أحدث المشاركات
صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 34

الموضوع: ذكريات فوق الغمام

  1. #1
    الصورة الرمزية حنان الاغا في ذمة الله
    أديبة وفنانة

    تاريخ التسجيل : Nov 2006
    الدولة : jordan
    المشاركات : 1,378
    المواضيع : 91
    الردود : 1378
    المعدل اليومي : 0.22
    من مواضيعي

      افتراضي ذكريات فوق الغمام

      ذكريات فوق الغمام
      صعدت درجات السلّم المعدنيّ بسرعة حتى وصلت الدرجة الأخيرة ، ثم توقفت للحظة ، قررت بعدها المضيّ إلى الداخل دون أن تلتفت وراءها .
      ابتسمت لها العينان الوادعتان اللتان تبثان الثقة والارتياح - أهلا وسهلا ، تفضلي سيدتي ، وأشار بيده إلى مقعدها مع انحناءة خفيفة ، وابتسامة لا تفارق ثغره .
      تمنت لو كان مقعدها قرب النافذة حيث تحب أن تجلس دائما ، وتنبهت إلى أنها لم ترد على ابتسامته وهي تشكره ، وتذكرت أنها ربما لم تبتسم منذ مدة طويلة، فالتفتت إليه وقد رسمت ظل ابتسامة على وجهها ، ولكن التوقيت خانها ، لقد كان في هذه اللحظة يهب ابتسامته لراكب آخر .
      جلست في مقعدها تغالب النعاس ، تثاءبت وفكرت أنها ستحاول النوم طوال الرحلة على غير عادتها ،ستعوض ما فاتها من نوم خلال الأيام الماضية ، أيام القرارات الصعبة ،نعم أليست هي امرأة القرارات الصعبة ؟
      تمنت لو أن الموت لم يغيّب أمها ، تلك المرأة المتفردة بين الأمهات بهاء وحنانا .كانت مصدرا لطاقة عجيبة دافئة بثت فيها القوة ، وأسست في روحها أماكن دائمة للفرح والضحك ، والأمل والتحدي . أحتاجك يا أمي كيانا حقيقيا لا ذكرى ولا عِبر. أريدك يا أمي قربي كي أضحك ، كي أعود طفلة أتفيأ ظلال روحك ودفء حضنك .
      أعادها الصوت الهادىء من شرودها الناعس :
      _ سيدتي ، هلا ربطت الحزام من فضلك ؟ رفعت رأسها لتجد تلك الابتسامة التي يعتقد كل من يتلقاها أنها موجهة إليه بالذات . وفكرت أنه من اللائق أن ترد له ابتسامته : هل يمكنني الجلوس قرب النافذة؟ وقالت لنفسها أن هذا هو يوم الابتسامات الجوية!
      _ طبعا سيدتي ولكن بعد الإقلاع . ثم تلكأ قليلا : لقد رأيت صورتك وقرأت الخبر عن دراستك ، ثم أشارإلى الصحيفة في جيب المقعد ، فتمتمت بكلام لم يصل إلى مسامعه لكنه اعتقد أنها شكرته . فكرت وهي ممسكة بطرفي الحزام أنها لن تنام قبل أن تشهد الإقلاع ، وأنها لن تفوّته أبدا . نظرت حولها كي لا تضبط متلبسة ، وبهدوء تسحّبت إلى المقعد المجاور قرب الكوة التي تفصلها عن الكون . ربطت حزامها في اللحظة التي انطلق فيها صوت قائد الطائرة يعلن عن بدء الرحلة إلى بلاد الضباب ، وتصادف مرور المضيف مسرعا ، فمنحته نظرة اعتذار عاجلها بابتسامة وهو يسيرمبتعدا بخفة.
      ألصقت وجهها بالكوة وركزت نظرها على الجناح الذي كان يهتز بعنف مع تسارع حركة الطائرة على المدْرج ، وتدريجيا خفت الحركة وبدأت الطائرة ٌإقلاعا ناعما ، فشعرت كما دائما بارتفاع الطائرة وهبوط قلبها .هي لحظة الفصل بين الأرض والفضاء، بينما هو كائن وما سيكون ، بين حياة قائمة وموت محتمل !هي اللحظة التي تصبح فيها خلوا من الإرادة . فكرت في أمها وفي الشمس التي تركتها هناك ، وفي الضباب الذي سيلف كيانها بعد ساعات قليلة ، وتألمت ، بل غضبت .هل علينا أن نقايض الدفء بالصقيع ؟ والشمس بالغمام؟ وتراب من نحب بنصب من رخام؟
      كان من الممكن أن تتابع العمل على أطروحتها هناك فلماذا قرار الرحيل!
      رجعت إلى اللحظة الحاضرة ومسحة كآبة لا بد تمددت فوق صفحة وجهها ، وتنبهت للصوت اللطيف ينحني باتجاهها - سيدتي، هل تقبلين دعوتنا إلى مقصورة القيادة؟
      راقتها الفكرة . ربما اطلعوا على الصحيفة ، ثم _ نعم بكل سرور .دخلت المقصورة على أصوات مرحبة من الطاقَم ، وطُُلب إليها الجلوس في مقعد ملاح لم يلتحق بالرحلة.
      قال الجالس بجانبها :هذه الأزرّة ستقومين بتشغيلها ، هذا للتحكم بدرجة الحرارة وهذا لمكيفات الهواء وهذا ... وأحست بوجهها يعبق حرارة ، فسألها : ماذا تشرب السيدة ؟
      _عصير ليمون . لم تكن هي من أجابت ولكنه صوت ما ، لم يكن وقعه غريبا ولكنه لم يكن مألوفا .رفعت رأسها تبحث عن مصدر الصوت فلم تجده ، إلا أنه استأنف - أتذكر طفلة في الحادية عشر ذات شعرطويل ورداء أزرق زرقة ماء الأعماق ، وصباح خريفي مشمس ولعبة الحجلة فوق سطح بيت جميل .ولم تحظ بفرصة للتساؤل ، فقد استمر الصوت الآتي من أحد الطياريْن – كانوا أربعة أطفال هي وأخويْن وأختهما .
      سمعت صوتا داخلها يقول كنت ألعب معهم فوق السطح . كنت أرتدي ثوبا أزرق بحريا ، وكان شعري طويلا.وأكمل الصوت : كان الدور ليس دورها للقفز فوق المربعات المرسومة بالطباشير على الأرض ، وكانت تتراجع إلى الخلف خطوة خطوة لتفسح المجال لصاحب الدور .
      ومن داخلها استأنف صوت الذكرى : كنت أتراجع خطوة خطوة
      هو- فجأة طارت هبوطا كالسهم باتجاه الحديقة .
      صوت داخلها : لم أعرف إلا أنني كنت أطير وأقع فوق كوم تراب أبيض .نعم لقد اتسخ.. واستدار الطيارمقاطعا وهوينظر إليها بعينين زرقاوين تشع فيهما ابتسامة كبيرة : اتسخ ثوبك وشعرك وبكيتِ .
      فقالت بشرود تام : بكيت معتقدة أن أمي ستغضب من شكلي المعفر بالتراب الأبيض. وتابعت : كنت مازلت أستلقي عندما نظرت إلى أعلى ووجدت ستة عيون سوداء وبنية وزرقاء تحملق بي في خوف ،
      نعم ،هي هذه العيون .
      نظرت باتجاهه وكان يضحك وينظر إليها ، وسأل عن عنقها فوضعت يدها بعفوية على عنقها وهمست لنفسها : عنقي كان يؤلمني من أثرالسقطة . ثم أحست بنفسها تتحول طفلة في لحظة وهو طفل أشقر بعينين زرقاوين.
      ها هو صندوق ذكرياتها المفرحة يفتح أمام روحها وعينيها ، وها هي تنطلق واحدة إثر أخرى: وجه أمها الحنون ، أصدقاء البراءة ، سماء الخريف المشرقة وضحكات الطفولة .ها هي تضحك تارة وتدمع تارة ، وتتلاحق اللقطات وتتسابق في الزمن أماما ووراء وفي المكان هنا وهناك .وهي التي اعتقدت أنها ستكون عصية الدمع والفرح.
      نظرت إلى العينين الزرقاوين فبادرها هامسا : ستفاجأ أمي اليوم .استعدي لاستقبال حافل . واستدار إلى شاشته والفضاء أمامه .
      ______________
      حنان الأغا
      2006
      "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي"

    • #2
      الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
      في ذمة الله

      تاريخ التسجيل : May 2006
      الدولة : محارة شوق
      العمر : 64
      المشاركات : 3,523
      المواضيع : 160
      الردود : 3523
      المعدل اليومي : 0.54

      افتراضي

      اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حنان الاغا مشاهدة المشاركة
      ذكريات فوق الغمام
      صعدت درجات السلّم المعدنيّ بسرعة حتى وصلت الدرجة الأخيرة ، ثم توقفت للحظة ، قررت بعدها المضيّ إلى الداخل دون أن تلتفت وراءها .
      ابتسمت لها العينان الوادعتان اللتان تبثان الثقة والارتياح - أهلا وسهلا ، تفضلي سيدتي ، وأشار بيده إلى مقعدها مع انحناءة خفيفة ، وابتسامة لا تفارق ثغره .
      تمنت لو كان مقعدها قرب النافذة حيث تحب أن تجلس دائما ، وتنبهت إلى أنها لم ترد على ابتسامته وهي تشكره ، وتذكرت أنها ربما لم تبتسم منذ مدة طويلة، فالتفتت إليه وقد رسمت ظل ابتسامة على وجهها ، ولكن التوقيت خانها ، لقد كان في هذه اللحظة يهب ابتسامته لراكب آخر .
      جلست في مقعدها تغالب النعاس ، تثاءبت وفكرت أنها ستحاول النوم طوال الرحلة على غير عادتها ،ستعوض ما فاتها من نوم خلال الأيام الماضية ، أيام القرارات الصعبة ،نعم أليست هي امرأة القرارات الصعبة ؟
      تمنت لو أن الموت لم يغيّب أمها ، تلك المرأة المتفردة بين الأمهات بهاء وحنانا .كانت مصدرا لطاقة عجيبة دافئة بثت فيها القوة ، وأسست في روحها أماكن دائمة للفرح والضحك ، والأمل والتحدي . أحتاجك يا أمي كيانا حقيقيا لا ذكرى ولا عِبر. أريدك يا أمي قربي كي أضحك ، كي أعود طفلة أتفيأ ظلال روحك ودفء حضنك .
      أعادها الصوت الهادىء من شرودها الناعس :
      _ سيدتي ، هلا ربطت الحزام من فضلك ؟ رفعت رأسها لتجد تلك الابتسامة التي يعتقد كل من يتلقاها أنها موجهة إليه بالذات . وفكرت أنه من اللائق أن ترد له ابتسامته : هل يمكنني الجلوس قرب النافذة؟ وقالت لنفسها أن هذا هو يوم الابتسامات الجوية!
      _ طبعا سيدتي ولكن بعد الإقلاع . ثم تلكأ قليلا : لقد رأيت صورتك وقرأت الخبر عن دراستك ، ثم أشارإلى الصحيفة في جيب المقعد ، فتمتمت بكلام لم يصل إلى مسامعه لكنه اعتقد أنها شكرته . فكرت وهي ممسكة بطرفي الحزام أنها لن تنام قبل أن تشهد الإقلاع ، وأنها لن تفوّته أبدا . نظرت حولها كي لا تضبط متلبسة ، وبهدوء تسحّبت إلى المقعد المجاور قرب الكوة التي تفصلها عن الكون . ربطت حزامها في اللحظة التي انطلق فيها صوت قائد الطائرة يعلن عن بدء الرحلة إلى بلاد الضباب ، وتصادف مرور المضيف مسرعا ، فمنحته نظرة اعتذار عاجلها بابتسامة وهو يسيرمبتعدا بخفة.
      ألصقت وجهها بالكوة وركزت نظرها على الجناح الذي كان يهتز بعنف مع تسارع حركة الطائرة على المدْرج ، وتدريجيا خفت الحركة وبدأت الطائرة ٌإقلاعا ناعما ، فشعرت كما دائما بارتفاع الطائرة وهبوط قلبها .هي لحظة الفصل بين الأرض والفضاء، بينما هو كائن وما سيكون ، بين حياة قائمة وموت محتمل !هي اللحظة التي تصبح فيها خلوا من الإرادة . فكرت في أمها وفي الشمس التي تركتها هناك ، وفي الضباب الذي سيلف كيانها بعد ساعات قليلة ، وتألمت ، بل غضبت .هل علينا أن نقايض الدفء بالصقيع ؟ والشمس بالغمام؟ وتراب من نحب بنصب من رخام؟
      كان من الممكن أن تتابع العمل على أطروحتها هناك فلماذا قرار الرحيل!
      رجعت إلى اللحظة الحاضرة ومسحة كآبة لا بد تمددت فوق صفحة وجهها ، وتنبهت للصوت اللطيف ينحني باتجاهها - سيدتي، هل تقبلين دعوتنا إلى مقصورة القيادة؟
      راقتها الفكرة . ربما اطلعوا على الصحيفة ، ثم _ نعم بكل سرور .دخلت المقصورة على أصوات مرحبة من الطاقَم ، وطُُلب إليها الجلوس في مقعد ملاح لم يلتحق بالرحلة.
      قال الجالس بجانبها :هذه الأزرّة ستقومين بتشغيلها ، هذا للتحكم بدرجة الحرارة وهذا لمكيفات الهواء وهذا ... وأحست بوجهها يعبق حرارة ، فسألها : ماذا تشرب السيدة ؟
      _عصير ليمون . لم تكن هي من أجابت ولكنه صوت ما ، لم يكن وقعه غريبا ولكنه لم يكن مألوفا .رفعت رأسها تبحث عن مصدر الصوت فلم تجده ، إلا أنه استأنف - أتذكر طفلة في الحادية عشر ذات شعرطويل ورداء أزرق زرقة ماء الأعماق ، وصباح خريفي مشمس ولعبة الحجلة فوق سطح بيت جميل .ولم تحظ بفرصة للتساؤل ، فقد استمر الصوت الآتي من أحد الطياريْن – كانوا أربعة أطفال هي وأخويْن وأختهما .
      سمعت صوتا داخلها يقول كنت ألعب معهم فوق السطح . كنت أرتدي ثوبا أزرق بحريا ، وكان شعري طويلا.وأكمل الصوت : كان الدور ليس دورها للقفز فوق المربعات المرسومة بالطباشير على الأرض ، وكانت تتراجع إلى الخلف خطوة خطوة لتفسح المجال لصاحب الدور .
      ومن داخلها استأنف صوت الذكرى : كنت أتراجع خطوة خطوة
      هو- فجأة طارت هبوطا كالسهم باتجاه الحديقة .
      صوت داخلها : لم أعرف إلا أنني كنت أطير وأقع فوق كوم تراب أبيض .نعم لقد اتسخ.. واستدار الطيارمقاطعا وهوينظر إليها بعينين زرقاوين تشع فيهما ابتسامة كبيرة : اتسخ ثوبك وشعرك وبكيتِ .
      فقالت بشرود تام : بكيت معتقدة أن أمي ستغضب من شكلي المعفر بالتراب الأبيض. وتابعت : كنت مازلت أستلقي عندما نظرت إلى أعلى ووجدت ستة عيون سوداء وبنية وزرقاء تحملق بي في خوف ،
      نعم ،هي هذه العيون .
      نظرت باتجاهه وكان يضحك وينظر إليها ، وسأل عن عنقها فوضعت يدها بعفوية على عنقها وهمست لنفسها : عنقي كان يؤلمني من أثرالسقطة . ثم أحست بنفسها تتحول طفلة في لحظة وهو طفل أشقر بعينين زرقاوين.
      ها هو صندوق ذكرياتها المفرحة يفتح أمام روحها وعينيها ، وها هي تنطلق واحدة إثر أخرى: وجه أمها الحنون ، أصدقاء البراءة ، سماء الخريف المشرقة وضحكات الطفولة .ها هي تضحك تارة وتدمع تارة ، وتتلاحق اللقطات وتتسابق في الزمن أماما ووراء وفي المكان هنا وهناك .وهي التي اعتقدت أنها ستكون عصية الدمع والفرح.
      نظرت إلى العينين الزرقاوين فبادرها هامسا : ستفاجأ أمي اليوم .استعدي لاستقبال حافل . واستدار إلى شاشته والفضاء أمامه .
      ______________
      حنان الأغا
      2006
      أديبتنا السامقة القاصَّة المبدعة : حنان
      أرجو تقبلي هذه التأملات التي أوحت لي بها قصتك البارعة :
      تأملات بين الغمام
      رؤية نقدية في قصة:
      ذكريات فوق الغمام
      للأديبة حنان الآغا



      دلالات العنوان ، وآثارها في القصة :
      يوحي العنوان بدلالات تلقى آثارها تتجلى في سياق القصة :
      الدلالة الأولى: الذكرى : التي تلجأ إليها هروبا من ابتسام الواقع العمليّ ، والترحيب الآلي!
      "فالتفتت إليه وقد رسمت ظل ابتسامة على وجهها ، ولكن التوقيت خانها .. لقد كان في هذه اللحظة يهب ابتسامته لراكب آخر "
      وكما تتجلى في ذكرى الأم من جهة ، وذكريات لعب الطفولة البريئة من جهة أخرى
      وسوف ندرك مدى الارتباط بينهما حين نسمع مناجاة بطلتنا لأمها الغائبة :
      " أحتاجك يا أمي كيانا حقيقيا لا ذكرى ولا عِبر. أريدك يا أمي قربي كي أضحك ، كي أعود طفلة أتفيأ ظلال روحك ودفء حضنك".
      وهكذا يرتبط استحضار صورة الأم باستعادة ذكريات الطفولة في اتصال حميم:
      "وجه أمها الحنون، أصدقاء البراءة ، سماء الخريف المشرقة وضحكات الطفولة".
      الدلالة الثانية: الصعود والارتفاع :
      وسوف يتجلى في اختيار الطائرة مسرحا للقصة ، من الناحية الواقعية وكذلك الارتفاع على "ما وراءها " من الناحية المجازية حين
      " صعدت درجات السلّم المعدنيّ بسرعة حتى وصلت الدرجة الأخيرة ، ثم توقفت للحظة ، قررت بعدها المضيّ إلى الداخل دون أن تلتفت وراءها ".
      كما نلاحظ فكرة الارتفاع حتى في اللعبة التي كانت
      "للقفز فوق المربعات المرسومة بالطباشير على الأرض"
      أما مكانها فهو أيضا دال على الارتفاع ؛ إذ كانت ":لعبة الحجلة فوق سطح بيت جميل".
      ولكن علينا ألا ننخدع بإلحاح القاصَّة على ملمح الصعود فهو ليس صعودا محضا ، بل العجيب هنا هو ارتباطه بالهبوط في ثنائية متلازمة :
      "فشعرت كما دائما بارتفاع الطائرة وهبوط قلبها"
      حتى الطائرة رأتها قاصتنا في داخلها وقد : "طارت هبوطا كالسهم باتجاه الحديقة"
      وكذلك في ذكرى اللعبة تقول: " لم أعرف إلا أنني كنت أطير وأقع فوق كوم تراب أبيض"
      الدلالة الثالثة: الغمام :
      بما يوحي من ضبابية ، وعدم وضوح حيث تغيم الرؤية بين القرارات الصعبة و:
      " الضباب الذي سيلف كيانها بعد ساعات قليلة، وتألمت ، بل غضبت ..هل علينا أن نقايض الصقيع بالدفء ؟ والشمس بالغمام؟ وتراب من نحب بنصب من رخام"؟

      أدوات الحكي :

      وتجيد قاصتنا توظيف أدواتها توظيفا فنيا موفقا ،وأهمها :
      1- المكان والزمان :
      تجيد قاصتنا تضفير عنصري الزمان والمكان
      حيث نطالع المكان (الطائرة) مسرح الحدث الحالي مضفرا مع الزمان (اللحظة الحاضرة) ،
      والحديقة مسرح ذكريات الصبا ولعب الطفولة ، مع لحظة الذكرى الحميمة (الماضي)
      2- الألوان:
      تنهض الألوان (وهي وسيلة فنية أثيرة لدى قاصتنا) بدور رئيس في رسم المشهد، لاسيما اللون الأزرق :
      " ورداء أزرق زرقة ماء الأعماق"
      "كنت أرتدي ثوبا أزرق بحريا"
      وبهذا يتجلى إحساسها بقيمة اللون في عيون الأطفال :
      " نظرت إلى أعلى ووجدت ستة عيون سوداء وبنية وزرقاء تحملق بي في خوف".
      ولكنها تنحاز هنا أيضا إلى زرقة ماء الأعماق عندما :
      "أحست بنفسها تتحول طفلة في لحظة وهو طفل أشقر بعينين زرقاوين"
      وتتلاعب القاصة بالألوان فتجعل اللون الأبيض هنا دليلا على الاتساخ لأنه سيخدش الزرقة في بوحها:
      "بكيت معتقدة أن أمي ستغضب من شكلي المعفر بالتراب الأبيض"
      3: الأصوات:
      أما الأصوت هنا فقد حلت محل الشخوص حيث استحالت جميع الشخوص هنا مجرد أصوات بالنسبة إليها وكأنها لا تكاد تراهم ، أو لا تريد أن تعني نفسها بفتح عينيها لترى أحدا :
      إن كل اتصالها مع العالم الخارجي يجيء من خلال حاسة السمع:
      "أعادها الصوت الهادىء من شرودها الناعس"
      "انطلق فيها صوت قائد الطائرة يعلن عن بدء الرحلة.."
      "وتنبهت للصوت اللطيف ينحني باتجاهها :- سيدتي، هل تقبلين دعوتنا إلى مقصورة القيادة؟
      "دخلت المقصورة على أصوات مرحبة من الطاقَم "
      "لم تكن هي من أجابت ولكنه صوت ما ، لم يكن وقعه غريبا ولكنه لم يكن مألوفا .رفعت رأسها تبحث عن مصدر الصوت فلم تجده "
      بل تسند الإكمال إلى الصوت بصفته الفاعلَ لا إلى الشخص المتكلم ذاته ، فتقول:
      "وأكمل الصوت : كان الدور ليس دورها للقفز فوق المربعات المرسومة بالطباشير على الأرض".
      وكأنه استحال صوتا ، مجرد صوت.
      ليس فقط في تعاملها مع العالم الخارجي بل مع العالم الداخلي أيضا ،
      حتى الذكرى لم تعد سوى صوت في هذا الغمام الكثيف.
      "ومن داخلها استأنف صوت الذكرى"
      تدفق الخاتمة:

      وكعادة قاصتنا تأتي الخاتمة متدفقة في صور سريعة متلاحقة وكأنها تطوي الأحداث طيا للوصول إلى النهاية المرجوة!
      "وتتلاحق اللقطات وتتسابق في الزمن أماما ووراء وفي المكان هنا وهناك ..وهي التي اعتقدت أنها ستكون عصية الدمع والفرح ،
      نظرت إلى العينين الزرقاوين فبادرها هامسا : ستفاجأ أمي اليوم .استعدي لاستقبال حافل .. واستدار إلى شاشته والفضاء أمامه ."
      لاحظ أن الختام كأنما أراد أن يعوض البطلة عما افتقدته فبدلا من أمها هناك سيقدم لها أمه هو ،
      وبدلا من اللعب القديم البريء ، سيهيئ لها الاستقبال الحافل!
      فهل سيجدي ذلك؟
      هل سيبدد الغمام؟
      هل سيعيد الشمس ؟
      هكذا يترك بطلتنا ( و القراء معها ) يتأملون في فضاءٍ ممتدّ، كالفضاء الذي أمامه.
      ودمت بسعادة وإبداع
      مصطفى
      نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي ولريشة الغالية أهداب الشكر الجميل

    • #3

    • #4
      الصورة الرمزية محمد سامي البوهي عضو غير مفعل
      تاريخ التسجيل : Mar 2006
      الدولة : مصر+ الكويت
      العمر : 46
      المشاركات : 1,087
      المواضيع : 110
      الردود : 1087
      المعدل اليومي : 0.16

      افتراضي

      السلام عليكم ورحمة الله .
      الأستاذة الأديبة القاصة / حنان
      أخي الغالي الدكتور مصطفى لم يترك لنا ثغرة ننفذ منها ، فجاء تعليقه شاملاً وافياً .....
      لعب المكان دور البطولة بل أراه هو البطل الحقيقي ، المكان هو بين السماء ، والارض ، ووسط الضباب ، عالم مهيب ، يخضع لفكرة الموت المباغت أم الحياة ، جمعت الكاتبة بهذا الصندوق الطائر كل ذكرياتها ، وقبل أن تأخذنا معها إلى صالة العرض ، قامت بعمل فَرشة دخولية لملامح الشخصية ، بعد ذلك نقلة ، بل قفزة ، غير إعتيادية ، تنقل الينا احداثها من مقصورة الطيار ، مخالفة لإعتقاد القارىء المكنون ، لتسحبنا إلى إسطوانة دائرية من الاسترجاع الزمني البعيد ، لتأخذنا من أيدينا إلى نهاية سينمائية (هيليودية )، يسقط عليها (تتر) النهاية .
      مودتي
      محمد

    • #5
      أديب
      تاريخ التسجيل : Apr 2006
      المشاركات : 9,079
      المواضيع : 101
      الردود : 9079
      المعدل اليومي : 1.38

      افتراضي

      حنان...........

      وقفت عند القصة لاسطر هنا بضع كلمات..لكني فوجئت بالدكتور مصطفى وقد رفع الستار عليها ودخل اغوارها وفضح امرها..حتى بدت لي القصة عارية من غير ستر..لااعلم الان ماذا افعل هل اكتب تعقيبا على القصة ام اكتب تعقيبا على تعقيب الدكتور..؟
      لاباس...دعوني استدر بعض ملامح القصة هنا..بالاخص في محاوره الاولى..ولاركز على الذكرى..واستعادتها..ومدى تاثيرها على الانسان ذاته من حيث انه مستمر لايمكن وقف مسيرته الا بحالة انتهاء وجوده الفعلي في الوجود..هذه الذكريات التي اجدها دائما تلامس اعماق الانسان بالاخص الانثى..حيث تعيدها الى اتون الحياة التي بدأتها..بوعي..اقصد منذ بلوغ الوعي منها مبلغ الادراك الحسي والعقلي والوجداني..ولكم تسائلت وان ارى هذه الظاهر التي تبيح الاستعادة هل الذكريات حالة انسانية لايمكن التخلص منها..ام انها حالة طارئة...؟ وكنت اردد..الانسان الذي يفقد قيمته كانسان فعال مجدي..ويسلك طريق الخطيئة..هل يعيش هذه الحالة في كل جريمة يقترفها سوار مع ذاته او مع الاجتماع..؟
      وحتى لااحيد بالموضوع الى متاهات ومغارات اعلم بان ياجيدها..اوجه سؤالي..هل من الضرورة هذه الاستعادة للذكريات..؟ الا..تؤثر على سلوكنا وافعالنا وحتى طموحاتنا اذا ما ادركنا بانها حتى وان خرقتها بعض لحظات الجمال والمتعة هي مغلفة ومشبعة بالالم والموت والوجع والفجيعة..لاباس وان كانت استحضار لصور حميمة...؟
      حنان...
      نصوصك تقودنا الى متاهات نعلمها..لكننا ندخلنا مخيرين..؟
      محبتي لك
      جوتيار

    • #6
      شاعر
      تاريخ التسجيل : Nov 2006
      الدولة : سوريا ..حمص
      العمر : 51
      المشاركات : 1,617
      المواضيع : 37
      الردود : 1617
      المعدل اليومي : 0.25

      افتراضي

      الكاتبة العملاقة حنان


      شرف والله لعيوننا أن تمر على هذا القلم



      بارك الله بروحك


      لله أنت

    • #7
      الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
      في ذمة الله

      تاريخ التسجيل : May 2006
      الدولة : محارة شوق
      العمر : 64
      المشاركات : 3,523
      المواضيع : 160
      الردود : 3523
      المعدل اليومي : 0.54

      افتراضي

      اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جوتيار تمر مشاهدة المشاركة
      حنان...........
      وقفت عند القصة لاسطر هنا بضع كلمات..لكني فوجئت بالدكتور مصطفى وقد رفع الستار عليها ودخل اغوارها وفضح امرها..حتى بدت لي القصة عارية من غير ستر..لااعلم الان ماذا افعل هل اكتب تعقيبا على القصة ام اكتب تعقيبا على تعقيب الدكتور..؟
      لاباس...دعوني استدر بعض ملامح القصة هنا..بالاخص في محاوره الاولى..ولاركز على الذكرى..واستعادتها..ومدى تاثيرها على الانسان ذاته من حيث انه مستمر لايمكن وقف مسيرته الا بحالة انتهاء وجوده الفعلي في الوجود..هذه الذكريات التي اجدها دائما تلامس اعماق الانسان بالاخص الانثى..حيث تعيدها الى اتون الحياة التي بدأتها..بوعي..اقصد منذ بلوغ الوعي منها مبلغ الادراك الحسي والعقلي والوجداني..ولكم تسائلت وان ارى هذه الظاهر التي تبيح الاستعادة هل الذكريات حالة انسانية لايمكن التخلص منها..ام انها حالة طارئة...؟ وكنت اردد..الانسان الذي يفقد قيمته كانسان فعال مجدي..ويسلك طريق الخطيئة..هل يعيش هذه الحالة في كل جريمة يقترفها سوار مع ذاته او مع الاجتماع..؟
      وحتى لااحيد بالموضوع الى متاهات ومغارات اعلم بان ياجيدها..اوجه سؤالي..هل من الضرورة هذه الاستعادة للذكريات..؟ الا..تؤثر على سلوكنا وافعالنا وحتى طموحاتنا اذا ما ادركنا بانها حتى وان خرقتها بعض لحظات الجمال والمتعة هي مغلفة ومشبعة بالالم والموت والوجع والفجيعة..لاباس وان كانت استحضار لصور حميمة...؟
      حنان...
      نصوصك تقودنا الى متاهات نعلمها..لكننا ندخلنا مخيرين..؟
      محبتي لك
      جوتيار


      أخي الحبيب الأديب المفكر: جوتيار

      إنما هي كما ذكرتُ في العنوان مجرد " تأملات في الغمام" اختارت مستوى واحدا من مستويات القصة ، وأنا على ثقة تامة بأنها نص أدبي متعدد المستويات الذي يشبه الجوهرة ، وها هو ذا أخي الكريم سامي البوهي ينفذ إلى أسرار في القصة لم تخطر لي على بالٍ .

      ولك مني التحية خالصة لتساؤلاتك الذكية الثرية


      محبك: مصطفى

    • #8
      الصورة الرمزية وفاء شوكت خضر أديبة وقاصة
      تاريخ التسجيل : May 2006
      الدولة : موطن الحزن والفقد
      المشاركات : 9,734
      المواضيع : 296
      الردود : 9734
      المعدل اليومي : 1.48

      افتراضي

      المبدعة الفنانه القصاصة الأديبة / حنان الأغا ..

      بناء على كل القراءات التي سبقت ..
      سأدخل بمدخل آخر ، لا يخص القصة .. بل كاتبتها ..
      الفنانة الرسامة ـ حنان الأغا ..
      التي أبدعت في مزج اللون لتظهر الإحساس عبر خطوط ، تتعمق حسيا في اللوحة ، حتى ولكأنها تحكي قصة .
      الإنسانة التي بطبيعتها .. رقيقة ؛ حنونة ؛ حساسة ؛ عميقة الفهم .
      هذه الفنانة الأديبة ، التي تحول الكلمات إلى الصور وبالعكس برشاقة الريشة والقلم ، لتستخدم ألوانا معبرة محية ، عميقة المعنى والمغزى .. لا بد وأن تكون إنسان يختلف بتكوينه عن الإنسان العادي .
      حنان الأغا ..
      عرفتك أديبة ، ثم عرفتك رسامة .. وبعدها عرفتك إنسانة رائعة ..
      حين يقال أن كلماتك تخترق النفس ، فتؤثر فيها .. فهذا صدق .
      حين يقال أن اللون الذي تمزجيه يعطي نوعا من الإحساس ليتحدث بصوت مسموع .. فهذا صدق .
      حين تتحدثي ..بصوتك .. فيخترق هذا الصوت كل حواجز التوجس والغربه ، ليكون صوتا مألوقا .. فهذا أيضا صدق ..

      حنا الأغا ..
      سعيدة أني عرفتك عن قرب .
      وسعيدة لتواجدك في أطر حياتي الخاصة .

      لك كل الحب والمودة .
      تحيتي .
      //عندما تشتد المواقف الأشداء هم المستمرون//

    • #9
      الصورة الرمزية سحر الليالي أديبة
      تاريخ التسجيل : Sep 2005
      الدولة : الحبيبة كــويت
      العمر : 38
      المشاركات : 10,147
      المواضيع : 309
      الردود : 10147
      المعدل اليومي : 1.50

      افتراضي

      رائعة بكل معنى الكلمة يا حنان
      بحق قصة مدهشة وبديعة

      قرأتها بشغف
      وأعجبني العنوان كثيرا

      سلمت ودام ابداعة
      لك خالص ودي وباقة ياسمين

    • #10
      عضو غير مفعل
      تاريخ التسجيل : Dec 2006
      الدولة : في عقل العالم ، في قلب الحكايات
      المشاركات : 1,025
      المواضيع : 36
      الردود : 1025
      المعدل اليومي : 0.16

      افتراضي

      ذكريات فوق الغمام

      من روائع الأديبة القديرة

      حنان الأغا

      لا يمكن أن أدخل إلى الموضوع دون أن أثبت إعجابي بالقراءات التي قدمت وأخص الدراسة الرائعة لأستاذنا الدكتور / مصطفى عراقي والتي استفدنا منها الكثير وكذلك قراءتي كل من الأستاذ : محمد البوهي ومفكرنا جوتيار تمر .

      ذكريات فوق الغمام

      عنوان فاتح للشهية وكأنه ذو جناحين سيحلق بنا في أفق ممتد من الإبداع قرأته فقرأت القصة فإذا بي أحلق بالفعل في عالم من القص المتقن والسرد الرائع الخادم لكل المعطيات مع حبكة مميزة حيث يمتد العنوان بامتداد القصة من المدخل إلى الغلق فاستحضار الذكريات جاء على مستويين رئيسين
      ـ ذكريات السفر
      ـ ذكريات الطفولة
      وقد اشتمل كل منهما على الذكريات المتعلقة

      فذكريات السفر تستحضر الذكريات مع الأم ، وذكريات طفت مساعدة مثل ذكريات المعاناة في العمل ، وكثرة اتخاذ القرارات .
      أما ذكريات الطفولة ، فتستحضر ذكريات الفرح والبراءة ، لنجد الأم قاسمًا مشتركًا تتعلق به كل الذكريات الرئيسة والمساعدة .

      لقد اعتمدت القاصة في دخولها إلى القصة على عنصرين من عناصر الدخول أسميهما ( المصاحبة والتسلل ) أما المصاحبة فتظهر من خلال اصطحاب القاصة للمتلقي حين ترسم له عالمًا متجسدًا آخذة بيده مدخلة إياه إلى العالم الذي أبدعته ليجد نفسه ضمن الشخوص وربما انسجم مع القصة حتى يجد نفسه أحد الشخوص وفق طبيعته ، ومن الأدباء من يعتمد على هذا الدخول وحده ، أما أديبتنا : حنان الأغا فأجدها اعتمدت مع المصاحبة على التسلل وقد أفاد هذا الدخول جدًا حيث إن الحالة حالة استحضار ذكريات ، والذكريات لم تستدع آليًا أو بالرغبة هنا أو عشوائيًا وإنما عمدت القاصة إلى التدرج النوعي ، فنجد :
      ـ ذكريات يستحضرها الموقف : موقفها من السفر يستحضر ذكرياتها كامرأة ذات دور، كم اتخذت القرارات وحسمت المواقف.
      ـ ذكريات تستحضرها الحالة : فحالة الفقد والحزن تستحضر ذكرياتها مع الأم ومواقفها الحانية المبهجة .
      ـ ذكريات أوجدها موقف أنتج حالة : موقفها من المتحدث والمكان الذي هي فيه استحضر حزمة حالات ( حالة الارتباط بالمكان والشخوص : المنزل ، الحديقة ، الرفاق ، والأم ) حالة اللوعة والأسى لذهاب أيام الطفولة بكل ما فيها ( المرح ، الفرح ، الخوف ، الانطلاق ، الألم ) ولكن كل هذا يجتمع في البراءة .
      مما سبق نتبين أن القاصة اعتمدت عنصرين من عناصر الدخول والإدخال إلى القصة وغالبًا ما يكون هذا في صالح المتلقي ، بينما لو اعتمدت القاصة على الهجوم على الحدث لما تناسب ذلك مع هذه القصة خصوصًا وأن القاصة تستعرض لنا حالات نفسية مشبعة بالوجد، نسجت حولها شباكًا من المادية والسرد لا تخفي تشخيص الأصوات ، الألم وحتى التذكر ذاته استطاعت القاصة وببراعة أن تجعله أحد شخوص القصة وكيف لا وهو الشخصية الرئيسة التي توالدت فاستحضرت لنا مراتب الحدث .
      كنت منبهرًا وأنا أجد القاصة تأتي بشخصية نامية لتوفر على نفسها تنمية هذه الشخصية أثناء القص فهي ليست في حاجة لذلك لأن الشخصية ليست بحاجة لأن تتطور مثلما هي في حاجة لإحداث انعكاسات للماضي من خلال مواقف وحالات الحاضر ، وهذه الإمكانية تؤكد براعة القاصة في بناء القصة واختيار الحالة التي تجعل عليها شخوصها .
      أما إذا تناولنا القصة من الناحية الدرامية فسنلاحظ أن القاصة أتت بشخصية نسائية ذات دور اجتماعي ، معروفة ، منتشرة إعلاميًا وفي نفس الوقت ليست حديدية ن وقد مزجت القاصة كل ذلك ابتداءً بصعود السلم الحديدي إلى تجاوز المضيف دون اكتراث إلى الجلوس في مقعدها لتظهر الشاعرية في رغبتها في الجلوس إلى الكوة في حالة من القبول والرفض للنوم لتنمي ذلك عند الطيران حالة العلوق بين السماء والأرض أو بين الحياة والموت هذه الحالة التي تستدعي الذكريات وتستحضر الأم ولا أقول هنا الذكريات مع الأم فنحن أمام استحضار كامل للأم التي ماتت وكم كانت القاصة موفقة جدًا في هذا النسج حيث تستشعر الحزن يطفو على سطح الحكي محاولة التغلب عليه بتحقيق الرغبة في الجلوس في المكان الذي اختارت ( وعلى الرغم من وعد المضيف ، إلا أنها أصرت أن تتخذ القرار بنفسها ) وهنا تطفو حالة نسيان ، وكأنها أزمعت الانسلاخ من واقعها فقد نسيت شهرتها ومعرفة الناس بها ، لتظهر لنا القاصة ملمحًا من ملامح شخصية هذه المسافرة .
      ومع تنامي حالة الحزن والفقد وتصور المجهول وعقد هذه المقارنة الناجحة التي استغلتها القاصة استغلالاً بارعًا حين تقارن بين من وما نترك ومن أجل ما نتوقع ( .هل علينا أن نقايض الدفء بالصقيع ؟ والشمس بالغمام؟ وتراب من نحب بنصب من رخام؟ ) أرى أن ذروة التوقد النفسي والمشاعري كانت هنا تمهيدًا للمرحلة الجديدة حين توجه لها الدعوة إلى قمرة القيادة حيث الألق الدرامي الذي تحول الأبطال فيه إلى أصوات تستحضر مشاهد الماضي في حالة بلاي باك سينمائي . لكن الأبدع من ذلك هو صوت الطيار في مقابل الصمت الناطق ، إنها صامتة ، صوتها الداخلي المنبعثة فيه الأشكال يتم الكلام الذي نسمعه من الطيار وكأن هذه النفوس التي تآلفت في الطفولة أوجدت لها عالمًا فوق السحاب ربما يغشاه الضباب سترًا إلا أنه موجود ، إن هذا التقسيم وهذا التنامي الدرامي الذي أبدعته القاصة حنان الأغا بهذا التكثيف الرائع الذي يطلق العنان للخيال أن يسيح في عالمها الذي أبدعته في تشكيل رائع تجانست فيه الخطوط والألوان في إطار ألقٍ ، هذا التنامي الدرامي والبنائي للقصة محتاج للضوء واللون .
      أما اللون فقد سبقنا أستاذنا الدكتور مصطفى عراقي بتحديده
      وأما الضوء فقد رأيته نافذًا من الكوة في حالة الستحضار الضبابي
      ومن مقدمة الطائرة ( في قمرة القيادة ) لكي تبدو لنا الملامح أوضح حين يستحضر الطيار والمسافرة الطفولة لنرى العيون ، ألوان الثياب ، الحديقة ، الشعر ،اللعب وع كل هذا حالة الطيران من فوق السطح وقبلها حالات القفز وتبادل الأدوار ، وهنا أجد القاصة ترسم بريشتها المدركة لوحة تناهت في الدقة .
      هذا الضوء النافذ من مقدمة الطائرة كان عاملاً ـ أراه ـ أساسيًا في غلق القصة
      حيث العودة من الذكريات ، من خلف الضباب ، من فوق السحاب وفي حالة وصلٍ للماضي بالمستقبل ، أي التدرج من الإظلام إلى الخفوت إلى الضوء . الطيار ينهي الحديث ناظرًا إلى عنصرين ( الشاشة والأفق ) في توقع للألق وقد وعد بفرحة أمه عند رؤيتها .

      هنا تضع الكاتبة نهاية ذكية لقصتها تجمع كل العناصر اللونية والضوئية مانحة المساحة الذكية للمتلقي لأن يبقى مع النهاية زمنًا يحاورها ، ولا أتوقع أن نهاية أخرى قد تناسب هذه القصة التي بها من الأمتاع والإبداع ما يجعلها مقدمة لدينا .

      بقي أن أتوجه بالشكر لأديبتنا الرائعة : حنان الأغا بما قدمت لنا من إبداع وألق وروعة قصصية

      كما أتوجه للسادة القائمين على قسم القصة بطلبي تثبيت القصة كنموذج نقتدي به

      كلي احترام وتقدير

      مأمون المغازي

    صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة

    المواضيع المتشابهه

    1. النقش فوق الغمام "1"
      بواسطة محمد عبد المجيد الصاوي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
      مشاركات: 10
      آخر مشاركة: 07-01-2015, 02:05 AM
    2. تأملات في قصة( ذكريات فوق الغمام ) للأديبة : حنان الأغا
      بواسطة مأمون المغازي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
      مشاركات: 16
      آخر مشاركة: 21-04-2007, 12:53 PM
    3. وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
      بواسطة قلم في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
      مشاركات: 4
      آخر مشاركة: 12-09-2004, 11:07 PM
    4. أبعد الله الغمام .. وأنار الأفهام!
      بواسطة د. ندى إدريس في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
      مشاركات: 7
      آخر مشاركة: 14-12-2003, 02:07 PM
    5. ومر الغمام ...
      بواسطة الأندلسي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
      مشاركات: 23
      آخر مشاركة: 26-09-2003, 09:31 PM