الســـــوط و الصـــــدى
رواية
بقلم / بنـــــور عائشة ( عائشة بنت المعمورة )



المقطع الثالث:


ـ6ـ

كان صمتي يرتعش وأنا أتظاهر بالصبر وبتمالك أعصابي أمام الصور الدامية التي تبثها القنوات، وكانت إدانتي لرياض أكبر من الصور التي أراها قائلة:
_ هو من يقتل؟
انتفض من كان حولي على مائدة الشاي.. صديقات الطفولة ومراحل الدراسة واستفزهن قولي واتهامي الخطير.
قالت أم الخير:
- هل جننت إلى هذه الدرجة؟
ردت ميمونـة:
- إنه رياض.. هل نسيت ما كان بينكما؟
_ هل نسيت أننا كنا نموت في اليوم ألف مرة و أنتما تتبادلان الحب بالنظرات ..
حدقت فيهن ولم أكترث لقولها فلقد كنت بحاجــة ماسـة إلى الحقيقـة.. كانت المظاهـرات تستفزني لأبحـث عن الحقيقة.. والاغتيـالات.. عن الحقيقة، وما يجـري في الكواليس وفي الملفات عن الحقيقة.. كنت أحاول أن أبحث عن الحقيقة في وطني..؟
في لباس "مليكة" الجلبـاب وخوفها وفي تحول رياض وتمرده على قوانين الحب والمجتمع؟
_ هل ولَّد لديـه رفضه لانحلال المجتمع الخلقي والفساد السياسي والاقتصادي غريزة التغيير نحو الأفضل..؟
_ هل يمكن ذلك؟
لقد سئمت القنوات الأجنبية وهي تنطق بالحقيقة،، قد تكون كل الحقيقة ولكنها ليسـت الحقيقة التي أبحث عنها.. تماماً كخطواتي الأولى.. خطوة.. خطوة.. الحقيقـة في حكايات الأب المختـار عن الثورة.. والثورة.. وعن القرية الآن.
هذا الرجـل الذي يملأني رغبـة في الحديــث رغم تعبـه من الزمن لا يزال يقف أمامي.. تمدني عيناه ببريق البنت المدللة.. البنت التي يحبها إلى الأبد.. البنت التي يأخذها معه عبر شـوارع المدينة ويعود بها إلى البلدة النائمـة في القيل والقال.. ورغم صمتـها الدائم يدهشك سباتها، كان كل شيء يبعث على التساؤل، لم البلدة دائما في سبات عميق؟
كانت تدهشني المسؤولية في قريتي، ، وتدهشني الثورة في قريتي.. ويدهشني أهلي لصمتهم؟
يمزقني الفضول تمزيقاً موجعاً فيثير الرغبة عندي في أن أصفعهم حد الجنون فقد أنطق في جنوني بالحكمة التي تخرجهم من سباتهـم؟ وأن أغلق كل أبواب القرية بالسلاسل.. وأن أرفع صوتـي في وجههم أين الثورة منكم؟
_ هل الثورة عمارات فاخرة وسيارات مرقمة وأرصدة مفتوحـة على الأرقام وتسارعها والأراضي الشاسعـة وقيمتها و.. و..؟
_ هل الثـورة شهادات كتبت عليها كلمات.. مجاهد.. معطوب حرب التحريـر.. وتعويض بالملايين وتزييف للحقيقة!؟
وخوفاً من الحقيقة وفتح الملفات العقيمة.. أردت أن أصمـت، وكان في صمتي حقيقة أخرى لطالما بحثت عنها.. مخبأة في زنزانة من زنزانات هذا الوطن المغتال!؟
أدخلتني المسؤولية في دوامة من الإحباط والفشل.. وقد عهدت تقلد المناصب من الوجوه نفسها التي سئمت وجودهـا، وأتعبتني انتهازيتـها.. لقد علمتني التجربة ألاَّ أتعاطـف مع أحد منهم لأن القرية كانت تحتاج إلى الكثير وسكانها يحلمون بالكثير ولم أكن قادرة على الإسـاءة لأحد.. فالتكلم في القرية يورثك التهم الكبيرة؟
التكلـم عن خباياهم وإدارتهم اللامسؤولة يكلفك الكثير.. سهل جداً أن تحـاك ضدك الإشاعة وتروجها الألسن وصعب جداً أن تسكتها؟!
أعــز ما تملك المـرأة هو شرفها.. والشـرف في القريـة لا يعرف التنازل.. فكانت الخطوات محسوبة ليس خوفاً بل لأن قطيعا من الغنم يؤدي الواجب؟
قطيع من الغنم يدخلك السجن ويلبسك التهمة.. قطيع من الغنم يفتح الأفواه وقد يسكتها إلى الأبد.. أصبح لقطيـع الغنم ألف حسـاب، لأنه التجارة الوحيـدة في التعامل وقضاء المصلحة؟
وكي لا يحسب لقطيع الغنم ألف حساب.. وجِد ميتاً في ليلة باردة.. دخل الملثمون وقتلوه.. كان القتل مباحاً وكانت أصابع الاتهام دائما تعرف أين تتجه دون أن تترك لك فرصة السؤال والاستفسار؟!
وكانت حقيقة أخرى تقول:
- بدل أن يختطف الرجال ويصبحوا في عداد المفقودين إلى الأبـد.. يكون التخويف والترهيب والترويع فيـم يسترزقون؟
وأخرى تقول:
- اتهم الذئب بأكل يوسف، وأصبحت التهمة تطارده وهو برئ من دمه؟
هكـذا هي دائما الحقائق في وطني، مازالت قوائم المفقودين طويلة ومازال البحث عنهم قائما؟
ومازال الذئب متهما بدم يوسف! وقد دفع الثمـن، كما دفع يوسف ضريبة جماله وحب يعقوب له!! داخـل هذه المسؤوليـة تكتشف لك الفراغات والقرارات الهزيلة والوعـود الكاذبة، وبأقنعة مختلفة ألبست القرية الجبن والجهل والضياع... وظل وجه القرية هو.. هو.. لم يتغير، حتى مسؤولوها لم يتغيروا.. وقد يجـيء حين من الدهر يلقي الحـوت ما في جوفه.. والحقيقة الأخرى التي مــازالت تقول:
- من يقتل من؟
هذه الحقيقـة التي تركت الأقلام تكتـب.. تبحث عن نفسها في الحقيقة.. أصبحت الساحة تعج بالأسماء وحبلى بالفوضى والمرحلة كفيلة بأن تعلى أصواتا وتلمَّع أخرى من الداخل أو من الخارج..!! وتخرس أصواتـا إلى الأبد.. وتعز من تشاء وتذل من تشاء؟
أقلام كتبت عن الوطن وآلامه.. كتبت في السياسة والجيش وعن الجيش.. الجيش الذي لم يسلم من الاتهام ولم يكن الراهن يبعد الشك وكل الاحتمالات تزيـد من السيئ إلى الأسوأ، خرج الكل عن صمته.. الضد كان دائماً هو السيد.. والسؤال كان يطرح نفسه ألف مرة وبإلحـاح.. من يقتل من؟ كنا نبحث عن الحقيقـة في أنفسنا ولكن..؟
لدرجة أنني وبسخرية متعمدة زاوجت بين الفكرتين قائلة: - من يكتب لمن؟!
لم يستطع أحد أن يسكت لغة الرصاص أو يوقف نزيف الدم، الاعتقالات طالت القريب والبعيد، انتعشت ممارسة القتل والقتل المضاد وسقوط الضحايا يوميا، أما قائمة المفقودين فكانت تطول وتطول.. كان الحوار عنيفاً لدرجة أنه اغتصب مني كل شيء حتى الحقيقة التي طالما كنت أبحث عنها.. اغتصب الروح والأماني وأضحى التنازل من المفارقات العجيبة، وأصبح عشق رائحة الدم يبزغ مع كل يوم جديد.. نحن من صنع طغاتنا بالتصفيق لهم، فدفعناهم إلى الرضا عن أنفسهم، وإلى مزيد من الطغيان!
نحن من خلقنـا وابتكرنا وزرعنا في هذا السيد نوعـا من الغرور بالهتافات والتهليل.. فاستمر في طغيانه؟!
كان الجـرح مفتوحـاً على كل الأعمار وما بقـى من الجسد أشباه امرأة.. تحرقها الفجيعة أو حلم طفل بعودة أبيه وأصبح من السهل أن تكون مجنوناً وتؤخذ الحكمة منك في بلد الجنون! وكما يقال:
- عاقل معي خير من مجنون ضدي؟
فقد يكون في الجنون حماقـة أكبر من الفكـرة.!

-7-

أطفـأت"هند" التلفاز وفتحت النافذة من جديـد.. وفي الغرفة الضيقة نفسها أطلقت زفرة عميقة في الفضاء، وجابت بنظرها المكان القريب من العمارة الشاحبة تحدق في الباعة وفي المـارة وهم يتزاحمون ويلهثون في سبـاق مع الزمن فتتعالى الأصوات مزمجرة أحيانا ويعم هدوء نسـبي إلا من صوت أطفال في الساحة يلعبون لعبة الغميضة أحيانا أخرى... كانوا يلعبـون لعبة الغميضة ويتمرغون على بقايا حشيش يميل إلى الصفرة.. يغنون لغة الأطفال.. لم يحفظوا الأناشيد من الكتـب أو في المدارس.. تعبت الوصايـة من تلقينهم الأناشيد المسطرة؟
كانوا يضربون بها عرض الحائط لأنها وببساطة جوفاء.. ميتة.. يغيب فيها الإحساس لكونهم لم يعيشوها بأحلام الطفولة وآلام الطفولة.. كانوا يرددون مثنى وثلاث و.. و...
((شرطي المرور.. المرور أعطني صفارتي.. صفارتي.. خذي.. خذي..)) وهم يشكلون حلقة ويهتفون بصوت واحد..
وعلقت قائلة:
- ما أصعب العيش تحت القبعة التي تسرق منك الحلم؟!
تدخل خديجة الحلقة وتقول:
((سلسلتي.. سلسلتي سقطت لي في الواد اللي يجبدها نعطيلوا حاجة..)) * ثم تجلس.
ترفع الأيادي إلى السماء وفي حلقة دائرية تدور حول خديجة وتردد خائفة وبصوت مسموع:
((كان علي بابا رئيس العصابة يضرب بالسكين ما هو حسين.. السبت.. الأحد.. الاثنين.. الثلاثاء.. الأربعاء.. الخميس.. الجمعة.. كان علي بابا رئيس العصابة..))*
وتعاد الكرة مع كل واحد وواحدة.. ويكون رئيس العصابة يقطع الرؤوس بالسكين..
لقد كان قول الأطفال ووعيهم بما يجري في الوطـــن أكبر من تلك الصور، ومن الحقيقة نفسها؟
كنت في حالة ترقب واندهاش وتحليل فقد كانت حقيقة الجرح الغائر أصعب من تضميده.. لقد كبر الأطفال ولم يعودوا يؤمنون بما نكتب لهم.. كانوا يبحثون عن فكر غير فكرنا.. لقد عبروا عن يومياتهم المغتالة وأحلامهم المصادرة دون استئذان منا، لقد أصبحوا سجناء الدم في فضاء أخضر؟!
أيعقل أن يؤلف الأطفال أغانيهم؟*
أن يمزجوها بيومياتهم وأحلامهم المغتالة!! هم بذلك يعلنون تمردهم عنا، لأننا لم نحقق لهم الأمان ولم نفرض لهم الحماية.
الحماية التي أصبحت تقتصر على الأوامر والنواهـي وتلك التعليمات البيداغوجية التي لم تعد من أولوياتهـم في ظل غياب الجو العاطفي الذي يشعرهم بالثقة والفرح.. ومن ثمـة أرادوا توصيـل فكرتهم ومشاعرهـم بإعادة الاعتبـار لهم بهذا التمرد أو بهذه التلقائية في التعبير عن رغباتهم ومكبوتاتهـم.
ولم نكن بحاجة إلى تنشيط مخيلتهم فلقد كانت الأحداث المروعة كافيـة لإثارة الانتباه وقابلة للصيـاغة في صور متسلسلـة لا تبرح مخيلتهم، لإعادتها ببطء إذا ما رغبوا في ذلك أو إذا اشتد تأزم الوضع.
كل هـذه المعاناة تـدل على قدرة هؤلاء الأطفال على الربط بين القول والتعبير عنه والواقع الذي تحول في ذهنهم إلى صورة قاتمة أضحى فيها الحلم صعب المنال واضطرابـا يوميا يخفي وراءه عجـزا على التكيف الاجتماعي وبذلك يرفضون الانصياع لقانون الكبار*!
فجأة شدت انتباهي جموع تركض في اتجاهات مختلفة وأخرى جاثمة كـأن الأمر يستدعي الحـذر أو الخــوف من شيء ما... وأنا على هذا الحال مشدوهة البال إذا بنبرة صوت حزين قرب العمارة المجاورة تجتاح مسمعي.. أنين طفلة تـردد...
((بَاطَـة فوق أُبَاطَة يساوي شيكولاطة.. بوحشيشة مات خلاَّ أربـع بنات وحـدة عورة، وحدة تْلَقَـطْ في الزَعْرُورَة، أوحدة تقول بابا مات ما خلانيش وين أنبات)) .
انتفض جسدي كطير مذبوح.. ارتعش لأنين الطفلة.. كان لهذا الأنين أن يحمِّلني خطايا الليل والنهار ويعاقبني بدموع لم أستطع أن أمسكها.. وأسرعت الخطى.. أنزل الدرج في حالة من الهستيرية والحزن.. اتجهت نحوها..
_ ما اسمك يا صغيرتي؟
أحلام..
_ أين تسكنين؟
لا أعرف!
_ولما جئت إلى هذا المكان الموحش؟
- أبحث عن أمي وإخوتي.. هنا ذبحوا.. هنا!!
وأنت أيها الصغير ماذا تفعل هنا؟
أنتظر أبي.. أخذه رجال الدرك في سيارتهم وبقيت أنا هنا أنتظره وأبكي.. لقد تأخر كثيراً...
كان المكان عبـارة عن بقايا أبنية وركام من المنازل المحروقة وأرض ملطخـة بدماء قانية.. أخذت الفتاة الصغيرة معي، وحاولـت تهدئة الصغير هيثم بالبحث عن أحد من أولئك الذين يعرفهم في الشارع.. تركته عند أحد الباعة يعرف عائلته فقام بمرافقته إلى منزل والده.
كانت أغنيتها التي تمزقني ترددها كل مساء.. تجلس قرب النافذة المطلة على البحر وتبدأ في أنينها وتبكي.. تبكي.. وسكاكين اللحظة تشّرحني في اليوم ألف مرة..
في ليلـة ما تركتها تبكـي.. تبكي.. حتى نامـت على دمعاتها فلقد أتعبتني "أحلام" بوجعها وقد يكـون في بكائها المتواصل راحة هي تبحث عنها، كما أبحث أنـا عـن الحقيقة في بكائهـا؟



ـ 8-

في الفتـرة ذاتها كان التطرق إلى النظام من القضايا الكبرى التي نبتعد عنها.. ويبدو أن السلطة كانت نموذجاً إشكالياً في فهم ذلـك الانفصام الذي يبتعد عـن العقلانيـة في العيش!!
ونرفض أن نحيا فيه،، وكسر الجليد بـات من المستحيلات..
كانت صناديق الخوف تلبسنا أقنعة الازدواجية والعيش داخل دهاليز الرياء والسمسرة والنفـاق.. كانت المعلومــات عن النظام مقتضبة والمواقف هشة والشجاعة جبنا... فتشربنا الوطنية حد النخاع، لكنها اغتيلـت في نفوسنا يوم مات الرئيس.. مات الرئيس.. وأذكر أنني عرفت حب الأرض والوطن من الرئيس..
كانت فاتحة عهد جديد كشفت الأوراق السرية وبعثت الوجوه من جديد و خرجـت تعلن واقعاً جديداً غيَّـر المفاهيم وأزاح الستار عن تلك السراديب المغلقة...
ربما لم نكن من نفس الفصيلة، ولكن كنا دائما نحاول تكسير الجليد وشاء القدر أن يلعـب بالعقول والأرواح والوطـن على كف عفريت؟!
مات الرئيس.. مات بومدين.. كان يجيد صنع القرار.. سياسي محنك.. وأب وقور بهيبته.. كان في شخصـه روح الشعب.. فمات الرئيـس.. وماتت معه الوطنية والوطن؟!
هكذا ودون مقدمة حقيقية رفع الستار عن المسرحية وأسدل بعدما أحرق ودمر وشرَّد ويتَّم.. ومع كل هذه الآلام كان عزائـي تلك الرسائل التي أخبئها بداخلـي خوفاً من تطور المسرحية فيرفع الستار من جديد ويغتالني وتحرق الرسائـل.. إذ كان يستحيل أن أجمع أو أفرق بين حب رجل وحب الوطن!!
خيل لي أنني نائمة في قصر موصدة نوافذه بإحكام.. كانت الدهاليز مظلمة.. تملأ أنفي روائح الدم المنبعثة منها، كنت أحاول أن أخرج من هذه الممرات الضيقة التي كانت أقرب إلى بعضها البعض.. حاولت الاقتراب أكثر.. فتحت النافذة الأولى وضع عليها رقم 7 على ما أذكر...
كانت نوافذ الفكرة تفتح كل مرة على باب جديد يحمل رقماً أحاول تذكره فيضيـع هو الآخر من هول الصدمة.. كانت الوجوه مكفهرة.. مسودة.. رائحة الرطوبة النتنة تخنقني.. تصفعني برودة القطب المتجمد.. أغمض عيني وأفتحهما عندما تصفعني تلك الوجوه التي كنت أعرفها.
هذه الزنزانة بها وجوه كثيرة.. و... لم أتوقع أبداً أن أجد صورة رياض بينهم، ولم أبذل جهداً في الاستفسار عن وجودهم فقد كانت التفاصيل حريصة أن تظهر على محياهم.
وبخشونة قلت:
- من أنتم؟
تردد الحيطان صوتي حتى أربكني، لم أجد جوابا منهم.. حاولت أن أجمع شتاتي وخوفي وأصلب طولي قائلة:
- أنا أعرفكم جيداً.. أعرفكم؟
أنت كنت ترفع كتاب الله ونحن وراءك نردد:
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر..
قد يكون حباً وقد يكون خوفاً لست أدري؟
وإذا بصوت مبحوح انبعث من تلك الوجوه الشاحبة قائلاً:
- الحمد لله.. أنتِ من جيل يذكرنا.
قلت:
- جيل غرر به؟
ويحاول الآخر الارتكاز على قدميه ولكن خانته قواه من شدة المرض فسقط على صاحبه قائلاً:
نحن سجناء الرأي؟!
.. سجنـاء الرأي، ولكن ماذا جرى وقتها.. وقبل أن أسمع جوابا لما جرى حينها إذا بغمامة سوداء تحجبني عنهم وبطيف رياض يقول:
- اسأليهم ما صنعوا بنا في غياهب الصحراء؟
صحراء قاحلة.. لا طيور ولا أعشاب ولا حشرات..... لقد كنا كالأحياء الأموات في غياهب الصحراء؟
ونطق آخر:
_ لم يكن لدينا الحق في الدفاع عن أنفسنـا ودون أن نمــر إلى المحاكمة.. ناهيك عن التعذيب؟
عودي إلى التاريخ.. وارحلي من هنا..
اضطررت للخروج ولم أعلم من الحقيقة شيئا فكان موعدي مع التاريخ ضيقا؟
وجدت نفسي أقف هذه المرة وسط ساحة النوافذ، وكلما أمد يدي وأفتـح الباب تشـدني قـوة مغناطيسيـة إلى الوراء للرجوع.. لم أنسحب واندفعت بقوة أفتح الباب على مصراعيه.. أفتـش عن الحقيقة وراء هذه الأبواب الموصـدة.
كان الرقم هذه المرة على ما أذكر 1.. غمرني إحساس بالرعشة والوقار وغلبتني الفكرة القائلـة:
_ التاريخ حقيقة الشعوب.
فكان الحواس وبن مهيدي وعميروش... في ألبسة خضراء.. الحجرة تفوح منها رائحة المسك والبخور...
ابتسمـت الوجوه عنـدما رأتني وعمت أساريـري الطمأنينة، وتكدر حالي لوجودهم داخل هذه الزنزانـة قائلـة:
- أنا أعرفكم.. أ عرفكم.. أعرفكم جيداً.. ولكن لم أنتم في هذه الزنزانة؟!
نهض بن مهيدي مبتسماً.. تذكرت الابتسامة المرسومة على شفتيه وقول بيجار:
_ لو عندي ثلة من أمثال بن مهيدي لفتحت العالم!!

قال:
- نحن سجناء الثورة؟
قلت:
- الثورة.. وهل سجنتكم الثورة؟!
قال:
- نحن سجناء الثورة فقط.. التاريخ كتـب بدمائنا ودفن معنا.. نحن تركنا لكم الثورة والوطن أمانة لكن...؟
وقبل أن أتفوه بكلمة كان طيف رياض يلاحقني.. فإذا بي أجد نفسي مرة أخرى في ساحة النوافذ.. أبحث فيها عن تلك الرائحة الزكية.. أبحث عن ابتسامة بن مهيدي عن نظرات الحواس و.. و... لم أجد تلك الوجوه النيرة.. اختفت بوجود رياض الذي كان يلاحقني من زنزانة إلى أخرى.
كنت أود أن أسأله عن سلطة التاريخ وعن زيف التاريخ اليوم، عن زيف الرجال واغتيالات الثورة عن وعن...
خفق قلبي هذه المرة بقوة وأردت أن أفتح كل النوافذ وأكسر كل القيود لأعرف ما بداخل تلك الزنزانات... غلبني البكاء حد الموت مرتين لأستفيق على حقيقتنا المرة والإدانـة الأبدية في محاولة تصحيح أخطائنا!!
ولمَّا فتحت الأبواب الأخرى كانت الأقلام والأوراق مبعثـرة.. تخط على الورق أشعارا للوطن والحب.. للحداثة التي أذنت بنهاية الفرد، أو كما قال "فوكو" بنهاية الإنسان !! مجتمع أحادي البعــد.. مفرغ من الخيارات الاجتماعيـة ومن الاختيار الفكري والسلوكي!!
قلت:
- أنا أعرفكم.. أنتم أنا.. أنتم مثقفو هذا الوطن؟
قولي:
- المثقفون المغتالون!
وفي التفاتـة مني إلى الزنزانة المجاورة أغمضت عيـني من هول ما رأيت:
كانت مضرجة بالدماء.. دماء أطفال ونساء وشيـوخ و.. و.. نساء مغتصبات.. فتيات في ربيع العمر اغتصبن ونكِّل بأجسادهن الضعيفة.. لم أتكلم ولم أسأل.. لأنني كنت عاجـزة عن السؤال.. المنظر أكبر من السؤال.. من الصدمة نفسها ومن الحقيقة التي خذلتني.
ذهلت.. فانتشلني صوت منهن ومن غيبوبة كادت تفقدني توازني ووعي.. أنا وهيبة.. نادية.. خديجة اغتصـبن من رجال بل وحوش بشرية تأكل اللحم نيئا، وأيدي ملطخة بالدماء تأكل الفواكه الطازجة.. وفـوق كل ذلك أعضـاء من جسدك تقطع أمام عينيك وأنت تصرخـين ألما.. لم يكن الاغتصاب والحمل وحدهما كافيين.. أنا أقـول لك الحقيقة التي تبحثين عنهـا.
تنطق واحدة منهن تسألـني:
- ما شعورك بأن جسدك هذا لم يعد جسدك.. لم يعد ملكا لك.. كنت جسدا لهذا.. وذاك.. وذاك.. للآخر الذي امتهن كرامتك.. ليالي وشهورا وأنت هيكل بلا روح؟
ومازلت تسألين وتبحثين عن الحقيقة.. صفعني قولها، ومن شدة الصدمة أغمي عليَّ؟!
غابت كل الزنزانات والوجـوه عن وعي وأحسست بغربة أفزعتني من جسدي الذي لم يعد هو نفسه جسدي...!
آه.. ما أشد الغربة عن وطن ترفضه بداخلك لمجرد أنك تريد العيش فيه، ويرفضك الآخر لأنك تريد الارتماء فيه.. فعليك أن تختار بين الانسلاخ أو العودة وبين الخيارين روح تتكئ على المغامرة مرة هنا ومرة هناك؟!
كنت أستوعب كل شيء عدا أن أبقى غريبة أجوب تلك الزنزانات وأفتح النوافذ المغلقة ويكبر الحلم مرات ومرات.. كان العشق والحنين إلى الوطن أكبر من ذاتي فهزمني.
مـا أعظم أن يكـون لك تاريخ تقف عنده ويذكـرك في كل خطواتك لكي لا تنسى؟!
تحسسـت المكان بجانبي وأنا أسبح في بركة من العرق والسخونة أبحث عن الوجوه التي رأيت والزنزانات التي فتحت فكانت مجرد حلم عشته.. ما نمت إلا ساعات قليلة وكانت ساعات الحلم الذي انتابني أطول من عمري الذي خشيت عليه في لحظة راودني فيها الحلم، وتمنيت أن أستفيق وأنا أصارع بين لحظة الشعـور واللاشعور.. بين الإدراك واللاإدراك.. ولكن لا شيء أمام سيطرة الحلم، وكانت أشياؤه كثيرة.. مؤلمة ومفرحة.. كان صوتـي يتلاشى في حلقي ويغيب عبر الممرات المهجـورة والزنزانـات الموصدة.. فيعيـده لي السكـون وما كنت أسمع إلا صوتي يرد على صوتي!!
_ أيمكن أن أكون قد جننت، أو قاربت ولما!!
كانت عنـدي رغبة في البقاء.. كنت أكـره الحياة، ولكـن في الحلم كان تمسكي بها استحالة مميتـة.
جمعت بعضاً من نفسي فالبعض الآخر كان مشلولا.. الدم تجمد في الأوصال، ، وتذكرت المشهد من جديد بل مشاهد كل الزنزانات والنوافذ التي أجهدت نفسي في فتحها ومحاولة الهروب من رياض الذي كان يلاحقني.. لأول مرة خشيت منه في الحلم!!
إنما الذي لا أنكره هو تلك العلاقة التي كانت تخفي حنين الإحباط وبهالة من القداسة أساءت لي الكثـير.. لم تمنحني إلاَّ التشكيك ومرارة الهزيمة في الحقيقة التي ابتلعتها على مضض.
تماسكت وعدت إلى أوراقي ورسائلي المخبأة بين طيات الفراش.. أتصفحها وأعيد قراءتها من جديد وكأني لأول مـرة أراها.. لقد تقلص الزمن وصرت عاجـزة عن فهم الحقائق والتفاصيل التي تركت فراغات في الذاكرة وفهم قيمة هذا الخراب الذي تبعثر بداخلي.. كنت متعبة وأنا أمشي.. تذكرت لحظتها فكرة "فوكو" فكانت المواقـف أقوى مني ومن حيرتي التي تركتني أجهش بالبكاء.. لأنني كنت أرفض الموت بهذه الطريقة، ولم أنس ما قاله لي الشهداء في الزنزانة.. الثورة والوطن أمانة.. فكان يبكيني "قسماً" وتخنقني العبرات عندما أعلن الرئيس تأميم المحروقات.. ويصرخ الشعب بالهتافات.. تحيا الجزائر.. تحيا الجزائر..
أدركت أن قيام أي دولة يحتاج فقط إلى الرجال.. وأصبحنا نبحث عن الرمز الذي يعيد إلينا الوطن المفقود؟
فجأة تذكرت رياض وتذكرت حياتي معه ورحـت أعاتبـه في شكل آخر قائلـة:
كل شـيء كان معك عبث.. الكلمات وضرب الودع.. عبث.. البخور الذي أعبق به الغرفة الضيقـة عبث!
التيه الذي وزَّعني على وسائد الأحلام عبث.. الفساتين الملونة التي اخترتها حباً فيك.. عبث.. عبث.. ما أصعب الحب معك.. سأظل أكتب إلى أن أصل إلى حقيقة الأشياء، مستسلمة للقطيعة التي كبلتني.. والحياة أتفه عندما تعطينا رجلا مبتور الرجولـة.. يشرف على قتل نفسه بدون سلاح ويبقى فريسة أفكاره المميتة؟
أكثر من هذا أنت لا شيء.. حطام النهاية.. تمتطي صهوة جواد هزيل، فلقد قلت لك ألف مرة الوطن أكبر منـا.. أكبر من حساباتنـا الضيقة ووطنيتك ووطنيتهـم المدسوسة؟!
يضيق صدري ويصغر جسدي عندما كانت الصحف حبلى بالفواجع.. لم تكن تحتاج إلى البحث عن الأخبار أو توزيع المراسلين.. كانت وطاويط الليل وحدها تكتب بالأحمر الفاقع على صفحاتها الأولى.. تسجل في ركض متواصـل غلطة التصادم،، وكنت أنت دائما تصغـر وتصغر وأنا أرتعش من الخوف لأنني اكتشفت حقيقتك وحقيقة الدماء مؤخـراً.
_ أيعقل أن يدغدغ الحب قلبك ويقتل.. يا للخيبة؟
_ ما الذي حدث طول السنوات الماضية؟
_ ما الذي غيَّرك ودفع بك إلى التنازل عني..
_ هل يمكن للسياسة وكلام الحزب أن يتركك تدير وجهك عني!
ربما أشعر أنك على حق، ولكن كيف يكون عمري بعدك.. على رصيف عمر من الانتظار تتركني وتنسحب..
كنت أرتعش من هذا الانهزام الذي سكنني.. من فكرة سيطرت على عقلك وركضت وراءها من أجل الحلم والوطن الموعود..
كشفـت سلطة العشـق لدي أنـك تدعي الحكاية وأنـني لا أجيد حبـك الأدوار أمام تهمة خيانة الوطـن والأرواح، فأنا ضعيفة حد البكاء أمام كبرياء الوطـن؟
كنت أعيش قصة حبي بكل الأشكال.. آه ماذا أفعل بك الآن وقد أصبحت كل الحقيقة التي كنت أبحث عنها في الحقائق الأخرى!
لا أتذكـر من دهشـتي غير أنـك كنت أستـاذي في العشق.. درَّستني حروف الحب بإتقان وكنت التلميذة في كبريائي.. إنني أشعر بمسؤوليتي في أفكـارك المتطـرفة الآن وفي خطاباتهم الرنانة التي صدقتها يوما ما، وكـل الطعنات التي غرزتها في أجسـاد بريئـة تركتني اليوم أعيـد النظـر في حسابـاتي.. وأعترف بمسؤوليـاتي!

ـ9ـ

تركـت الرسائل والأوراق مبعثرة ورحت إليه في نفس الغرفة الضيقة.. دفعت الباب بقوة لعلني أجد من كنت أبحث عنه دوماً في أفكـاري.
وجـدت شبحـا يحدق بإحبـاط إلى النافــذة المطلـة على الشارع الكبير،، وأنا التي صدقت نفسي يوماً أنه ملك لي، فما وجدت إلا أشباه رجل محطم.
كنت أرفض هذا الرجل الذي بداخله، أو يدعي أنه رجل؟
كنت أسأله بأعظم صفـات الله أن يجعل راحة بالـي في قوله عن كل جرم كتمته وكل سيئة لم يأمر بإحباطها..
كنت أحاول أن أكتشف كذبه ويبدو أن الوسيلة لذلك هي مصل الحقيقة ، مخدر ألغي به شعوره وانتزع الحقيقة منه فيقوم بإحباط عمل بعض مهام العقل البشري فتجعله إنسانا ثـرثارا لا يتملكه الخوف ويبوح بكل شيء.
صعـب أن أنـزع الاعتراف منه بسهولة وكم كنـت أود أن أختصر الأسئلة التي لا أرغب في سماعها..
فالاختصار يجعلك ترفض التورط في الاستمرار.. يزيح عنك الغبن من أنك تود التجرد من الوعود التي تبقيك دائما محل الآمـر؟
لأن إجاباتنا هي التي تورطنا وتفضحنا أحيانا كثيرة.. إجاباتنا هي التي تضعنا في مستطيلات تطول وتطـول أو مربعات تضيق وتضيق وشتان بين الطول والعرض حينما تدرك أنك يوما كنت تشبه المستطيل في طوله.. تصول وتجول فيـه كما تشاء إلى أن يورطك اختصار الطول في مربع يضيق بك حتى يكاد يقبض على أنفاسـك وتبقى رهينـة أضلاعه الأربعة التي تورطت في صنعها بنفسك.. فيشتد حبل الألم وتلفه حول رقبتك بإدانـة لا يمكن غفرانهـا؟
كل أحلامي انكسرت وبقي الحلم يقتلني وبقي هو مقبرة كل خطواتي!
يراودني الضعـف حينا والكبرياء في انتزاع صهـوة الانتظار وأشياء أخرى تصعب فيها المقاومة.. فأفتش عبر السنين عن تضاريس وجهه وكيف جعلت أخاديد الزمن منها مسرحاً للحزن والألم والتعاسة.
أرفضه لأنني كنت بحاجة قوية إلى من يحتويني أنا.. كلي دون تذمر من أفكاري.. من منطقي الذي يورطني أحياناً كثيرة ويجلب لي الخصام المتتالي مع نفسي ويحبني لذاتي ولكبريائي الطفولي في كبرياء الوطن الذي مازال يسكنني..؟!
وأرفضهم لأنهم صادروا أحلامي وسرقوا حياتي بكذبة جميلة... ومارسوا علينا التضليل باسـم الشرعية والتاريخ والرجال و.. و.. وبقينا رهينة الماضي والحاضر والمستقبل المجهول؟
أرفضهم.. لأنهم وببسـاطة زيفوا الحقيقة واغتالوا فينـا الوطن الأم؟
وعـدت أدراجي من حيث أتيت باغتيال الحقيقة قبل ولادتها. فكانت هي السـوط والصـدى..!