(3) بنية الحداثة
فى قصص مجدى جعفر القصيرة

بقلم / صادق ابراهيم صادق

تمثل بنية الحداثة فى أعمال الأديب مجدى جعفر من خلال قصصه القصيرة نمطاً يوشك أن يصبح متفرداً فى مكوناته مثيراً لدهشة القارئ والناقد معاً فعلى الرغم من أن كثيراً من كتاب القصة القصيرة قد خطوا بالشكل الفنى ومضمون القصة القصيرة فى مصر خطوات واسعة نحو الحداثة والتجديد فإن شيئاً ما ظل مميزاً لأسلوب كتابة مجدى جعفر شكلاً ومضموناً ويظل فوق ذلك أن نجح فى الإفلات من براثن الغموض والتيه المتعمد أحياناً من جانب ممن كتبوا القصة أو غيرها من الفنون وأولها الشعر وهو الأمر الذى يبعد هذه الإبداعات فى الغالب على أن تكون طمحا للفهم لدى مساحة واسعة من القراء فتستدعى لكى نفهم أو لكى يبدو الأمر كذلك وقفات خاصة من النقاد وشريحة أشد خصوصية من القراء (1)
فعلى صعيد الشكل الفنى لقصص مجدى جعفر القصيرة تمارس الحداثة سلطات واسعة فى عالمه الفنى خلافاً لما تعارفنا عليه من وجود شكل مألوف لبنية القصة القصيرة مهما أدخل على هذا الشكل من تطويرات جوهرية على أيدى معظم كتاب الستينات والأجيال اللاحقة لهم سواء من ناحية الشخوص أو السرد وما يتضمنه هذا السرد من تشابكات وانفراجات تخضع جميعاً أو لا تخضع لحيز من الزمان والمكان على نحو يحمل إلينا معنى أو مغزى فى النهاية وسواء أكان هذا المعنى قرب المأخذ أم غيبة الكاتب فى تلا فيف الرمز والإيحاء فإن كل هذا قد يفقد سياقه الارتباطى وقد يختزل وقد أخذ شكلاً محوراً إلى عالم الفن التشكيلى والسينمائى بدوائره وموازاته وبقعه اللونية الشاحبة أو المبهرة – كل هذا يجسد عالم مجدى جعفر القصصى فى صيغة جديدة تجاوز على كل المستويات البنائية وخصوصاً "الزيارة"
ففى مثل هذا النص القصصى تذوب الحدود بين الأجناس الأدبية أو تداخل فى النسيج القصصى الخبر – الحكاية – الخرافة – القصة – الحكمة – السيرة – المقال – الحوار المسرحى – الشعر حيث توجد بها مصطلحات جديدة ومفاهيم عملية تضبط مسارها نتيجة تداخل الخطابات الذى يتولد عنه بنايات تعبيرية تخرق العادى وتنصرف عن المألوف فتكثر الصور والمتناقضات الظاهرة وتكسر العبارات الجاهزة (2) إنها باختصار كما عبر عنها النقاد بنية جنونية جديدة واللافت فى هذه النصوص القصصية كما كتبها على الغلاف أنها من الناحية البنيوية تستعصي مع سبق الإصرار على الاندراج تحت أى شكل مألوف من أشكال التصنيف المدرسى المعروف ولقد كان هذا التمرد على الأشكال المألوفة بمثابة المغامرة التى راحت جاهدة تحاول البحث عن شكل خاص لها ولغة متفردة تصب فيها نفسها وهى ظاهرة ليست خاصة بمجدى جعفر وحده ولكنها مع ذلك تصبح شيئاً ذا مذاق خاص لهذه النصوص القصصية حيث استطاع أن يستبدل مواصفات القص التقليدية المستعارة من واقع آخر مغاير . مواصفات أخرى نابعة من ثقافة العالم الواقعى الذى تصوغه وتعبر عن رؤاه بمعنى تحويل أشكال التعبير اللصيقة بالواقع الاجتماعي والنابعة منه إلى أشكال وتقنيات جديدة يمكنها احتواء واقع جديد مغاير وجاءت بعض النصوص القصصية بولع تجريبى وسعى دائب من المبدع لا ينئ إلى ابتكار تقنياته الخاصة وهى سعى تبدى فى عراكه مع لغته وخصوصاً نصوص "انكسارات الرؤى" ومحاولته خلق تقاليد قصصية جديدة عبر لغة خاصة تمتاز بتكثيف الدال من خلال لجوئها إلى التكرار والتقديم والتأخير والاتكاء على معجم حسى طامح إلى احتواء غليان الداخل وتأججه من ثم استطاع مجدى جعفر تضفير لغة خاصة به من بلاغة العرب التقليدية مع لغة الحكاية الشعبية وخصوصاً "تحولات الرؤى" كما أنه يعبر عن أيدولوجية خاصة فى أكثر من نص من خلال مشاكل الشاب وخصوصاً أيام حرب العراق وغزو الكويت "ليلة كان الغدر" – "مصرى 1" – "مصرى 2" .
وتستهوى القاص مجدى جعفر فكرة التجريب والخوض فى ميادين العبثية بحيث يتماهى الزمان فى المكان وتتداخل الشخوص وتتقاطع وتنكسر كل القواعد المنطقة ولكن الذى لابد من الإشارة إليه أن القاص لا يتعامل مع التجريب من منظور التهويم والتضليل ولا من باب تعاطى التقليد المجانى للحداثيين ولكنه يسعى جاداً لتوظف كل أشكال (الفانتازيا) والتجريب لخدمة الفكرة التى يرد القاص أن يسلط الضوء عليها من كل الاتجاهات محاولاً الوصول إلى المتلقى عبر كل السبل المتاحة(3)

ملامح السرد
منذ قراءة النصوص القصصية للقاص مجدى جعفر يظهر قدرة على امتطاء أمواج السرد فحصن نفسه من الشرود والزوغان وضمن عدم الوقوع فى مطبات سردية تشرخ نصوصه وتخلخل وحدة بنائها ساعده على ذلك التعبير وحيويته وعفوية الحوار وانسيابيته وقد تمكن أن يردف ذلك بقاموس منتقى من المفردات حيث جاءت محملة بقدرة كبيرة على نصح دواخل اللحظة المعبرة عنها بكل هالاتها الإيحائية الصامتة والمعلنة دون أن نساق لإغراءات الاسترسال الإستثنائى التزينى الأكثر من ذلك أنه اعتمد لغة درامية حيوية من خلال تركيزه على تراكيب قصيرة رشيقة الخطى .
من بداية .. نلاحظ عنوان ذلك الكتاب : الزيارة .. وتحولات الرؤى , نصوص قصصية .لقد تعمد القاص أن يذكر نصوص قصصية وليست مجموعة قصص قصيرة حيث العنوان .هما قصة بعنوان "الزيارة" وهى قصة طويلة تبدأ من صـ7 إلى صـ30 تخللها كثيراً من الرؤية والمتن والسرد والرجوع إلى المتن ولنا معها وقفة أما تحولات الرؤى فهى أيضاً قصة طويلة تبدأ من صـ31 إلى صـ54 حيث الزيارة كتبت 2004 ثم تحولات الرؤى 2002
أما المجموعة الثالثة فهى انكسارات الرؤى حيث كتب ( كتبت هذه القصص من الفترة من 1983 – 1991 ونشرت بالصحف والمجلات المصرية والعربية ( الجمهورية – المساء – الأهرام المسائى – أخبار الأدب – القاهرة - الأنباء الكويتية – القبس الكويتية - الأولى الكويتية صـ65. وهذه المجموعة تعتبر قصص قصيرة جداً من ترنيمة البوح " الطويلة جداً 2005
إلى " امرؤ القيس ـ نزار القباني وبدر بدير وعزت الطيرى ومحمد سليم الدسوقى ورضا عطية واحمد حسن وكل شاعر شهقته امرأة بشراً وزفرته نبياً " ص99 (4)
وسماها ( ترنيمة البوح . حيث بدأ بالتسلسل من 1 : 5 .
أما العنوان فهو عنوان مفهوم يشرح الفكرة دون أن يشى بما ورائها . الزيارة ... وتحولات الرؤى . يبدأ الجملة دون أن ينهيها بما يجعلها جملة مفيدة ويغامر بفضول القارئ دون أن يقدم له الكثير من التنازلات الاغرائية وهذا العنوان به بعضاً من الذكاء وكثيراً من الوعى المقصود وكثيراً من الفن العفوى ولعل فى ذلك سر تميزه حيث أن العنوان ليس عنوان لقصة واحدة وإنما عنوان لقصتين طويلتين بهما دلالات رمزية تتحرش بالمتلقى ولا يكاد المتلقى يعرف معنى هذه العناوين إلا بعد أن يقرأ القصص التى تندرج تحتها أو لنقل : الكامنة ورائها وليس ذلك فى عنوان الكتاب فقط ولكن أيضاً داخله مثل عنوان : إنكسارات الرؤى – ترنيمة البوح .
هامش صغير
"رولان بارت " هو الذى أعلن موت المؤلف وناشىء مفهومات مؤلف و قارئ وبشر بعصر القارئ ولكى يتحقق عصر القارئ الذى بشر به فإنه يفتح لهذا العصر مجال النص بأن يعرض له نوعين من النصوص هى النص الحديث الذى يدعو إليه بارت وهى نص مثل الحضور الأبدى والقارىء أمام هذا النص ليس مستهلكاً وإنما هو منتج له والقراءة فيه هى إعادة كتابة له .
وللمزيد من المعلومات أقرأ : د. عبد الله محمد الخزامى _ الخطيئة والتعكير _ كتاب النادى الأدبى بالسعودية _ العدد 27 عام 1985 _ ص_73 وما بعد.
عودة إلى المتن مرة أخرى صـ 18 .
هذا الهامش الصغير الذى يأتى فى متن القصة يحدث للقارىء دهشة كبيرة وصدمة كالصدمة الدامية فى المسرح أو كما قال فى" المسرح الملحمى " الذى يقول لك أننا نمثل أمامك وليست حقيقة الموجود أمامك ..... أراد مجدى جعفر أن يأخذك إلى عالمه الذاتى ليقول لك أنك تقرأ نص من نصوصى القصصية ويختار من رولان بارت ليأخذك إلى عالمه بأنك أمام نص قرائى ونص كتابى ثم رجع بك مرة أخرى إلى متن القصة .. وهذا نوع من التجريب فى كتابة القصة .
تقانات النص
حيث طور مجدى جعفر فى قصة " الزيارة " فى تقنية القص واعتمد على العلاقات بين الفنون ولا سيما . السينما والمسرح واللوحة ولعلنا نمعن النظر فى قصة الزيارة . فاحتضن المبدع المبنى الدلالى للسرد إذ يتعاضد الوصف الخارجى مع مكونات الداخل حيث يعيد تقانات الفنون الأخرى وظيفياً وليس مجرد زينة أو حلة كما هو الحال لدى مهووسى الحداثة وما بعد الحداثة .
لقد عمد القاص إلى لغة السينما لغة السرد فى تقطيع المشاهد إلى لقطات وفى توليفها ضمن أنساق السرد بما يخدم دواعى التحضير انبعاثا لحركة الفعل الذى يوجز عرض المشكلة حيث تتألف اللوحة الأولى بزيارة المريض فى حجرته ووصفه للحجرة إلى دخول الممرضة ووصف الممرضة " وتمنيت لحظتها .... لو كان راقداً بالدور العاشر وأصعد السلم خلفه درجة .... درجة .... لأمتع ناظرى باهتزازات ردفيها واستواء ظهرها " هذه هى الحقيقة . ثم يرجع بك مرة أخرى فى نفس السطر صـ15 حتى لو لوى كاتب أو ناقد سلفى بوزه وأمتشق قلمه وراح يلعن جدودى صـ10 وفى صـ14 فى وسط الصفحة ( قطع المشهد ) _ استدراك . حتى صـ 15
ولا أجد غضاضة أو خرجاً فى أن أقص إليك بواقعة قد يجد المتنطعون من القراء والنقاد على السواء أنه لا ضرورة لها ولا فائدة منها ولا تخدم النص الذى أكتبه ولكن أتسمت :
اللوحة الثانية : عودة إلى المتن يرجع إلى الحكى مرة أخرى ثم يأخذك إلى لوحة رابعة وهو يزور صديقه فى البلد ويقابل زوجته سلوى ومن هذا وذلك يأخذك إلى عالمه : حاشية ثم عودة مرة ثالثة إلى المتن ثم يأخذك بعد ذلك إلى الرؤى الرؤية الأولى ص 25 ثم الرؤية الثانية ثم الرؤية الثالثة وعودة أخيرة إلى المتن كل هذه المداخلات والدلالات الرمزية تجعلك تلهث وراء مايقصده المبدع وما يريد أن ينقله لك وهذا قد أخذنا الى التجريب والتحديث والتطلع الى فضاءات جديدة هذه الفضاءات قد ركز عليها فى قصة الزيارة التى لا أعتبرها إنها قصة قصيرة ولكن أعتبر نص حكائى به كثير من التحديث والتجريب وهى قصة طويلة وهذه القصة تشكل حالة إبداعية متناغمة ومنسجمة تؤكد على خصوصية مبدعها وسعيه المشروع لتكون له بصمته المميزة فى ميدان فن القص .
تحولات الرؤى ..... بين اللغة والأسلوب
أما قصته الأخرى فى نفس الكتاب وهى أيضاً تعتبر قصة طويلة تميزت بالحوار المكثف وتميزت بلغة الكاتب حيث كانت لها أهمية وعناية بالغتين منطلقاً من أن الأدب فن آداته الكلمة ولغة الكاتب بشكل عام سليمة كما أن اللغة عنده تؤدى إلى المهام الدلالية والمعرفية بالإضافة إلى الوظائف الفنية والجمالة وتشكل بمجموعها حالة من حالات الاستفزاز الجميل حيث يعتمد الكاتب على اللعب بالألفاظ والتراكيب فى سعى واضح لكسر حاجز رتابة اللغة بالإضافة إلى التهكم والسخرية التى تعتبر ملمحاً أساسياً فى لغة وأسلوب الكاتب :
" الشمس كرة صغيرة فى الأفق والأستاذ يمد يده :" يهرش ساقه بقوة " تسرى رعده خفيفة فى جسد عبد الله وهو يرى: " القيح والدم الفاسد " ص36 وتعالو ا نقرأ هذا الحوار لنعرف مدى ذكاء المبدع للتعرف على شخصياته ففى ص40
تقبل الله يا أستاذ
احتضن الأستاذ يده وقال
تقبل الله منا ومنك
وملتفتا إليه
= من أنت
- عبد الله النهرى
= من أمك :
عبد الله ضاحكاً
- ولماذا أمى
= ألست بلدياتى
- نعم
= إذن قل لى من أمك .. أقل لك من أنت
عبد الله ضاحكاً
- صدقت يا أستاذ صـ40
ولا ينسى المبدع أن يضع أمام الحوار علامة تدل على المتكلم فعلامة ( - ) كلام عبد الله ، وعلامة ( = ) حوار الأستاذ فيأخذك هذا الحوار من خلال العلامات حوالى ثلاث صفحات متتالية حوار أقرب إلى النص المسرحى ليعطى لك فكرة ودلالة للشخصيتين أبطال القصة الذى تسرع فى قرائتها فتأخذك إلى دلالات معينة ورموز وشخصيات أخرى فى عالم الحكايات الشعبية ونستطيع أن نجزم أيضاً أن هذا الحوار جاء من ضمن الفنية العالية التى يبدعها القاص مع صرامة البناء دون الثرثرة أو الوقوع فى أحبولة الإسهاب فى الحوار وإنما يركز النص – استهدافاً للصرامة على الحوارات الدالة والتى لا تنصاد مع طبيعة نصه وآليات نموه فيحطم ما يسمى : بوهم الحدث المشهدى كما يعبر إيخنباوم(5)
وإذا كان تحطيم الوهم المشهدى عبر تقليص الحوار يقربنا إلى طرائق الفولكلور فى النص مما يدل عليه هذا الحوار وتحطيمه
المرأة الشابة
-- عندنا سمك يستاهل بقك يا أستاذ تمام أنت والأستاذ
= أنا ضعيف قدام السمك .. أما الأستاذ مالوش فى السمك .
- خير ربنا كتير عندنا لحمة وفراخ ورز ومرقة
= خلاص الأستاذ يأكل لحمة وفراخ مع العجل اللى وقع ده وانا أكل معاكم سمك
- - ما خلاص بقى يا أستاذ تمام . الرجل قال لك توبة بعد النوبة
= بالزمة ياله ما هي اللى كانت بتشجعك
هى منسحبة تاركة خلفها ضحكة طويلة ممطوطة مسرسعة صـ46
ونلاحظ أيضًا أن هذا الحوار جاء باللغة العامية الصرفة بعكس الحوار مع الأستاذ تمام وعبد الله حيث كانت الفصحى هى الغالبة وهذا يؤكد ثقافة المبدع فى الحوار بين الشخصيات كما وصفه أرسطو فى كتابه : فن الشعر .
ونجد تقنية فنية أخرى تهيمن على هذا النص وأعنى بها الخطاب النصى أى أن هاجس النص اللائذ بالإبلاغ والثانى للمسرحة وخلق الوهم المشهدى ويعنى أن هذا الخطاب النصي يتمثل فى تخليص المواقف واختزالها إن انتقال الأستاذ تمام مع عبد الله من العزبة إلى المقابر ثم إلى الخوص كلها مواقف دعمت القص والخطاب النصى.
وتقف استفادة النص من طرائق التشكيل الفولكلوري عند تكييفه لصيغة القص الشعبى
: يقف الأستاذ أمام أحد المقابر فى جلال وخشوع .
وقع فى قلب عبد الله وهو يرى القبر ينفتح وفى لحظة زمنية كالومضة يرى القبر كطاقة نور يتسع شيئاً فشيئاً ويصبح باتساع الكرة الأرضية والأستاذ تمام سابحاً فى النور وامرأة حسناء ترتدى حلة خضراء يشع وجهها بالضوء الباهر .. تمسك رأسه بين يديها تهزه يمنة ويسرة وتبتسم وصوت قوى يتردد صداه فى كل مكان صـ50 .
ويبدأ بعد ذلك حوار فلسفى بين عبد الله والأستاذ وفجأة ينتهى الحوار أى الخطاب النصى صـ53 ( يتوقف الأستاذ أمام خص على رأس غيط الذرة ) وندخل إلى منطقة ثالثة فى هذه القصة منطقة قص شعبى عن الثعبان والذئب ويصنع الكاتب الأحداث فى سياق يبرز دلالات جديدة .
- خذنى تابعاً لك يا أستاذ
الأستاذ
= اتبع الله يا ولدى
عبد الله
- رئيس التحرر
الأستاذ
= اتبع الله يا ولدى صـ64
لقد نجح القاص مجدى جعفر فى هذا النص أن يجعل من المعتقدات والممارسات الشعبية والطقوس المحفورة داخل أعمق أعماق النفس البشرية نسيجاً مضمفورا بجدارة من خلال هذا النص غير مقحم أو مفتعل وبحيث تصبح أى محاولة لتعديل ذلك النسيج أو التدخل فيه بالحذف أو الاختصار عاملاً هادماً لأصالة النص بأكمله .
إنكسارات الرؤى ... وملامح القصة القصيرة
ونأتى إلى الجزء الثالث من نصوص .. قصصية ( الزيارة ... وتحولات الرؤى )
وهى إنكسارات الرؤى .. كتبت هذه القصص فى الفترة من 1983 – 1991
صـ95 وتضم سبع قصص قصيرة وهى تنتمى إلى بنية القصة القصيرة وإذا كانت الفكرة فى القصة القصيرة شرطاً أولياً فإن الأسلوب هو الأهم وعليه تتوقف جاذبية النص الإبداعي. قصة كان هذا النص أو قصيدة . وأهمية الأسلوب بالنسبة للقصة – والحديثة منها بخاصة أنه يعمل على الابتعاد بها عن مناخ الحكاية التقليدية الساذجة ويسعى إلى تحويلها من سرد نمطى بارد إلى
عمل فنى ينبض بالحيوية والجمالية المرهفة تلك التى تجذب القارئ وتستحوذ على وجدانه وتجعل من القراءة لحظات فرح وانتشاء واتصال دائم بنماذج من الحياة والناس فى مناخ من الشاعرية والتداعيات والتجارب المعنوية والفنية (6)
ففى هذه القصص القصيرة ترابط بين الشخصيات بعضها وبعض والمحنة التى يتعرضون لها وخصوصاً حرب العراق والكويت حيث ركز عليها القاص من خلال ثلاث حكايات (قصص) مصرى 1 ، مصرى 2 ، ليلة كان القرار . هذه القصص تدور من خلال لغة شعرية فاتنة يلامسها الكاتب والتى تدور موضوعاتها بطريقة غير مباشرة حول محنة الكويت التى قادت فيما بعد إلى محنة الأمة العربية كلها والكاتب لا يرصد المحنة من خلال حكايات مباشرة أو وقائع وأحداث محددة بل من خلال موضوعات إنسانية بسيطة ومؤثرة ربما لم ينتبه إليها أغلب الذين كتبوا أعمالاً أدبية عن تلك المحنة الخانقة وآثارها التى تحقق المزيد من الألام النفسية والجسدية تناولها المبدع مجدى جعفر بأسلوب فنى رائع به كثير من التعبير الشفيف الذى يوقظ فينا إحساساً لذيذاً بشاعرية الأشياء من حولنا وبعبثية القدر .
: تغلبت الشمس على الظلام وهزمت الضباب .انفتحت نوافذ البيوت والأبواب وبدأ الناس يفرون فى الشارع ارتديت القميص الحرير والبنطلون الأنيق وتعطرت وصنعت كوباً من الشاى وجلست أنتظر الصديق وبينما رفعت الكوب إلى فمى وهممت أن أشرب سمعت المذيع يعلن بأسى : نبأ احتلال الكويت ،
ارتجفت يداى ووقع الشاى ساخناً على القميص والبنطلون فانحرق جلدى وانكوى قلبى وظللت أبكى وأبكى صـ74
أنظروا إلى عبثية القدر بالنسبة لشاب مصرى انتظر فرحة السفر إلى الكويت وعندما هم بانتظار الصديق يسمع عن احتلال الكويت .
هذا السرد والشاعرية فى النص القصصى من ناحية الجانب الدلالى للغة من خلال لغة تصويرية شديدة الالتصاق بالواقع المصرى واعتمد القاص فى "انكسارات الرؤى" على التناغم الدقيق بين الشكل والمضمون بحيث أصبحت تلك اللغة باحتوائها على بضع خصائص أسلوبية بمثابة شاهد على كتابة "مجدى جعفر " ويرجع ذلك إلى أن المبدع بداية قد نجح فى أن يتكئ على واحدة من أعظم خصائص اللغة العربية وهى قدرتها التصويرية المذهلة دونما لجوء إلى المجاز أو البلاغة معتمداً على جدلية اللقطة / الصور . والقدرة على خلق الفعل وتحريكه فى آن واحد .
إلتقاطات ذكية وسافرة:
ولمجدى جعفر إلتقاطات قصصية غاية فى الذكاء والسخرية والطرافة النابعة من سوداوية الموقف ويحدث قصصه القصيرة من منطلق الأيديولوجية الخاصة به وبالمتغيرات التى حدثت بالمجتمع المصرى واهتم بالشكل الذى هو العنصر الاجتماعى للأدب كما يعلمنا جورج لوكاش على شرط أن نفهمه على أنه آلية تكوين النص وببنيته ومن ثم فهو فى مستواه الأرفع مناهض للواقع لأنه يحاول إعادة إنتاجه وتنظيمه فمثلاً فى قصة "الصراماتى" صـ95 يلتقط لقطة ذكية فى المجتمع المصرى وهى سرقة الأحذية من أمام المساجد فيدهشك من أول النص حيث يقول :
يذكر الحاج محمد أن أول حادث سرقة للأحذية بدأ فى جامع النصر الكبير وأن اللص بدا بحذائه اللامع المتين قال له بعض المصلين يواسونه ( أخد الشر وراح ) تكررت السرقة في مساجد أخرى وظلت تتكرر لأسابيع وربما استمرت لأشهر وأخيراً أمسكوه متلبساً وأشبعوه ضرباً بالنعال وكانت الأولاد التى أشارت إليهم أصابع الاتهام أكثر طرباً بالقبض على اللص .
حاول معى أن تقرأ هذه الابداعات وهذه اللقطة الذكية وهى سرقة الأحذية ثم اختفاء اللص ورجوعه بعد عامين ينادى : ورنيش – بوية – تلمع يا بيه ، ثم تفاجأ بأن القصة وبطلها الصراماتى تتحول إلى منطقة أخرى وهى منطقة النكسة إقرأ صـ 76 من النص :أيام عصيبة يمر بها .. ما عاد العساكر يأخذون أجازات كسابق عهده بهم قليلون . قليلون جداً الذين يأخذون أجازات وما عادوا يهتمون بتلميع بياداتهم. يطرق بفرشاته على الصندوق وينادى بصوت حزين : ورنيش .. بوية .. تلمع يا بيه .
يحول إليك وجهه عنه ولما أدركه اليأس وقرصه الجوع كان الوحيد بين الجموع الحاشدة الذى يقول: تنح .. تنح .. ولكن صوته يذوب فى أصوات الجماهير الصادرة لا.. تتنحى .. لا تتنحى .
وبعد ذلك تفاجأ بالزمن يتغير ونأتى إلى حرب أكتوبر وتغير فى المجتمع المصرى ففى صـ 98.
فى الوقت الذى انطلقت فيه الطائرات من مطاراتها وخرجت المدافع من مخابئها . انطلقت الزغاريد فى السوق وصيحة الله أكبر للجنود على الشاطئ الآخر للقناة لاقت صدى لرواد السوق وسوقاً بعد سوق أحس الصراماتى أن نجمه أخذ فى الأفول فبادر باستئجار محل كبير بشارع النصر الرئيسى فى المدينة ووضع على واجهته يافطة كبيرة كتب عليها أحذية وخردوات لصاحبها ......
ففى هذه القصة القصيرة أربع تغيرات فى الأزمنة ( 1 ، 2 ، 3 ، 4 ) والأماكن وهى براعة من المبدع ( مجدى جعفر ) فى تكثيف الحدث الدرامى لينقل لك الواقع المصرى من خلال حياة الصراماتى .
** رؤى قصيرة جداً :
أما المجموعة الأخيرة فهى رؤى قصيرة جداً من ترنيمة البوح الطويلة جداً 2005 وهى قصص قصيرة جداً دون أى عنوان يذكر وحين تقرأها لا تدهشك وعجزت عن التكثيف الفنى وتركيز اللقطة القصصية وليست هناك الصدمة التى تعتبر أهم خصائص هذا النوع من القصص .
ولا أعرف لماذا ضمها إلى هذه النصوص القصصية ولكنى مقتنع تمام الاقتناع أن مجدى جعفر أمسك بأدواته الفنية فى هذه النصوص الذى ضمها فى الزيارة .. وتحولات الرؤى .. والذى اتسمت بنسق بوليفونى خاص يكشف عن سعى المبدع إلى خلق رؤيته الفنية التى تتفاعل مع الواقع وطبيعة الصراعات والظروف الاجتماعية والتاريخية .
وفى ختام هذه الدراسة المتواضعة لا يسعنى إلا أن أؤكد أن القاص مجدى جعفر أديب موهوب وشديد الإخلاص لفنه القصصى جرئ فى طموحاته الفكرية مجتهد فى التطور والتجديد .


المصادر والمراجع

1- ثناء انس الوجود الحداثه في القصص القصيره – فصول – المجلد الثامن – مايو 89 ص174
2- محمد السويرتي مقالة..مساهمه في يويطيقيا البنيه الروائيه الجنوبيه ـ عالم الفكر –المجلد- الثامن عشر – العدد الأول يونيو 87 ص89
3- محمد بسام ـ مقالة ... تجربة قصصية _ مجلة الكويت _ العدد 244_ فبراير 2004 ص60
4- مجدى جعفرالزيارة . وتحولات الرؤى _ نصوص قصصية _ سلسلة خيول أدبية
5_ إيخانبوم _ حول نظرية النثر فى نظرية المنهج الشكلى _ نصوص الشكلانية الروس ترجمة إبراهيم الخطيب ط1 بيروت ص110
6_ د. عبد العزيز مقالح مقالة عن شعرية النص القصصى _ مجلة الكويت _ العدد 275 ديسمبر 2006 ص63












(4) دلالة العنوان فى القصة القصيرة
ليست كغيرها .. نموذجا
لـ محمود الديدامونى

بقلم / صادق إبراهيم صادق

حين يقرأ المرء الكتابات القصصية لمحمود الديدامونى ، قراءة عادية ،لانتابته رؤية غامضة حول طبيعة الشكل الذى يصور به موضوعاته وأفكاره ، ولكنه بعد أن يعاود قراءة هذه الكتابات بهدف البحث والتأمل حتى تنشأ صعوبة أساسية من طبيعة الشكل الفنى / القصصي الذى يسيطر على مجمل تلك الكتابات .
والديدامونى له رغبة شديدة فى خلق شكل قصصي مستمد من حضور تجربته الفردية ويقودنا إلى استشعار أكثر من احتمال أمام كل قصة .
وقصصه القصيرة قد تكون قصة قصيرة وفق بعض الشروط وربما حققت إحدى القصص شرطا لا تحققه الأخرى ، بل ربما حققت أكثر من شرط وهكذا .
ـ قد تكون صورة فنية لحالة شعورية ما مثل قصة ( ليست كغيرها ) .
ـ قد تكون مشهدا دراميا محددا غاية التحديد مثل قصة ( حمى الطريق )
ـ قد تكون صيغة قصصية لها شروطها الخاصة ( الهروب إلى المعتقل ـ تحاول غزو وجهى ) .
قد تكون كتابات قصصية غير مكتملة ، كتابة تمثل نواة لتجارب قصصية أكثر رحابة وتنوعا ( قصص قصيرة جدا " ارتطام ـ براءة ـ أصدر أحدهم صوتا " )
وأول ما يلفت النظر هو العنوان " ليست كغيرها " عنوان المجموعة القصصية .
إن العنوان عند الديدامونى يعبر عنه أفضل تعبير من خلال معايشة صادقة لهذا العنوان ، وعناوين قصصه القصيرة وحسه الإنساني العميق ، فليس العنوان مفصحا الإفصاح كله عن المضمون ، لكنه ينبغى أن يشير إليه ، وعناوين قصه القصيرة ملهمة لا نستطيع لها تبديلا لالتحامها بالنسيج الذى خرجت منه ، لتكون رمزا له ، وخير مثال على ذلك ( تحاول غزو وجهى ـ من ثقب الباب ـ ليست كغيرها ـ فوضى أصوات الحيوانات ـ ارتطام ـ أصدر أحدهم صوتا ) .
أما عنوان المجموعة " ليست كغيرها " فإنه فخ لقارىء المجموعةالقصصية ، فعندما تقرأ العنوان يتبادر إلى ذهنك أن هناك فتاة ليست كغيرها ، وعندما تقرأ القصة تفاجأ بأنك وقعت فى خدعة العنوان أو شركه ، فتشدك أول جملة فى القصة : ليست كغيرها (كالعادة أصحو مرغماً ، ألوك لقمة فى فمى وأخرج حيث يريد أبى .. لا أفهم شيئاً مما أفعل .. لكن أبى يقول أننى أفضل من أقرانى .. تمر الكلمة باردة على أذنى وأمارس خضوعى .) صـ27 من المجموعة القصصية، ونلاحظ من ذلك انك تبحث عن الفتاة التى ليست كغيرها ، إلى أن تقرأ فى آخر القصة ....( الليلة ليست كغيرها ، لن أخضع هذه المرة لأوامر أبى ، لابد أن أذهب إلى المولد تمردت على أبى ، صفعنى ، لم أهتم ، ضربنى بقوة ، صممت على الخروج هرول خلفى .. كنت قد أطلقت جسدى مع الريح ..
نظرت إليك ، لم أعهدك بهذا الشحوب قبلاً ، أخذتك معى إلى المولد، لم يتغير لونك ، إنما تزداد شحوباً .. أقرأ فى عينيك هموماً ثقيلة..
أشعر أنك لم تعد تستطيع الإنصات .. هيا تحدث .. انفض عنك همومك وأنا سأنصت إليك .. لاتهتم فالمولد ، ليس لى به طاقة .. أنت تعرف أننى تمردت على الأوامر فقط ، .. عذراً يا صديقى فقد تعودت الحديث إليك .. هيا .. تحدث .. أنا أسمعك يبدو أنها " الحمى " .. لا تتحرك .. سأنقذك يا صديقى مما أنت فيه .. أمسكت غطاءين للأواني في كلتا يدي ورحت أخبطهما ببعضهما قائلاً فى جميع أرجاء المولد ..
يا سيدنا عمر .. فك خنقة القمر
يا سيدنا عمر .. فك خنقة القمر ). صـ 30
هنا الفعل واضح والدراما واضحة فى أول القصة ( أمارس الخضوع ) وفى النهاية ... فك خنقة القمر ، وصارت الليلة هى التى ليست كغيرها ، التى حاول أن يعتمد على نفسه وعدم الخضوع ، فهى فعلا ليست كغيرها .
ونلاحظ انه يتخذ من عبارة العنوان مرتكزا يساعد على الانتقال من نقطة إلى أخرى ، ويجعل منه نغمة موسيقية منبهة للآذان ، لتواصل الاستماع ، ويحرص على أن ينفرد بذاته ، ثم ينتقل إلى متابعة السرد .
وهكذا بقية العناوين التى تميزت بها مجموعته القصصية .
كما تتميز المجموعة بتعدد الأفكار التى يطرحها كل نص ، وانفتاحها على الشكل الذى يصل إلى القارىء حسبما يمليه عليه ذوقه الأدبي ، وتفاعله مع الحياة المخبوءة فى الحياة شكلا ومضمونا ، ولذلك جاءت لوحة المجموعة على هيئة تمثال له أكثر من جهة متاحة للرؤيا والرأي .
ويتجه الديدامونى فى معظم قصصه القصيرة إلى الذات مباشرة ، بكل ما هى عليها من معاناة ، وتميز الذات المباشرة بحضورها الدرامى المستمر ـ ـ وعدم انقطاع النظر إليها ، مهما تراكمت التنوعات الذهنية حولها ، ومهما استطالت الأحداث والمواقف ذات الإطار الواقعى / المادى الملموس .
فهناك إصرار من الديدامونى على أن يجعل من الشحنة الذاتية صيغة قصصية .
إننا ننظر إلى هذه المجموعة القصصية على أنها فعل درامى ، عام يختزل تجربته الذاتية .فى الحب والكراهية ، وفى المت والحياة ،والتشاؤم والفرح ، وفيما هو روحى او مادى ، وفيما هو فلسفى أو ما هو تلقائى .. ففى قصة " الحصار " نسوق من النص (قوة داخلية تدفعنى للمقاومة .. تصرخ فى .. كرر المحاولة .. تصل المسافةبين الأجزاء مداها .. أدقق النظر .. أجد الأجزاء مربوطة إلى خيط يشدها .. تزداد الشقوق عمقاً واتساعاً ..أستمر فى محاولاتى .. الخيوط لم تعد تحتمل لكنها مازالت متماسكة .. أتحسس ممسك طرف الخيط الآخر .. غير محدد المعالم .. شئ يدفعنى لمعرفته .. أقرر الانتهاء من الأمر برمته .. لكن كيف ؟ ثمة صراع داخلى يقتلنى .. شئ ما دفعنى للخروج .. تحدثت .. بدأت الخيوط تتمزق شيئاً فشيئاً .. أحسست حطاماً زلزل أركانى لم أفق منه حتى رجعت بها ممسكة بيدى ترتدى فستانها الأبيض الشفاف المزركش .. درت أبحث فى أنحاء الدار لأخبره بما كان .. تحسست رائحتة .. تلاشت .. لم يعد لها أثر .. فتحت باب الدار .. تراءى لى على البعد شبحاً يحاول اقتحام أحد البيوت ! )
اعتمدت أن أسوق النص السابق مؤكدا المفردت المعبرة عن ورود الفعل والصراع الداخل بين التشبث بالحياة(رجعت بها ممسكة بيدى ترتدى فستانها البيض المزركش ) وبين الموت : (شبحا يحاول اقتحام احد البيوت )
وهذا ادى إلى تماسك الحدث الدرامى بالقصة ويفيد الطاقة التعبيرية فى حدودها .
وفى قصته القصيرة " سرب عرضى " (حتى التوقيع على أوراق وجودى لم يعد مجدٍ ، عذراً ياأمى .. أعلم أنك تتمزقين من داخلك .. كما أتمزق .. سأقاوم ، هذا حقى .. لن أتركه ، ولكن ماحيلتى ؟
هذا المونولوج الداخلى ... الذى يجلد به ذاته ( سيكون معى صابر وصبرى وغريب تعرفينهم ) .
هذا تعبيرا عن تمسكه بالحياة وطلبه للهجرة ، وهذا ما يجعل استخدامه الفنى المتميز من خلال المونولوج الداخلى ن وتوظيفه للعنصر الحيوى وإحساسه الداخلى ، ويتأكد ذلك من خلال الفعل الدرامى ، من خلال دراما الفعل كأنك تشاهد فيلما سينمائيا .
ففى قصة " شتلات " (الريح تقترب من العاصفة .. تنتزع بعض النوافذ، تهاجم نافذتى .. تحدث ضجيجاً ، تنتاب عقلى نوبه هيستيرية .. تتسلل العاصفة إلى أذنى .. تلفحهما .. أتحسس جبهتى ، مشتعلة ، تطال شتلاتى ) .
هذا الشعور يتمثل بشكل أساسى وراء المفردات والصور والمواقف الكثيرة المتكرر منها وغير المتكرر ، ويأتى هذا الشعور فى تشكيل الفعل الدرامى الذى هو من اهم مميزات القصة القصيرة .
محور الحب والجسد عند الديدامونى
تقف المرأة على نقطة التماس الحساسة فى حياة الديدامونى ، وفى خط تفكيره ، فالمرأة لعبت دورا حاسما فى امتحان آدم ، وما زالت تمثل هذا الدور فى حياة الإنسان على هذا الكوكب ، فالمرأة روحا وجسدا وفكرة تتفتق فى ذهن الرجل ويتيقظ معها الحب ، ويكون الرجل أمامها بين حالتين ، إحداهما سمو ، والأخرى هبوط ، فإن هو استجاب لدواعى الروح وحرر نفسه من قيد الجسد ، فسيتحول إلى طائر يغرد فى سماء الحب البهية ، ويصير عذريا يغنى لصورة بيستخلصها خياله من ما يفيض به وجدانه ، فى معانى الجمال والحب والهيام ، وذاك هو الشاعر العاشق الذى يتفوق على جسده ، وينجح فى أقسى امتحان فى حياته .
أما إن هو خضع لمتطلبات الجسد واستجاب لدواعى الغريزة البهيمية، فهذا سقوط وخطيئة .
ولقد وفق الديدامونى أمام المرأة على هذا المفترق ، ففى قصته " حمى الطريق " هذا العنوان الذى يدل على دلالة معينة قد قصدها الديدامونى وتعالوا نقرأ معا هذا الحوار صـ 21
قالت فى جرأة : : أما زلت عند هذه النقطة ؟
أية نقطة ؟
الرجل والمرأة تلك العلاقة المحسوبة بينهما ..
هذا مايجب أن يكون
هذا منطق شهوانى بحت
لب العلاقة بين الرجل والمرأة هو الشهوة
أعتقد أن مثقفاً مثلك يجب أن يكون قد تعدى هذه المرحلة 0
القضية محسومة منذ القدم ، وليس من اليوم .. كما أنها لاتستوجب مراحل للتفكير
راديكالى
ياسيدتى إن خير دليل على ذلك يبدأ عند قابيل وهابيل وأختيهما
هذا أمر يتعلق بكم أيها الرجال
كيف والغواية عندكن ؟
المرأة سكن وأساس العلاقة هى المودة والرحمة
هذه علاقة الأزواج
وقد أغتصب الزوج حق زوجته ) .
هذا الحوار الرائع بين الرجل والمرأة فى حجرة ما ، فى فندق ، هذه المحاورة جعلتني مشوقا بملاحقة القصة ، ونهايتها ، وفوجئت بكثير من الانفعالات الدرامية ، بين الرجل والمرأة وكأنني أشاهد مشهدا مسرحيا أمامي على خشبة المسرح حيث كل ركن فى هذه القصة على الحوار الذكى ، بينهم ومن خلال الصور واللغة والسرد يجعلك تتخيل هذين الشخصين ، وانك تحاورهما أيضا ، وتدخل فى نقاش معهما ، إلا أن يفاجئك بالفعل الدرامى والحدث الذى يهزك .ففى صـ22 (تحركت نحوى بانسيابية الغزال ، ازددت اشتعالاً مدت يدها إلى حقيبتها ، أخرجت شريطاً ناولتنى حبه منه ، قادتنى إلى سريرى أحسست بارتجافة جسدى لفتنى فى بطانية ثقيلة .. أخذنى النوم 0)
وبذلك شعرنا بالجو الذى أراده الكاتب أن يصوره لنا من خلا ل المحاورة بين الرجل والمرأة والذى هو فى نفس الوقت تفكير الكاتب وصدقه مع نفسه بالنسبة للمرأة .
السمات العامة للمجموعة :
هناك مستويان فنيان خطا المؤلف فى الأولى منها خطوات متقدمة على الأمام ، وهذه القصص كتبت بحذق شديد ، ومهارة فائقة ، إنها قصص لا تصدر إلا عن محترف أصيل ذو دراية بأصول ودلالات فن القصة القصيرة ، أم الجزء الآخر فهو قصص قصيرة جدا .
وقبل التعرف علىخصائص هذه القصص ينبغى الإشارة إلى ان القاص لا يختار لقصصه العناوين المطولة ، ولكن العناوين تدل على حالة نفسية أو اجتماعية مثل ( حصار ـ حمى الطريق ـ سرب عرضى ـ تحاول غزو وجهى ) أو يرمز على موقف اجتماعى مثل ( الصفصافة ـ ملاحقة ـ ليست كغيرها ) أو ما يأتى فى صيغة سؤال مثل " لماذا الآن ؟ "
لقد وفق القاص فى أن تشع مجموعته القصصية بإشعاعات كثيرة وأن تحمل رؤية متقدمة سخر لها ادواته الفنية بحيث انها اكتملت فنيا وموضوعيا . وحرص على أن تكون جمله من ناحية وعبارته من ناحية أخرى قصيرة إلى أبعد حد ، واستخدم الأفعال الدالة على الحركة والتوتر والصراع بشكل جيد ، ولا تجده يسسرف فى استخدام حروف العطف ليربط الجمل بعضها ببعض ، ولكنه ينتقل من حركة إلى حركة ومن فعل إلى فعل ومن انفعال إلى آخر دون انتظار لعوامل الربط ، فهذا يؤدى إلى غثارة انفعال القارىء ودفعا له كى يعيش التوتر والقلق والترقب ، ولتنتقل إليه عدوى الحركة والتوثب ، ولعله اراد ان يبتعد عن خلق الجسور بين الجملة والجملة المجاورة حيث أن الجملة الواحدة القصيرة تؤدها بدورها المحدد الذى لا تتعداه ، وتأتى الجملة التالية بما خطط لها لتطبع انطباعا خاصا بها هى وحدها ...وهكذا ، وما على القارىء إلا ان يؤدى مهمة المتابعة والربط والتفكير والتخيل ثم المعايشة الكاملة مثل(الصفصافة ـ من ثقب الباب ـ ملاحقة ـ الهروب على المعتقل).
أما الحوار :
نادرا ما يكون الحوار عنصرا أساسيا فى البناء المعامرى لقصصه القصيرة ، ربما لأن جمله القصيرة ليست إلا حوارا مشحونا إلا بالإيحاءات والدلالات والصور والمعانى ، وعندما تكون هنالك للحوار ضرورة موضوعية أو فنية فإنه يقتصد كثيرا فى جمله بحيث ياتى قصيرا ومكثفا ومركزا وأكبر دليل على ذلك قصة " حمى الطريق " .
ومما يلفت النظر أن القاص لم يستخدم قبيل كل جملة حوارية أفعال القول كما هو مالوف لدى بعض المبدعين ، حين يبدأ الحوار بالفعل قال.. أو قالت .. او قلت .. إنما هنا يمهد للحوار بفعل يكشف عن الحالة النفسية أو عن طبقة أو أى نوع من الحركة المصاحبة لمن يصدر عنه الصوت فمثلا فى قصة " من ثقب الباب " صـ33
-( جدتى لازم نشترى سم
-لا
-نشترى سم
-لا
-ما العمل ؟
-لا تشغل بالك )
هنا يكشف الحوارعن الحالة النفسية للطفل وللجدة ولخوف الطفل من الفأر ، أما الحركة المصاحبة فتاتى من هذا السرد من نفس القصة(ترد وهى تجفف إصبعها من دمائه .. أحسست أنها عازمة على شئ .. أخبرت أبى وأمى ، حاولا إقناعها بالعلاج ..)
هنا تكون الحركة المصاحبة عن طريق السرد لينقل لك الفعل الذى يريده أن يصل إلى القارىء .
وهو لا يكتفى بذلك بل أنه يحدد صدى الجمل الحوارية عند الطرف الآخر المشارك فى الموقف الحوارى ، وإن لم ينطق بكلمة فضبط الكلمة أو الانفعال أو ما قد يصدر عفوا من صوت ، إنما هو متمم للموقف الحوارى من ناحية ومهم بالنسيج العام للقصة القصيرة ككل .
عن الجمل الحوارية يسبقها حركة مثل قصته " الهروب إلى المعتقل " ص49 : (طمأنت نفسى .. فقد مضى الخوف إلى الأبد حيث لاعودة .. الأصوات المتداخلة تتزايد والحركة لاتتوقف .. تبدو الأشباح أمام عينى .. تتمايل ، تعدو ..تقفز .. تحكم حصارها حولى .. وأنا لازلت أقاوم فكرة الخوف 0صرخ أحدهم : اخلعى قرطك الذهبى .. فقلت ، اخلعى أساورك وحليَّك .. فعلت ، اخلعى .. اخلعى .. فعلت ..) .
فى هذا الحوار يجىء الفعل والانفعال ثم الحركة وبعد ذلك الحوار .
وبذلك فإن السمات الفنية التىذكرتها تتوافر فى معظم المجموعة القصصية وهى تعتبر خصائص فنية وصلت بهذه القصص إلى حد الجودة والدقة والإحكام ، ونستطيع ان نضيف على ذلك محاولته الإقدام فى أن ينوع فى طريقة السرد القصصى كما ذكرنا وفى الشكل الذى يقدم به الحدث.
الرمز ودلالته :
أما الرمز فى هذه المجموعة فقد اتجه الديدامونى إلىالرمز فى بعض قصصه ، مثل ( حصار ـ الصفصافة ـ تحاول غزو وجهى ـ الهروب إلى المعتقل ) . ولا نعنى أنه يوغل فى استخدام الرمز ، أو أنه يجرى وراء الإغراب ، أوالغربة . ولكننا نستطيع ان نلتمس لكل قصة من هذه القصص الجيدة بعدين أو مستويين ، إذ يمكن تأويل الحدث أو الشخصية فى كل منها فى ضوء أنها ترمز إلى فكرة أو إلى معنى ، وإلى موقف بذاته، كما يدل به عناوين قصصه ، وإن كان الثابت فنيا أنه وفق فى تشكيل الحدث وتقديم الشخصية واختيار الشكل ، بحيث لايبتعد بنا عن الواقع ولا يحيد عن الصدق الفنى ولا يمعن فى التعقيد أو الإلغاز ، وانه تعمد ان تكون قصصه القصيرة مفهومة ومعقولة يلتحم فيها الفكر والواقع والرمز ، وتنصهر الرؤية التقدمية فى قنينة الفن الصافية النقية ، ومثال على ذلك قصته " الصفصافة " ص26
(عندما تفكر فى العودة ستجدها معلقة هناك فى أعلى شجرة الصفصاف , عد بسرعة فقد سمعت أنها على وشك الرحيل ..
وعندما تعود لاتحاول البحث عنى فهذه المرة قد صممت على قرارى .. ولم تعد لشجرة الصفصاف ظل 0)
هنا الرمز إلى فكرة معينة ودلالة يريدها القاص أن تصل إلى القارىء عن طريق المعنى الذى يرمز إلى فكرة محددة .
أما المستوى الثانى :
يتمثل فى القصص القصيرة جدا ، وتبدا بصفحة 61 ومجزئة إلى ( 1) ارتطام ، ( 2 ) براءة ، ( 3 ) أصدر أحدهم صوتا ، ( 4 ) ثقب ، ( 5 ) بدون عنوان ، ( 6 ) بدون عنوان ، ( 7 ) بدون عنوان .
ولا أعرف لماذا هذا الترقيم فى العناوين وهى ، ارتطام ـ براءة ـ أصدر أحدهم صوتا ـ ثقب ، لا أعتبر هم قصص قصيرة جدا ولكنها تدخل ضمن مجموعة القصص القصيرة لأنها حدث درامى من خلال ومضة تنويرية مكثفة للغاية ، ولا أعرف السرالذى جعل القاص يفصلها عن المجموعة القصصية وأعطى لها عنوانا آخر وهو قصص قصيرة جدا ، هل لأنها صفحة واحدة ؟ ...
ليس هناك قانون يحدد عدد الصفحات للقصة القصيرة ، ولكنه الحدث والفعل والسرد ، هو الذى يحدد نوع الجنس الأدبى سواء رواية أو مسرحية أو قصة قصيرة .
أما ( 5، 6 ،7 ) فهى من غير عناوين ، اللهم إلا الأرقام ، وهى عبارة عن مقولات ترجع للمبدع فقط ، ولا ينطبق عليها قصص قصيرة جدا ، أو حتى أقصوصة .
اما الغلاف فقد كان معبرا من حيث تصميمه الخارجى ، وخصوصا الغلاف الأمامى ، اما الغلاف الخلفى فقد جاء به ما يضمر فى فكر القاص ( محمود الديدامونى ) حيث جاء به رقم ( 7 ) فى مجموعة قصص قصيرة جدا .
( يضعون قرص الدواء فى فمى لعله يشفينى ..اراوغه فى فمى ..أنظر فى عيونهم .. ادرك سأمهم .. أتحمل مرارته لأؤجل فكرة التقسيم . )
هذه هى فلسفة الديدامونى ، وأننى احترمها جدا ، وهذه هى فكرته التى يريد أن يوصلها للقارىء ، عبر سيمائية ودلالة معينة ، وتؤكد على خصوصية مبدعهاوسعيه المشروع لتكون له بصمته المميزة فى ميدان فن القص .


المصادر والمراجع

- مراد عبدالرحمن مبروك ـ التجديد فى القصة القصيرة المعاصرة ـ مجلة القاهرة ـ العدد 108 سبتمبر90
- د / نعيم عطيه ـ مؤثرات أوربية فى القصة القصيرة ـ فصول ـ ديسمبر 82
- د / عبد الحميد إبراهيم ـ مقالات فى النقد الأدبى ـ دار المعارف
- د / عبدالله الغذامى ـ الخطيئة والتكفير ـ مكتبة الأسرة 2006
- د / محمد فكرى الجزار ـ العنوان وسيموطيقا الاتصال الأدبى ـ مكتبة الأسرة 2006
- محمد محمود عبدالرازق ـ فن معايشة القصة القصيرة ـ مكتبة الأسرة 2006
- ليست كغيرها ـ محمود الديدامونى ـ أصوات معاصرة
- القصة العربية أجيال وآفاق ـ كتاب العربى ـ عدد24 ـ يوليو 89
- صبرى حافظ ـ تقرير فى القصة القصيرة فى المسح الاجتماعى الشامل للمجتمع المصرى ، ـ مركز البحوث الاجتماعية والجنائية
- مقالة سشلوفسكى من الرواية والقصة القصية ـ ت . سيزا قاسم فى مجلة فصول ـ القصة القصيرة ـ العدد الثالث من المجلد الأول عام 82