قراءة سريعة في " لا زَالَتْ تَسْكُنُنِي الأَمِاكِنْ .. "
للأديبة الراقية وفاء شوكت خضر
قرأت نص " لازالت تسكنني الأماكن " , وقرأت جميع ما كتب حول هذا النص الراقي , فوجدتني أقول : لقد ذهب الاولون بكل شيء , ولم يتركوا لي ما أقول , ولكن العنوان اللافت استفزني , والنص حرّض في الكلمات , مازالت تسكنني الأماكن , عنوان أشعرني وكأنني أمام لوحة فنية , صرت أجول بخيالاتي , أحلّق طائرا حدب كل صوب , أريد أن اراها , رسمت لها صورا , تمنيت أن المّ بتلك الاماكن , لقد ابهرتني الصورة الشعرية , وكيف اصبحت الأماكن , التي من المفترض أن تكون موئلا وملاذ سكنى , راحت تسكن الكاتبة , أية لمسة ابداعية هذه , ولما أغادر الصورة , ولم التقط أنفاسي بعد , فوجئت بصورة شاعرية جيدة " عُدْتُّ أَجُوبُ أَرْوِقَةََ الذِّكْرَى " , والرواق لمن يعرفه مدلولات جمالية غاية في الروعة , منذ العهد الأموي وامتداد الحضارة العربية الاسلامية الى ربوع الاندلس , إنها استعارة غير اعتيادية , أروقة الذكريات , ثم تعدد الأديبة وفاء شوكت خضر , ما تريد عبر أروقة الذكريات : " أَتَلَمَّسُ لَحَظَاتِ قُرْبِكَ ، فِي البُعْدِ تَحْتَوِينِي لَحَظَاتُ شَوْقٍ ، تَشُدُّنِي إِلى كُلِّ زَاوِيَةٍ شَهِدَتْ لِقَاءَاتِنَا ، هَمَسَاتِنَا ، مَوَاعِيدَنَا ، أَحَادِيثِثَا ، أَحْلَامَنَا ، وَوُعُوداً قَطَعْنَاهَا عَهْدَ وَفَاءٍ ، شَوَاهِدَ بَاقِيَاتٍ " , ثم نلحظ صورة شعرية مركبة , ذات حركية استخدمت الأبعاد البصرية والسمعية بالاضافة للبعد الحسّي والوجداني , في تناغم جميل جدا , فالسنديانة انحنت احتراما واعجابا بحبيبين , والسنديانة انحنت بكبرياء , وكأن الكاتبة أرادت تشكيل رمز يوصل رسالة الارتقاء والكبرياء , وفي توليف لفظي شاعري موفق , نرى فيها كيف أن السنديانة دلّت غصونها , لتضم الحبيبين بين الحنو واضفاء الفيء خوفا وحرصا , وهي تصيخ السمع لخفق قلبي العاشقين :
" سِنْدِيَانَةٍ انْحَنَتْ بِكِبْرِيَاءٍ .. ضَمَّتْنَا فِي أَفْيَاءِ غُصُونٍ تَدَلَّتْ ، تُصِيخُ السَّمْعَ لِخَفْقِ القُلُوبِ "
وتتكرر المشاهد الشاعرية المركبة , مع الاستعارات والتداخلات والتوليفات , لتحملنا الأديبة الى حالات معاناتها , احتار منها :
"لا زَالَتْ تَسْكُنُنِي الجِرَاحُ ، وَحَنِينٌ يَمْتَدُّ شُطْآنَاً عَلَى مَدَى بُحُورِ الشَّوْقِ ، تُعَانِقُ أَمْوَاجَ الذِّكْرَى المُتَكَسِّرَةِ عَلَى صَفَحَاتِ القَدَرِ "
" وَالأَمَلُ فَنَارٌ معلقٌ ، ذُبَالَتهُ تَأَرْجَحَتْ بَصِيصَ نُورٍ ، "
" مُدَّ الْحُنوَّ كَفاًً تَمْسَحُ جِرَاحَ سِنِينَ اغْتِرَابِ نَفْسٍ وَلْهَى "
" تُحِسُّ بِالسَّمْعِ هَمْسَكَ ، تُلَاحِقُ عَيْنَيَّ سَرَابَاً لِظِلِّكَ ، أُلَاحِقُ فِيهِ رَسْمَاً لِوَجْهِكَ ."
وعلى الرغم من الكبرياء الذي أوحت لنا به الأديبة , نراها في لحظة توتر وجداني , وكأنه الموسيقا التصويرية الصارخة , تعلن عن حبها بشكل مباشر , وتنادي بعفوية أوصلتنا اليها عبر شريط جميل الصور : أحبك ... أحبك ... , ثم وبخفقات شاعرية , تنبجس الكلمات بين المد والجزر , حالة عشق مجنونة المشاعر , تتحفنا الكاتبة بنهاية تتأجج حبا وعشقا وانسانية :
" فَيَا لَيْتَ دَهْرِي يؤَجِلُ مَوْتِي ، يعَجِّلُ مَوْتِي .. سِيَّانَ عِنْدِي ..
رَجَاءَ لِقَاءٍ بِـ لَيْتَ .. يَجْمَعُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ "
ولا بد لي أن اشيد بهذا المستوى الأدبي العالي للنص , الذي اعتبره قصيدة شاعرية ابداعية .
د. محمد حسن السمان