المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مأمون المغازي
الوردة ،
إبحار في الذات ، في النفس في حالات الحب الصادق الذي يحتل منا الوريد والشريان ويحول العالم إلى جنات من روعة ونيران الشوق تتحول أرصفة نقبع فيها حينًا وحينًا ننطلق إلى الأرحب من عوالم التعبير الذي يمكن ألا يسمعه المحبوب لكننا نسافر لمن نحب عبر أزمنتنا في عوالمنا الداخلية المزروعة قمحًا وسكرًا وتجري فيها الأنهار تنحدر من الأقمار والنجوم .
خواطر منسية / لم تعد منسية
إنها رسالة بديعة تخرج من نقاء روح بوحي حب سكن ليس القلب وحده وإنما تغلغل في كل الأعماق ، هذا الحب الذي يضغط بقوةعلى مراكز البوح فلا تجد غير التصريح به ، إنه الموصل إلى حالة إبداعية قد لانجد التعبير عنها إلا بهذا اللون من الكتابة ، أديبتنا نجلاء طمان تستعرض لنا حالة رصدها التاريخ منذ عرف تبادلية المشاعر السامية ، لذلك أتت هذه الرسالة حاملة من الدفقات الشعورية ما فاق احتواء اللفظ له لكننا نسمعه من خلفيات التراكيب التي أتت رائعة متدرجة في التنامي الذي قام بدور المشوق حين تنقلنا إلى عوالمها الدرامية الفسيحة التي تتنقل بنا من خلالها في العالم الذي ارتضت أن تدخله لتكتب فيه ومن خلاله ، أقول هذه العبارة لأني لا أحب إسقاط النص على كاتبه ، بل أعتبر من أهم المهارات دخول الكاتب في الحالة ودخول الحالة إلى عالمه الإبداعي .
ا
حتويني .. أغرقني فيك .. فأتسلل ، أتلمس تلك الخبايا في أعماقك ، فأنا أبحث فى أذني عن بقايا محتضرة لصوتك فأضل طريقي ، تسرب إلى أوردتي الميتة حفنة دم حية تسري ، تبلل أوردتي الظمأى ، أيقظ في قلبي النبض علّه يعرف الخفقان، انزع الشوك من جسدي ، تنسم شذاي ، تنفسني وانسب حولي كقطرة ندى.... اسقني حتى أرتوي ؛ فأنا أصارع الظمأ من ألف عام ، أنا من ألف عام ما رويت.
في الفقرة السابقة عمدت الكاتبة إلى هذا الهجوم الرائع لتجعلنا نصمت تمامًا أمام المدخل للرسالة ، البداية بالأمر ، هذا الأمر الذي يلعب عدة أدوار في حالات التعبير عن الحب ، وبما أننا هنا أمام حالة فوق الحب يكون الأمر هنا يحمل معاني اللهفة والشوق ، وقد ترقت الكاتبة به إلى حالة الغرق ، إنها تطلب من الحبيب أن يغرقها فيه ... إنها حالة التوحد ، التي لا يمكن أن تكون طلبية ، وهذا ما يجعلنا نعود لنؤكد أن هذه الحالة البوحية هي حالة ذاتية ، يكون فيها الخطاب موجهًا إلى حبيب يقيني موجود بالفعل ، أو حبيب متوقع ( فارس الأحلام ) وهو الآخر موجود بالفعل ، لكن في عالم فريد هو عالم الحب الذاتي ، وبهذا الترقي تصل بنا نجلاء طمان إلى تصوير استوقفني طويلاً ( ، أتلمس تلك الخبايا في أعماقك ، فلكم بحثت في أذني عن بقايا محتضرة لصوتك فأضل طريقي ( الكاتبة بهذا التصوير تفتح عالمًا تصويريًا خاصًا بها فهي تبحث عن الذكريات المتمثلة في بقايا الأصوات ، وجاء استعمال (أنا ) مفيدًا للتقرير والتجدد مع الإلماح لطول الفترة الزمنية ، لتدخل بنا إلى حالات من التصوير مؤداها تمكن الحبيب من حياة محبوبته حتى أنه لم يعد ساكنًا القلب فقط وإنما تجاوز هذه الحالة إلى أنه بات الدم والنبض المرتبط به ، لترتقي بنا مرة أخرى إلى العلاقة بالأرض ، الخصب ، النماء ، الأصل ، الري ، والإنبات .
وتنتقل الكاتبة :
ا
جعلني الترنيمة عند الفجر، أيقظ أسراب فراشات عالقة بوجداني لتهمس متسامية نحو فراديس النقاء ، اعزفني ؛ فكم أحب العزف ! وأحبه أكثر عند الفجر ، انزع عنى سوادي ، واسرقني من سرمديتي الأبدية ، وارحل بي بعيداً بعيدًا بعيدًا إلى مجرة كونية وحيدة هائمة ، تلمع في الفضاء البعيد ، فأنا أقرأك في سمائي قصيدة تحلق بلا أجنحة ، فتتناثر فيك قصائدي ، وأتبعثر في جوف الليل ، أحط على وشوشة وجهك بعد الرحلة، أحترق هيامًا .
هنا نجد الفجر يأتي مع الترنيمة ، مع الانسجام الحاني ، وتلعب الفراشات دور الحركة الرشيقة لندخل إلى العزف ، ـ جميل هذا التسلسل ما بين الضوء ، الحركة ، الصوت المتنامي ـ كل العناصر تتنامى هنا ، لنصل إلى الرغبة في الانتزاع من الواقع المر حيث تطالبه بنزع السواد كبداية للإقلاع في الرحلة الانفلاتية إلى المجرة المتفردة في عالم اللامحدود ، وكأن الكاتبة تعلمنا الحب من خلال هذه المنظومة الانتقالية حيث السماء غير السماء والسماء غير الأرض لتتحول السماء إلى قصيدة مبعثرة فيها الأبيات ليجمع العاشقان أبيات القصيدة الغرامية لتتحول إلى الطائر المحلق ، نعم هو يحلق على مستويين ، مستوى الكتابة ، ومن قبله عالم الروح ولم تغفل الكاتبة الالتفاتات الناجحة في العرض هنا فهي تطالب في حنو وتعطي بكثرة مدركة مرحلة التحرر لتحط على وجه المحبوب ، وهنا تصوير جميل تتحول فيه المحبة إلى فراشة ... ربما ... إلى نسمة ...ربما ... إلى قبلة ... ربما ... وربما أكثر ، ليأتي تعبير الغلق ( أحترق هيامًأ ) ما أجمله من احتراق هذا الذي ننبعث منه .
ويبدو أن الكاتبة في تصويرها للحالة المعروضة مترددة في وصف أقوى مشاعرها لذلك لم تكمل تنامي الحالة لذلك ترتد إلى مضامين الفقرة الأولى فتنميها فهي تقول :
شعلتي أنت المتدثرة بخيوط الفجر تعانق جليدي فأشتعل، و أتوهج جمرة في حريقك الأبدي ، أسامر نجومك ، أبعثرها في شرياني ؛ وشرياني لا يهدأ ، يرفرف بين ذراعيّ الموج ، يجمع شطريَّ البحرُ المنسكب في عينيك فتصبح اللحظة في الحب جميع اللحظات، ويجيء النغم المجنون من جميع الجهات ، وشراعي بين يديك طفل يتهدهد . احتويني.. ولا تتعب عينيك بالبحث عني .. فأنا أخشي عليهما وأغار من جفونك.
في هذه المقطوعة نجد الروابط وثيقة بينها وبين الأولى وتنميها حيث تتطور معاني الشرايين ويتطور النبض ، ويمتد إلى العيون ، لنجد الصور القوية فالمحبوب هو الشعلة المتدثرة بخيوط الفجر . في هذا التعبير نلمح حنو الضوء وهمس الصوت وخفة الحركة حيث معانقة الجليد ، هذا الصمت الطويل ، هذا التجمد في بعد الحبيب ، الذي ينتظر الحبيب ليحول الصمت إلى وقود العواطف المجمدة ، وهذا المعنى من المعاني الحديثة التي نراها كثيرة الاستعمال في التراسل أو التعبير عن الشوق ، كطريقة لتعبير عن الوفاء بالعهد المقطوع بين الحبيبين ، يبدأ الصوت في الارتفاع حيث البحر وحركته في مقابل حركة النجوم في السماء ، وأنا معجب بهذه اللمحة التي تربط بين البلاغة القديمة والحديثة ، فالسياق جاء هامسًا متفقًا مع الشعور ، وجميل شطر البحر إلى شطرين ليجتمعا ، ينسكب البحر في عيني الحبيب ، إنه بحر غير البحر كما النجوم غير النجوم ، هذه النجوم وهذا الفلك الذي ترصده المحبة على سفينها تشرع أشرعتها في بحر الحب المتدفق من ، وفي عيني الحبيب لتبدأ من جديد رحلتها المشتاقة .
المفاجأة :
عفواً ؛ هي كلماتٍ تنفلت من عقال الصمت وأعرف أنى قد ... لكني كم وددت لو إليك أطير لأسكب العذر نظراتٍ في عينيك ؛ فأنا لا أقوى على جرح أمير ، أود لو إليك أهاجر ، أقطف النجم وأطوى المسافات . أضعف . أبكي . أهمس ... وتذوب الهمسات على شفتيك غافرة لي ساذجات الكلمات .
آآآآآه ؛ هي فقط خواطري ، خواطر منسية .
ربما يوما تصبح غير منسية.
والمفاجأة كانت عنصرًا مهمًا هنا اتفق مع العنوان حيث الخواطر ، تبدأ فجأة في هدأة لتنتهي دون تمهيد بل القطع هو الطريقة الأكثر أثرًا لأنها الأكثر حدوثًا ، لكن القطع هنا مشفوع باعتذارات عدة وكأن الموصوفة بهذه الحالة تخشى التمادي في الإفصاح عما يدور بجوانيتها ، فتلتزم مبدأ السلامة ، مع ابتسامة رقيقة منها لهذا الطيف الساكن خيالها الذي هو المحبوب ، والأكثر من ذلك هذه اللفتة الرقيقة وهذا التمني ، إنها تتمنى لو أنها تملك القدرة على الطيران لا لتبث الحب ، وإنما لتبث الاعتذار ، في حالة من ترقية المحبوب مع ترقي الحب ؛ فالمحبوب هنا بلغ من المحب درجة النقاء و الصفاء لدرجة الخشية عليه حتى من البوح الصامت بحبه ، ليس هذا فحسب ، وإنما الشعور بأن هذه المقطوعات الشعورية أقل مما يجب أن يقال في هذا المحبوب .
وربما يختلف معي البعض في هذا الغلق ، إلا أنني أراه جاء مناسبًا لأنه غلق مؤقت يوحي بالمتابعة لهذه الحالة ويحمل شكل الغلق القصصي .
والآن ، أرى أن هذه الرسالة أو هذا النص الخاطر ، وهذه السباحة في العالم الذاتي الذي ابتدعته الكاتبة من نسيج الحب الصادق ، وهنا لا يمكن أن نسقط النص على الكاتبة ، لأننا إن فعلنا هذا نكون قد ظلمناها وظلمنا النص الذي يحمل مضامين فوق الذاتية ، والعين التي ترى النص على العموم تدرك أوسع من التي ترى النص على الخصوص ، والحب هو أكثر ما يمكن أن يكتب فيه ، ولكن كم من الكتابات يمكن أن تعبر عن حالة حب صادقة لتأتي الكلمة راقصة مسافرة في قلب القارئ معبرة عنه وناطقة باسمه ؟! وربما كان هذا هو السبب أن اتت الرسالة في مقطوعات تعزف كل منها نوتتها في اللحن المتكامل وربما كنت اتمنى أن يأتي ترتيب الفقرات كما أوردت ، لكن هذا لا ينفي روعة هذا الترتيب الحالي بما يوحي بكونها دفقات خاطرية أوردتمها الكتبة في سياق ونسق واحد ،جاءت فيه اللغة بسيطة موحية معبرة تناسب حالة التصور في الصمت تعتمد على الهمس والجمل القصيرة المنسبكة في عبارة رشيقة يمكن أن تقبل التطريز أكثر ، وهذه المساحة متروكة للمتلقي .
أديبتنا الدكتورة : نجلاء طمان
محبتي واحترامي