مثلما تسافر الطيور المهاجرة ..تسافر المشاعر مرهقة متعبة ..وتحط على فنن قاس قد قست عليه السنون ،فلا تجد فيه خضرة ولا ماء .وآه ..ما أعظم الحب وما أصغرنا.
كيف يفكر المرء منا أن يهجر حبيبا طالما كان سببا في سعادته.
منذ عشرين عاما وأنا أحمل قلبي كعصفور أرهقه البحث عن عش يلازمه ،وأرغمته على العمل أربع وعشرين ساعة في الأربع والعشرين ساعة .ولم أفكر لحظة في أن القلب يمكن أن يتعب أو يحتاج إلى الراحة ما دام ينبض بحبك..
لكني بحبك أيضا... أيقنت أنه لا فرار..
كانت أفكاري نادرا ما تتصادم مع أفكارك ،إلا في أوقات أحس فيها أنك تفكر في أخذ إجازة غير محددة الزمان ،يبتعد فيها كل منا عن الآخر …خارج حدود المكان ،لا لشيء.. فقط لكسر شيء اسمه الروتين،وأخذت قراري في موافقة أفكارك ،وجاءت فرصة ظننتها سانحة لذلك .
جهزت حقيبة سفرك بكل ما يلزم وكنت أرتب الأشياء بحرص خشية أن يقع قلبي بينها خلسة .
وكنت أوصد أجفاني دون النظر في عينيك، وربما شاركتني أنت في كسر حدة الوداع دون أن تدري ،وحين أحسست بأن قلبي يمزق أضلعي ،أيقنت أن طائرتك قد أقلعت.
عدت مساء إلى بيتي فلم أجد فيه ما يشدني سوى رائحة تعلقت بستائره ولطالما سببت لنا من الخلاف الكثير، ولعلك تدهش من ذلك ،لكن صدق أني لا أبالغ فيما أقول.
دخلت غرفتي أتأمل جدرانها ففاجأتني لوحة معلقة على الجدار أثارت في شيئا لم أعهده من قبل! أخذتها أشم منها رائحة عبقك الذي لا يفارقني …كنت أغار منها كلما رأيتها تعانقك وتأخذ منك أناقتها ولا أخفيك أني سعدت بنسيانها دون حقيبتك .
خيمت علي كآبة خرساء،وأطلق الألم لساني لأكشف أمرا أشد من الألم ،وتذكرت في تلك اللحظات كم مرة سترت فيها ألمي وحرقتي برداء التجلد متوهمة أني أستطيع قهر الشوق إليك ولو للحظة .
ذاك المساء حطم البكاء صمتي وكنت ألملم نفسي خشية أن أجلب لأولادي الكآبة ،ولا أذكر كم مرة تظاهرت فيها بالرضا لهم وطلبت أشياء تلهيهم عني .
وبعد عناء شديد خلد كل منهم إلى نومه ،ورحت أعاتب نفسي الأمارة بالسوء على تلك الفكرة السخيفة التي قبلتها ،فأنا التي ما تحملت بعدك يوما ،وما تخيلت سعادة بغيابك ...كيف ؟؟والسعادة شوق يعانقه الوصال ..أخذت أقلب دفاتر الأيام فإذا بي أقع على أبيات تلمس جرحي:
عد يا حبيبي..عد
ففي أعماق ذاتي ألف دعوة
والذكريات تحيط بي في كل خطوة
واليأس اليأس المدمر يحتويني
واللهفة الحرا
على رغم التعاسة ..تعتريني
فإذا كياني كله
يهتز في شوق ونشوة
وأنا بدونك أنتهي
وأضيع في أعماق هوة
عد لي
فمذ سافرت
لم أبصر جمالا أو ضياء
بل أقفرت دنياي
من نور السعادة والهناء
جفت ينابيعي التي
كانت على وجودك
لم يعد فيها رواء
احتضنتني الظلمة ،وغلبني الأسى ،ووجدت نفسي بين التأمل والتألم أرسل دموع الوجد مزنا أغسل فيها قلبي من أدران فكرة صغيرة ترعرعت في حوض ذاكرتي..والفكرة فكرتك ..والقلب قلبي ..!
وأنا على جمر النوى أرقب عودتك ،وقد أمضيت إجازتك بأجمل ما تشتهي .