أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: الكتابة بالحواس والإحساس

  1. #1
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    المشاركات : 191
    المواضيع : 44
    الردود : 191
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي الكتابة بالحواس والإحساس

    مقال نقدي : بقلم : د. مصطفى عطية جمعة
    الكتابة بالحواس والإحساس
    عند التأمل في الكثير من الكتابات القصصية والشعرية ، والنثرية بشكل عام ، نلاحظ أن الكثير منها يندرج تحت ما يسمى الكتابة البصرية أو كتابة الإحساس والمشاعر فقط . وفي هذا إهمال لحواس الإنسان ، وهي حواس فاعلة ، وغير مقتصرة على عمل جوارح الأديب فحسب ، بل تشكل مع باقي عوامل الإدراك والشعور أساسًا قويًا في فهم العالم والأشخاص والأشياء .
    ( 1 )
    فالكتابة البصرية هي الكتابة التي تعتمد الوصف لغة في السرد ، فيعمد الأديب إلى الوصف الدقيق لكل للمشهد ، بكل جزئياته وتفصيلاته ، وعند التمعن في هذا الوصف ، نجده يقتصر على استخدام حاسة البصر ، فعين الأديب هي الراصدة ، والأديب يقيم الأمور وفقًا لعيونه هو ، أو عيون أبطاله في العمل الإبداعي . فيظل المتلقي واقفًا عند حدود العمل الأدبي : حدود المكان ، حدود الزمان ، الوصف للشخصيات خارجيًا ، وحركاتها على صعيد المكان والزمان ، وقد تتداخل حاسة السمع قليلاً في الوصف ، ومثال ذلك :
    " دخلتُ الغرفة ، الكراسي مصفوفة في نظام ، باقة من الزهور في المزهرية ، ألوانها متنوعة ، ثمة أوراق في ركن قصي ، نظرت إليها ، كانت مجلات وصحفًا قديمة ، متداخلة الأوراق ، يصلني صوت المذياع بموسيقى صاخبة ، تمشيت جيئة وذهابًا ، ثم جلست على كرسي ، إنني في انتظار صديقي الذي أدخلني الغرفة ، وتركني ، أمسكت مجلة قريبة ، صورة الغلاف تمتلئ بجسد امرأة فاتنة "
    في النص السابق نلاحظ : وصف لكل محتويات الغرفة ، ونرصد عين البطل تجول كالكاميرا ، تنقل لنا كل شيء ، وتعلل سبب وجوده ، وتحركاته في الغرفة .
    إن هذا اللون من الكتابة البصرية ، يجبر المتلقي على الوقوف الظاهري أو بالأدق التسطح في تناول العمل ، فهو منشغل بالتفاصيل ، جاهل بما في نفس البطل . ويكثر هذا اللون في كتابات الأدباء الشبان ، حيث يرغبون في توصيل كل شيء مرئي إلى القارئ ، فهو يفترضون أنه جاهل بكل شيء ، فعليهم القيام بالمهمة ، فيغرقون في الجزئيات البصرية والحركية . كما نجدها بكثرة لدى كتابات الروائية والقصصية التي تعنى بتقديم عالم مكاني جديد – نسبيًا أو كليًا – على القراء ، مثل عالم الصحراء أو المناطق النائية في الريف أو أمكنة المهمشين، وهذا اللون يتناسب معها ، ولكنه يظل قاصرًا عن تقديم الفهم الكلي للعالم والأشخاص .
    كما نراه أكثر في عالم السينما : ففي الأفلام العربية القديمة ، تحرص الكاميرات على تصوير حركات الشخوص في المكان ، وتعنى برصد المكان بما فيه بشكل دقيق بجانب تتابع الأحداث الدرامية . كما نراه في الفنون التشكيلية ؛ في
    اللوحات التصويرية ، خاصة في حقبة مايكل أنجلو ودافنشي ، حيث الاعتناء بتفاصيل الجسد والوجوه ، وكل مافي المكان . ونراه أكثر وضوحًا في الأعمال الفنية الأوروبية التي صوّرت العالم الإسلامي والعربي ابتداء من القرن السابع عشر ، حتى أوائل القرن العشرين . وهي لوحات سجلت بشكل دقيق حياة العرب والمسلمين ، بريش الفنانين الأوروبيين الذين وفدوا للمغامرة والبحث عن عوالم فريدة عجيبة تبهر الأوروبي .
    وكيلا يظن البعض أن الكتابة البصرية ( أو التعبير البصري ) لا ينقل أحاسيس ولا أفكار ، فهذا غير حقيقي ، فهو ينقل الإحساس والفكر ، من خلال ما يستنبطه المتلقي من الوصف ، وهذا استنباط غير كامل ، لأنه يجعل المتلقي أسيرًا في فهمه ومشاعره للوصف المقدم إليه من المبدع والفنان .
    ( 2 )
    أما كتابة الإحساس فهو : تسجيل الأديب لكل مشاعره ، وما يعتمل في نفسه ، وما يفكر فيه ، فيغرق المتلقي في أزمته النفسية وأفكاره وخواطره ، بينما ينزوي المكان بوصفه ، والجسد بحركاته ، والزمان بساعته . ومثال لذلك:
    " إنني في حيرة من أمري ، أعيش قلقًا وسآمة ، كلما غدوت إلى مكان أشعر بانقباض نفسي ، أكره الناس ، الأشياء ، العالم ، أريد العزلة ، أن أعيش في ذكريات الطفولة الجميلة ، هربًا من واقع أليم ، واقع الفقر ، وقلة الشيء ، وفقدان الأمل في الحياة "
    صحيح أن نقل المشاعر مطلوب ، وهدف يسعى الأديب لترسيخه في متلقيه ، ولكن هل الإنسان يحيا وينظر بمشاعره فقط ، ويحيا وسط مشاعره فقط ، أم أنه يحيا في معية الناس والأشياء ، وسط مكان وزمان ، وهو يتعامل مع هذا كله بأحاسيسه وعقله .
    ( 3 )
    إذن الكتابة بالحواس والإحساس هي : التعبير بكل حواس الإنسان وجوارحه عن اللحظة المعاشة ، قدر المستطاع ، ووفقًا لما يراه المؤلف الضمني كي تصل رسالته إلى المتلقي كاملة . فيكتب مستعينًا بحواس : البصر في الوصف المكان والأشياء ، وحاسة السمع في نقل مختلف الأصوات في المشهد ، وحاسة اللمس لإشعارنا بملمس الأشياء : خشنة أو ناعمة ، حارة أو باردة .. ، وحاسة الشم في نقل رائحة المكان والأشياء مثل : النباتات والروائح المتطايرة في الجو وروائح المصانع والمطاعم والمستشفيات والموتى .. ، وحاسة التذوق في إيصال ذائقة الأشياء التي يمكن تذوقها ، كل هذا بفؤاد المبدع وعقله ، وفي هذا الإطار هناك عدة نقاط مهمة :
    الأولى : إن توصيل الأديب لهذه الحواس عبر الكتابة تتم في معية : الإدراك والشعور ، فالإدراك : هو التصور العقلي والفهم للمعبر عنه ، والشعور : أحاسيس المبدع في تعامله مع الأشياء والمكان والزمان والشخوص والأحداث .
    الثانية : وهي مترتبة على النقطة الأولى ؛ فإن الأديب قبل أن يمسك القلم ، عليه أن يتعايش ويتأمل الموقف المعبر عنه ، بكل حواسه ، لا يكتفي بالسرد المتتابع المتلاحق الوصفي ، بل يكتب بكل حواسه ، يجعل المتلقي عائشًا في اللحظة الإبداعية بكل كيانه .
    الثالثة : إنها كتابة معقدة ، تحتاج إلى قاموس لغوي ثري يمتلكه الأديب ، وقدرة خاصة على صنع التعبيرات والتراكيب اللغوية التي تنقل بدقة الحدث بكل متعلقاته النفسية والفكرية والشيئية .
    الرابعة : إن هذه الكتابة ذات صلة بتراسل الحواس ، وهو مصطلح أسلوبي يقصد أن يجمع التركيب اللغوي ألفاظًا ذات صلة بعدة حواس في آن ، منطلقة من مفهوم الإدراك الكلي المتداخل للشيء ، فعندما نقول : الوردة جميلة ، لا نقصد الشكل (حاسة البصر فقط ) ، بل نقصد : الرائحة ( الشم ) ، والرقة ( اللمس ) ، والبهجة لرؤيتها ( الشعور ) . ومن الممكن أن نقول : " الوردة تأخذنا إلى فضاء جميل " أو " نعايش الوردة الحلوة " .. إلخ .
    الخامسة : إن هذه الكتابة لا تشمل كل أنواع الكتابة في العمل الأدبي ، بل يتطلبها الموقف الإبداعي ذاته ، فهناك مواقف يقتصر التعبير فيها على حاستين أو ثلاث ، وهناك ما هو أكثر أو أقل ، هذه يقدرها المؤلف الضمني في إبداعه .
    السادسة : تتطلب هذه الكتابة أيضًا ما يسمى بظاهرة " تداخل الضمائر " وتعني تعبير المبدع بضمائر مختلفة : المتكلم والمخاطب والغائب في الموقف الواحد ، بهدف توصيل كل الأصوات للمتلقي ، دون غلبة ضمير بعينه : المتكلم مثلا أو الغائب ، لأن التعبير بضمير واحد يعني ضمنًا استخدام حاسة أو حاستين على أقصى تقدير .
    السابعة : إن هذه الكتابة متحققة في إبداع الكثير من المبدعين ، مثل : نجيب محفوظ ( في مرحلتي التجريب والنضج ) ، محمد عفيفي مطر ( مجمل أشعاره )، محمد الماغوط ( شعره ورواياته خاصة رواية الأرجوحة ) ، أمل دنقل ( في دواوينه الأخيرة ) وكثيرين غيرهم ... ، كما أنها موجودة في كثير من الكتابات التراثية وتنتظر البحث والتنقيب عنها .
    الثامنة : إن الكتابة بالحواس والإحساس ، لا تقتصر على الإبداع الأدبي ، بل تتخطاه إلى كافة الفنون ، فجوهر المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي هي التعبير بالحواس والإحساس باستخدام الريشة أو خامات أخرى . وكذلك في الفن السينمائي : ونلاحظ سينما المخرج محمد خان ( مصر ) كيف تكون اللقطة السينمائية مشحونة بكل تعبير حركي وشيئي وجسدي ، ولعل فيلم " أحلام هند وكاميليا " خير مثال : فالمشاهد دقيقة في لفظها ، عميقة في دقائقها ، تنقل أحاسيس الأبطال ، ورد فعل الشارع ؛ وغيره كثيرون في أنحاء العالم .
    ومثال لكتابة الحواس والإحساس :
    " دخلتُ الغرفة ، الكراسي ناعمة الملمس ، كسوتها لامعة ، وهي مصفوفة في نظام ، باقة من الزهور المتألقة في الزهرية ، تبعث الكآبة ؛ لذبولها وشحوب ألوانها ، وانطفاء روائحها ، ثمة أوراق في ركن قصي ، عانقتها عيناي ، كانت مجلات وصحفًا قديمة يفوح العطن من عناوينها التي تروج لشعارات حكومية سئمت النفس من تكرارها ، الأوراق متداخلة ، يصك أذني صوت المذياع بموسيقى صاخبة ملأت فؤادي بالغثيان ، تمشيت جيئة وذهابًا ، الجدران تلفظني ، ثم جلست على كرسي ، كسوته شوك في ظهري ، إنني في انتظار صديقي الذي أدخلني الغرفة ، وتركني ، أمسكت مجلة قريبة ، الزمن ثقيل الخطى ، صورة الغلاف تمتلئ بجسد امرأة فاتنة ، كرهت هيئتها "
    ( 5 )
    إن الأزمة التي صنعت هذا اللون من الكتابة تعود إلى : شعور المبدع الحقيقي أنه متوحد النفس مع عالمه ، ورسالته الإبداعية تتمثل في نقل هذا العالم إلى متلقيه ومن هنا فإنه يحترق بالكلمة أو بالريشة أو بالكاميرا من أجل متلقيه . لعل هذا هو ما دفع أحد المبدعين العرب في الأردن ومصر إلى أن يسجل نصوصا إلكترونية؛ تجمع الصورة والكلمة والموسيقى في نص واحد .

  2. #2
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Jul 2003
    المشاركات : 5,436
    المواضيع : 115
    الردود : 5436
    المعدل اليومي : 0.72

    افتراضي

    جميل مقالك النقدي هذا و ماتع بحق ، و قد أضاف إلى ما عندي إضافات كنت بحاجة إليها في التمايز بين مفردات التعبير الوصفي بالجوارح و بين التعبير الوصفي بالمشاعر .

    تقديري .

  3. #3
    الصورة الرمزية وفاء شوكت خضر أديبة وقاصة
    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : موطن الحزن والفقد
    المشاركات : 9,734
    المواضيع : 296
    الردود : 9734
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    الفاضل الأستاذ م مصطفى عطية جمعة ..

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

    لا يسعني على هذه الصفحة ، وأنا أقف على كلماتك إلا أن أشكرك عميق الشكر ، حقا ما قدمته لنا رائع .
    إن فنيات الكتابة حين تذوب بالحواس والإحساس ، ستعطي أبداعا أكبر وتمنح التعبير مساحة أوسع ، لتعطي بالنهاية نتاجا أدبيا يسلب القارئ فكره وخياله ليرى ويحس الصور التي يراد توصيلها ليتعايش مع النص بشكل أكبر شمولية حتى ليكاد يحس نفسه في النص .

    بحق استفدت كثيرا مما طرحته ، فلك الشكر والإمتنان .

    لك التحية والتقدير .
    //عندما تشتد المواقف الأشداء هم المستمرون//

  4. #4

  5. #5

  6. #6
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    أما آن لأدب اليوم ان يستشرف الغد ويكتب لنا الحلم وخرائطه ...


    الحقيقة اني أراه ( أي الادب ) متقهقرا ًَ عن فوازوع الحظة الراهنة


    هذا المقال فكك لي برموزه بعض الغموض حول تلك المعضلة



    بالغ التقدير
    الإنسان : موقف

  7. #7
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    المشاركات : 191
    المواضيع : 44
    الردود : 191
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خليل حلاوجي مشاهدة المشاركة
    أما آن لأدب اليوم ان يستشرف الغد ويكتب لنا الحلم وخرائطه ...
    الحقيقة اني أراه ( أي الادب ) متقهقرا ًَ عن فوازوع الحظة الراهنة
    هذا المقال فكك لي برموزه بعض الغموض حول تلك المعضلة
    بالغ التقدير
    الحبيب الغالي / خليل حلاوجي سلام الله عليك
    أشكرك وأمتن لك متابعاتك الدؤوبة لي ولغيري مما ينشر في الواحة
    كما اشير إلى أن المصطلحات النقدية الغربية ، ومناهجها ، وطرائقها ، ليست مؤامرات ضدنا كما يظن البعض ، وإنما هي صادرة عن حضارة غربية مادية علمانية ، فطبيعي أن يكون هناك اختلاف معها ، ولكن ليس من الطبيعي أن نقاطعها ، ولانناقشها ، كما يفعل البعض ، خاصة أن المنجز الأدبي والنقدي الغربي عظيم الماهية والإمكانية ، فلابد أن نتعرفه ، ونناقشه ، ونستفيد منه ، استفادة الأنداد ، لا التابعين الأذلاء .
    أشكر متابعتك وجهدك الطيب .

المواضيع المتشابهه

  1. اختبارات اللغة العربية والإحساس باللغة
    بواسطة فريد البيدق في المنتدى عُلُومٌ وَمَبَاحِثُ لُغَوِيَّةٌ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 30-04-2012, 09:21 PM
  2. صناعة الكتابة - فن الكتابة - آداب الكتابة
    بواسطة عطية العمري في المنتدى عُلُومٌ وَمَبَاحِثُ لُغَوِيَّةٌ
    مشاركات: 22
    آخر مشاركة: 28-10-2006, 09:08 AM
  3. اخطاء شائعة في الكتابة بالمنتديات.
    بواسطة معاذ الديري في المنتدى عُلُومٌ وَمَبَاحِثُ لُغَوِيَّةٌ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 31-08-2006, 06:25 AM
  4. ما الحكمة من الكتابة بيوزرات أو معرفات أو أسماء مستعارة؟
    بواسطة المجهوووول في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-03-2004, 12:12 AM
  5. لماذا نتوقف عن الكتابة؟
    بواسطة بروق في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 06-12-2003, 08:23 PM