مقال نقدي : بقلم : د. مصطفى عطية جمعة
الكتابة بالحواس والإحساس
عند التأمل في الكثير من الكتابات القصصية والشعرية ، والنثرية بشكل عام ، نلاحظ أن الكثير منها يندرج تحت ما يسمى الكتابة البصرية أو كتابة الإحساس والمشاعر فقط . وفي هذا إهمال لحواس الإنسان ، وهي حواس فاعلة ، وغير مقتصرة على عمل جوارح الأديب فحسب ، بل تشكل مع باقي عوامل الإدراك والشعور أساسًا قويًا في فهم العالم والأشخاص والأشياء .
( 1 )
فالكتابة البصرية هي الكتابة التي تعتمد الوصف لغة في السرد ، فيعمد الأديب إلى الوصف الدقيق لكل للمشهد ، بكل جزئياته وتفصيلاته ، وعند التمعن في هذا الوصف ، نجده يقتصر على استخدام حاسة البصر ، فعين الأديب هي الراصدة ، والأديب يقيم الأمور وفقًا لعيونه هو ، أو عيون أبطاله في العمل الإبداعي . فيظل المتلقي واقفًا عند حدود العمل الأدبي : حدود المكان ، حدود الزمان ، الوصف للشخصيات خارجيًا ، وحركاتها على صعيد المكان والزمان ، وقد تتداخل حاسة السمع قليلاً في الوصف ، ومثال ذلك :
" دخلتُ الغرفة ، الكراسي مصفوفة في نظام ، باقة من الزهور في المزهرية ، ألوانها متنوعة ، ثمة أوراق في ركن قصي ، نظرت إليها ، كانت مجلات وصحفًا قديمة ، متداخلة الأوراق ، يصلني صوت المذياع بموسيقى صاخبة ، تمشيت جيئة وذهابًا ، ثم جلست على كرسي ، إنني في انتظار صديقي الذي أدخلني الغرفة ، وتركني ، أمسكت مجلة قريبة ، صورة الغلاف تمتلئ بجسد امرأة فاتنة "
في النص السابق نلاحظ : وصف لكل محتويات الغرفة ، ونرصد عين البطل تجول كالكاميرا ، تنقل لنا كل شيء ، وتعلل سبب وجوده ، وتحركاته في الغرفة .
إن هذا اللون من الكتابة البصرية ، يجبر المتلقي على الوقوف الظاهري أو بالأدق التسطح في تناول العمل ، فهو منشغل بالتفاصيل ، جاهل بما في نفس البطل . ويكثر هذا اللون في كتابات الأدباء الشبان ، حيث يرغبون في توصيل كل شيء مرئي إلى القارئ ، فهو يفترضون أنه جاهل بكل شيء ، فعليهم القيام بالمهمة ، فيغرقون في الجزئيات البصرية والحركية . كما نجدها بكثرة لدى كتابات الروائية والقصصية التي تعنى بتقديم عالم مكاني جديد – نسبيًا أو كليًا – على القراء ، مثل عالم الصحراء أو المناطق النائية في الريف أو أمكنة المهمشين، وهذا اللون يتناسب معها ، ولكنه يظل قاصرًا عن تقديم الفهم الكلي للعالم والأشخاص .
كما نراه أكثر في عالم السينما : ففي الأفلام العربية القديمة ، تحرص الكاميرات على تصوير حركات الشخوص في المكان ، وتعنى برصد المكان بما فيه بشكل دقيق بجانب تتابع الأحداث الدرامية . كما نراه في الفنون التشكيلية ؛ في
اللوحات التصويرية ، خاصة في حقبة مايكل أنجلو ودافنشي ، حيث الاعتناء بتفاصيل الجسد والوجوه ، وكل مافي المكان . ونراه أكثر وضوحًا في الأعمال الفنية الأوروبية التي صوّرت العالم الإسلامي والعربي ابتداء من القرن السابع عشر ، حتى أوائل القرن العشرين . وهي لوحات سجلت بشكل دقيق حياة العرب والمسلمين ، بريش الفنانين الأوروبيين الذين وفدوا للمغامرة والبحث عن عوالم فريدة عجيبة تبهر الأوروبي .
وكيلا يظن البعض أن الكتابة البصرية ( أو التعبير البصري ) لا ينقل أحاسيس ولا أفكار ، فهذا غير حقيقي ، فهو ينقل الإحساس والفكر ، من خلال ما يستنبطه المتلقي من الوصف ، وهذا استنباط غير كامل ، لأنه يجعل المتلقي أسيرًا في فهمه ومشاعره للوصف المقدم إليه من المبدع والفنان .
( 2 )
أما كتابة الإحساس فهو : تسجيل الأديب لكل مشاعره ، وما يعتمل في نفسه ، وما يفكر فيه ، فيغرق المتلقي في أزمته النفسية وأفكاره وخواطره ، بينما ينزوي المكان بوصفه ، والجسد بحركاته ، والزمان بساعته . ومثال لذلك:
" إنني في حيرة من أمري ، أعيش قلقًا وسآمة ، كلما غدوت إلى مكان أشعر بانقباض نفسي ، أكره الناس ، الأشياء ، العالم ، أريد العزلة ، أن أعيش في ذكريات الطفولة الجميلة ، هربًا من واقع أليم ، واقع الفقر ، وقلة الشيء ، وفقدان الأمل في الحياة "
صحيح أن نقل المشاعر مطلوب ، وهدف يسعى الأديب لترسيخه في متلقيه ، ولكن هل الإنسان يحيا وينظر بمشاعره فقط ، ويحيا وسط مشاعره فقط ، أم أنه يحيا في معية الناس والأشياء ، وسط مكان وزمان ، وهو يتعامل مع هذا كله بأحاسيسه وعقله .
( 3 )
إذن الكتابة بالحواس والإحساس هي : التعبير بكل حواس الإنسان وجوارحه عن اللحظة المعاشة ، قدر المستطاع ، ووفقًا لما يراه المؤلف الضمني كي تصل رسالته إلى المتلقي كاملة . فيكتب مستعينًا بحواس : البصر في الوصف المكان والأشياء ، وحاسة السمع في نقل مختلف الأصوات في المشهد ، وحاسة اللمس لإشعارنا بملمس الأشياء : خشنة أو ناعمة ، حارة أو باردة .. ، وحاسة الشم في نقل رائحة المكان والأشياء مثل : النباتات والروائح المتطايرة في الجو وروائح المصانع والمطاعم والمستشفيات والموتى .. ، وحاسة التذوق في إيصال ذائقة الأشياء التي يمكن تذوقها ، كل هذا بفؤاد المبدع وعقله ، وفي هذا الإطار هناك عدة نقاط مهمة :
الأولى : إن توصيل الأديب لهذه الحواس عبر الكتابة تتم في معية : الإدراك والشعور ، فالإدراك : هو التصور العقلي والفهم للمعبر عنه ، والشعور : أحاسيس المبدع في تعامله مع الأشياء والمكان والزمان والشخوص والأحداث .
الثانية : وهي مترتبة على النقطة الأولى ؛ فإن الأديب قبل أن يمسك القلم ، عليه أن يتعايش ويتأمل الموقف المعبر عنه ، بكل حواسه ، لا يكتفي بالسرد المتتابع المتلاحق الوصفي ، بل يكتب بكل حواسه ، يجعل المتلقي عائشًا في اللحظة الإبداعية بكل كيانه .
الثالثة : إنها كتابة معقدة ، تحتاج إلى قاموس لغوي ثري يمتلكه الأديب ، وقدرة خاصة على صنع التعبيرات والتراكيب اللغوية التي تنقل بدقة الحدث بكل متعلقاته النفسية والفكرية والشيئية .
الرابعة : إن هذه الكتابة ذات صلة بتراسل الحواس ، وهو مصطلح أسلوبي يقصد أن يجمع التركيب اللغوي ألفاظًا ذات صلة بعدة حواس في آن ، منطلقة من مفهوم الإدراك الكلي المتداخل للشيء ، فعندما نقول : الوردة جميلة ، لا نقصد الشكل (حاسة البصر فقط ) ، بل نقصد : الرائحة ( الشم ) ، والرقة ( اللمس ) ، والبهجة لرؤيتها ( الشعور ) . ومن الممكن أن نقول : " الوردة تأخذنا إلى فضاء جميل " أو " نعايش الوردة الحلوة " .. إلخ .
الخامسة : إن هذه الكتابة لا تشمل كل أنواع الكتابة في العمل الأدبي ، بل يتطلبها الموقف الإبداعي ذاته ، فهناك مواقف يقتصر التعبير فيها على حاستين أو ثلاث ، وهناك ما هو أكثر أو أقل ، هذه يقدرها المؤلف الضمني في إبداعه .
السادسة : تتطلب هذه الكتابة أيضًا ما يسمى بظاهرة " تداخل الضمائر " وتعني تعبير المبدع بضمائر مختلفة : المتكلم والمخاطب والغائب في الموقف الواحد ، بهدف توصيل كل الأصوات للمتلقي ، دون غلبة ضمير بعينه : المتكلم مثلا أو الغائب ، لأن التعبير بضمير واحد يعني ضمنًا استخدام حاسة أو حاستين على أقصى تقدير .
السابعة : إن هذه الكتابة متحققة في إبداع الكثير من المبدعين ، مثل : نجيب محفوظ ( في مرحلتي التجريب والنضج ) ، محمد عفيفي مطر ( مجمل أشعاره )، محمد الماغوط ( شعره ورواياته خاصة رواية الأرجوحة ) ، أمل دنقل ( في دواوينه الأخيرة ) وكثيرين غيرهم ... ، كما أنها موجودة في كثير من الكتابات التراثية وتنتظر البحث والتنقيب عنها .
الثامنة : إن الكتابة بالحواس والإحساس ، لا تقتصر على الإبداع الأدبي ، بل تتخطاه إلى كافة الفنون ، فجوهر المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي هي التعبير بالحواس والإحساس باستخدام الريشة أو خامات أخرى . وكذلك في الفن السينمائي : ونلاحظ سينما المخرج محمد خان ( مصر ) كيف تكون اللقطة السينمائية مشحونة بكل تعبير حركي وشيئي وجسدي ، ولعل فيلم " أحلام هند وكاميليا " خير مثال : فالمشاهد دقيقة في لفظها ، عميقة في دقائقها ، تنقل أحاسيس الأبطال ، ورد فعل الشارع ؛ وغيره كثيرون في أنحاء العالم .
ومثال لكتابة الحواس والإحساس :
" دخلتُ الغرفة ، الكراسي ناعمة الملمس ، كسوتها لامعة ، وهي مصفوفة في نظام ، باقة من الزهور المتألقة في الزهرية ، تبعث الكآبة ؛ لذبولها وشحوب ألوانها ، وانطفاء روائحها ، ثمة أوراق في ركن قصي ، عانقتها عيناي ، كانت مجلات وصحفًا قديمة يفوح العطن من عناوينها التي تروج لشعارات حكومية سئمت النفس من تكرارها ، الأوراق متداخلة ، يصك أذني صوت المذياع بموسيقى صاخبة ملأت فؤادي بالغثيان ، تمشيت جيئة وذهابًا ، الجدران تلفظني ، ثم جلست على كرسي ، كسوته شوك في ظهري ، إنني في انتظار صديقي الذي أدخلني الغرفة ، وتركني ، أمسكت مجلة قريبة ، الزمن ثقيل الخطى ، صورة الغلاف تمتلئ بجسد امرأة فاتنة ، كرهت هيئتها "
( 5 )
إن الأزمة التي صنعت هذا اللون من الكتابة تعود إلى : شعور المبدع الحقيقي أنه متوحد النفس مع عالمه ، ورسالته الإبداعية تتمثل في نقل هذا العالم إلى متلقيه ومن هنا فإنه يحترق بالكلمة أو بالريشة أو بالكاميرا من أجل متلقيه . لعل هذا هو ما دفع أحد المبدعين العرب في الأردن ومصر إلى أن يسجل نصوصا إلكترونية؛ تجمع الصورة والكلمة والموسيقى في نص واحد .