ثور الساقية وحصان العربة

قبل فترة التقيت بصديق وجلسنا نتسامر ونتحدث عن مختلف الأوضاع السياسية والإجتماعية والثقافية, وأغلب حواراتنا كانت عما تمر به الساحة الثقافية من تدني وتراجع في المستوى والذي قد يكون نتاجا لخطة استهداف للغتنا العربية الأصيلة وأركان أدبنا العربي من النثر والشعر, ومع الأسف تساهم فيه مواقع وصفحات ومجلات وصحف حين تتبنى نصوصا ركيكة مليئة بالهنات اللغوية والنحوية والعروضية إن كان النص نصا شعريا, وهذا يتأتى إما عن تصميم وتخطيط أو عن جهل تام باللغة العربية وكلا الأمرين لهما تأثير سيئ في الحفر تحت أعمدة لغتنا وأدبنا العربي.
وبعد لحظة صمت سألني صديقي :
- هل قرأت آخر ما كتبه الأستاذ الكبير فلان الفلاني ؟
- فأجبته: لا لم أقرأ ما كتبه؟ ماذا كتب؟
- أجاب صديقي: لقد كتب أنه لابد من التقيد والتقليد الأعمى لما ورد في العروض.
وبالطبع هذا سينطبق على أمور أخرى كثيرة.
أخذت سيجارة من علبة السجائر أمامي وأشعلتها وبدأت أدخن وأتمعن في الدخان حين أنفثه, ثم أسندت ظهري على المقعد الذي أجلس عليه وأغمضت عيني.
فسألني صديقي: ماذا هل ستنام أم تفكر في الموضوع؟
فأجبته: لا, إنما تمر بذهني الآن صورتان الأولى صورة ثور الساقية, والثانية صورة حصان العربة.
وسألته : هل سمعت بهما أو رأيتهما في حياتك ؟
فأجاب : ربما لكن ما علاقتهما بالموضوع.
فأجبته سأشرح لك الأمر من وجهة نظري:
ثور الساقية : يعرفه إخواننا المصريون وهو الثور الذي يربط إلى عجلة الساقية ليديرها منذ الصباح وحتى غروب الشمس في بعض أرياف مصر. وهذا الثور توضع على عينيه وتربط قطعة جلد وتسمى (الغمامة) حتى لا يرى الثور أمامه أو حواليه ويبقى يدور ويدير الساقية.
أما لماذا تتم تعميته بهذا الشكل فالأمر هو أنه تم تأهيله و (تطبيعه) على هذا لأن الثور يعطى طعاما في الصباح أقل مما يحتاجه , ثم يربط للعجلة ويدفع للسير , فيدور الثور وتدور الساقية وبعد كل عدد من الدورات يعطيه الفلاح بعض الطعام, وهكذا يدور الثور ولا يشعر بالتعب لأنه يظن أنه يسير إلى الأمام فهناك على جانبي الطريق ينتظره الطعام بعد كل مسافة ومسافة, أي أن الثور تطبع على الدوران ظنا منه أنه يسير للأمام, إضافة إلى أن التعمية تقلل أيضا من احتمال إصابته بالغثيان جراء الدوران في نفس المكان.
حصان العربة: حينما كنت صغيرا كنت في العطلة الصيفية أرافق والدي رحمه الله إلى (العلوة) المتجر الذي كان يملكه في سوق الشورجة وهو سوق مخصص للبيع بالجملة وتستخدم فيه عربات كبيرة نوعا ما تجرها الخيول, فجلب انتباهي آنذاك أن الخيول توضع على جانبي عينيها قطع جلدية مثبتة في رؤوسها مربوطة باللجام ,وهذا أثار فضولي لمعرفة السبب فاقتربت من سائق إحدى هذه العربات وسألته:
- لماذا تضع هذه القطع على جانبي رأس الحصان فهي تغطي جانبي عينيه؟

- أجابني : الحصان عيناه تنظران بمساحة أوسع من البشر ونضع هذه القطع لتقليل حيز الرؤية لديه وحصره بما هو أمامه, فيسير إلى الأمام ولا يتأثر بأية مؤثرات جانبية, وإلا سيكون توجيهه مع العربة صعبا جدا.
- فسألته مرة ثانية: لكن هذا يعني أنه يسير إلى الأمام فقط ,والطرق فيها انحناءات واستدارات وربما يصطدم بما أمامه.
- فأجاب هنا يأتي دوري فأنا أتحكم باتجاهاته من خلال الحزامين المربوطين باللجام فإذا أردته أن ينحرف يمينا أسحب الحزام الأيمن وإن أردت أن ينحرف يسارا أسجب الحزام الأيسر وإن أردته أن يتوقف أسحب الحزامين فينحفض رأسه للأسفل فيتوقف.
وهذا أيضا ينطبق على عربة الحنطور.
والآن يا صديقي : هل تريدنا أن نكون كثور السافية أو حصان العربة؟ الثور يقلد أباه لأنه تم تطبيعه على ذلك والحصان يقلد أباه لأنه تم تطبيعه على ذلك. والإثنان يقومان بواجبهما دون تفكير أوحتى رؤية. فأحدهما يتحرك وهو معمى العينين والآخر يتحرك وهو مقيد الرؤية, وهذا أشبه بالتقليد الأعمى.
فأجاب : طبعا لا.
فأكملت: صديقي العزيز, لم يأمرنا الله عز وجل بالطاعة العمياء أبدا ولا بالتقليد الأعمى كما لم يدع أي نبي أو رسول لذلك , تصفح القرآن الكريم كل ما نؤمر به هو أن نتفكر ونفكر ونبصر ونذَّكر وغيرها من التعليمات التي تطلب تنشيط الفكر والعقل,وحتى الإيمان لم يطلب منا خالقنا أن نؤمن دون تفكير وبصيرة, الأمر الوحيد الذي تم ذكره عن التقليد الأعمى هو ما كان يقوله الكفار لأنبيائهم أننا وجدنا آباءنا يعبدون الأصنام أو غيرها فهل نغير ما وجدنا آباءنا عليه. وانظر أيضا أنه لم يمنع الإجتهاد في الدين ولهذا ظهرت عدة مذاهب من قبل أئمة مجتهدين لم يختلفوا على الجوهر بل اختلفوا في التفسير والقراءات في القرآن الكريم, أي اتفقوا على الجوهر واختلفوا على بعض الشكليات وهذا ناتج من اجتهاداتهم وكل حسب رؤيته في التفسير أو القراءة, والتي لا يمكن أن نقول عنها أنها ليست من الدين بشيء, فسبحانه وتعالى ترك بعض الأمور للإجتهاد حيث لم يرد فيها نص صريح, ولا أريد أن أذكر أمثلة فهي كثيرة.
فهل يريد الأستاذ الفلاني أن نقتنع بما أوجده الأوائل في الشعر والعروض ونقلده تقليدا أعمى دون تفكير أو اجتهاد ؟ والله سبحانه وتعالى أعطانا البصيرة والعقل والفكر, بل وميز بين الأعمى والبصير, فهل نكتفي بما أوجد قبل عشرات القرون ونتقبله ونحن نغمض عيوننا وبصيرتنا ؟
أما ترسيخ هذا المبدأ (التقليد الأعمى) وبعيدا عن الأدب فنحن أمة كنا نتربع على عرش الأمجاد والحضارات وكنا نشع علوما وآدابا لكل العالم , وحين انحدرنا إلى الأسفل ظننا أننا بتقليد الغرب سننهض من جديد لكن مع الأسف أخذنا بمبدأ التقليد الأعمى وركزنا على الشكليات بدل الجوهر فقلدنا الغرب بكل شيء يزيد من انحدارنا نحو الأسفل بينما الغرب حين كان يقلدنا أخذ منا العلوم وكل ما يفيد في بناء مجتمعاتهم ودولهم.
وأترك الموضوع لإثرائه من قبلكم بآرائكم

تحياتي وتقديري


https://web.facebook.com/groups/rabi...3498624058573/