قصائد المسافرين... وكل أولئك الذين كانوا ينتظرون أن اهديهم يوم العيد بطاقة ... سأخبرهم هذه المرة أني لم اعد ارغب في الاستمرار... وسأخبرهم بكل صراحة ألا يبعثوا لي بضع من قطرات حبر وورق ابيض ....
عيناك...كم خفت في يوم أن استيقظ دونهما... أو أن أشارك في مراسم زفاف يوم وليلة دون أن يكون صوتك موسيقى الحفل... وكم خفت أكثر أن استيقظ يوما لتخبرني أني ما عدت املك الأحلام... واني بت كبيرة بما يكفي لأحلق بعيدا...
يوم التقينا مزقت شهادة ميلادي وكل وثائق السفر... و أعلنت أن تاريخ ميلادي سيكون يوم التقي بك فقط... واني سأبقى صغيرتك للأبد...
يوم التقينا تخليت عن كل كبريائي وأردت أن أكون صغيرة.. أميرة... مدينة...لك... أردت أن أهديك وشاحي الأحمر وان أهديك قصائد مارسيل خليفة وأطواق الياسمين ...
وأكثر ما أردت أن أغدو مدينة عشقك...مدينة عنوانها عيني ونهايتها قدمي... فيها كل التواريخ مفقودة وكل العناوين ضائعة وكل القصائد مسافرة وكل تراتيل المطر وأصوات بكاء النساء وحدائق السماء وأناشيد الورد وصمت القدر ...مدينة عنوانها عيني وعينيك ...
أرجوك لا تغادر كرسيك الآن فقصتي شارفت على النهاية... اشرب فنجان قهوتك واعدك أن انتهي قبل أن تنهي اليوم قهوتك...
كم كنت احلم أن أتذوق قهوتك... وان اقترب من دفاترك وان أعيش كل تلك اللحظات التي تنجح في سرقتك مني... وكم كنت أتمنى أن احصل على شرف ارتداء احد لوحات قصائدك... أو أن أكون توقيعا في احد أوراق دفترك...
أغمض عينيك أرجوك... وحاول أن تتذكر ذلك اللقاء... وكيف يومها زلزلت مدينتي واعدت تكوين معالمي... وكيف دون أن تدري أهديتني تفاصيل عالمك لآخذ من يومها على نفسي عهدا ألا أكون يوما دون معالمك وان لا اكتب يوما حرفا يخلو من أحرفك...
حين التقينا يومها.. حاولت جاهدة أن أكون أميرة المكان... وحاولت أكثر ألا انظر في عينيك وان لا اشعر بدفء يديك ... كم حاولت استعادة كل أصوات الكون هربا من صوت أضلعك... وكم فشلت يومها لاكتشف أني مدينة تولد وتموت بين أضلعك...
اعلم انك قرأت كل دفاتري وانك لمحت اسمك يزين كل ادمعي... وان كل لوحاتي التي رُسمت والتي ما زالت تحاول البحث عن مكان يحتويها ستحمل في تفاصيلها حكايتي معك...
ولتعلم أكثر أني منذ اليوم سأمتنع عن ارتشاف القهوة بلا سكر... واني سأرتدي الأبيض والأسود.. واني سأحمل في كل مناسبة زهرة حمراء وانك دوما ستحمل صورتي في دفترك...
كم بت اشعر بالغيرة من كل أولئك اللاتي أهديتهن ثوبا ابيض ووردة حمراء... وكل أولئك اللاتي أطلقت عليهن لقب شهداء... وكل أولئك اللاتي زين قصائدك...
في كل مرة اشعر بالشوق إليك أعود إلى دفاترك القديمة بحثا عن مكان ربما يكون لي... وكم كنت افشل كل مرة في إيجاد حتى ابتسامة تشير لي... أتراك كنت تجهل وجودي في سجلات قصائدك... أم أني الوحيدة التي كانت تشعر بحاجتها وشوقها الدائم إليك...
أرجوك انظر في عيني اليوم واخبرني... أما زلت مدينتك؟ أما زلت أحلام قصائدك؟ أما زالت القصائد تولد من اجلي وتكون من اجلي؟
أرجوك انظر في عيني وحاول البوح لي بمكاني... اخبرني أين كل تلك الصور التي أهديتك إياها وأين كل تلك القصائد التي كنت اجهل محتواها....
أرجوك اخبرني...أما زلت تحبني؟!
اعتذر...قد أكون تجاوزت مساحة وقتي المسوح... وكن أكون سرقت من تفاصيل يومك بضعا من دقائق شهادة ميلادي... ولكن قبل أن تغادر..عدني أرجوك انك يوم استشهادي...ستهديني كفنا ابيض ووردة حمراء وأن صورتي ستكون مع كل أولئك الذين ما عادوا يجيدون العيش بعيدا عنك وما عادوا يجيدون البحث عن مدينة أخرى غيرك وما عادوا يرسمون قصائد عشق الزيتون....
واعتذر أكثر...إن كنت قد تأخرت بالعودة... وان كنت في يوم حاولت الهرب بلا عودة...
أغمض عينيك ودعني أخبرك بسر...
سأخبر العالم عن حكايتي معك...كيف التقينا قبل عشرين عاما وكيف اليوم بت لا أجيد البحث عن مدينة أخرى تحمل اسما غيرك... وتحمل لونا غير لون عينيك... وكيف أني اليوم سأهديك أنا... واني سأعلن وفاة كل أولئك الذين حاولوا أن يدنسوا ارض صدرك بالبكاء...
سأحفر اليوم في أجسادهم نفقا واهديهم صوت جنوني وجنونك... واعدك أنهم هنا لن يعودوا ... وان كانوا سيعبرون مرة أخرى...سيعبرون من على جسدي...
أغمض عينيك... وعدني أن تهديني اليوم كفنا ابيض ووردة حمراء.. وان تعلقني هناك مع كل أولئك الذين أهدوك في يوم صورة....
أغمض عينيك...وأخبرني ...
وطني.....أما زلت تعشقني؟!