أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: رؤيوية الحدث و استطالة القامة في نص ( موت آخر ) للقاصة لبنى ياسين

  1. #1
    الصورة الرمزية حاتم قاسم شاعر
    تاريخ التسجيل : May 2006
    المشاركات : 91
    المواضيع : 19
    الردود : 91
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي رؤيوية الحدث و استطالة القامة في نص ( موت آخر ) للقاصة لبنى ياسين

    رؤيوية الحدث و استطالة القامة في نص ( موت آخر )
    للقاصة لبنى ياسين
    الدارسان : حسين علي الهنداوي
    حاتم قاســــــم

    القصة : موت آخر
    لبنى ياسين
    انبثق أمامي فجأة بهامته الباسقة , لكن انحناءً ما أصاب شموخها , فأصابني بالذعر , وقفت في حضرة انكساره مندهشا حد الألم وبادرته بالسؤال :
    لمــاذا ؟ .. لمـاذا ذهبـت إلى هناك يا رجــل ؟ لماذا ورطت نفسك؟
    رفع نحوي عينين متعبتين إلى حــد الإعـياء و لم ينبس ببنت ألــم , بل تابع سحب قدميه ميّممـًا شطر منزله , لحقــت به .. و في سكون الليـل المدقـع لم يكن ثمة صوت سوى صوت اجتـثاث قـلبه من هاوية الوجع المدمر, كان في عينيه شئ ما .. شئ كسرته العتمة و محـا بريقه الألم , لم يغـب سوى شهور قاربت أن تـنهي حبلها بسنة .. لكني أحسست أن دهوراً وقـفت بيني و بينه , و كما تقابل شخصا غادرته لسنين فتحس انه صار شخصا آخر , اصبح هو شخصا آخر, هناك في داخله كان ينبت عشب بـّري يرفض اجتـثــاثـه و لو حتى بالتـنويـه .
    أوصلته حتى داره .. تراكض الجميع يرحبون بعودته ويسلمون عليه بلهفة موجعة بينما هو تائـه النظرات , لم يعـر أحـداً اهتمامه وكأنمـا فقـد القـدرة على التواصل مع العالم الخارجي وانكفـأ إلى عـوالـمه الداخلية يجــّر ذيول خيـبته وألمـه .
    تركتهم و مضيت في حال سبيلي , قـلت سآتي غـداً للاطمئنان على صحــة أغـلب الظن ما عاد يملكها , لربما استطعـت التواصل مع إنسان قـدم حواسه الخمس للتقاعــد المبكـر .
    استوقـفتـني زوجته (أختي) .. قالت لي ابقَ الليلـة عندنا فهو صديقـك المقـّرب , و لربما ساعـده بقـاؤك . .
    لكنني وجدت في ذلك إزعاجا ً سافراَ له , فقد اجتـاز مسافة طويلة للوصول إلى محافظة البرتـقـال ( ديــالى ) حيث منزله , أغـلب الظن انه يـــتوق إلى وحـدة ٍ و سـرير ٍ و ظــلام ٍ و صمــت .
    تسابقـت الأفـكار على رأسي طيلة الطريق , كيف وصل إلى مدينتـنا الصغيرة بحاله هــذا ؟ أعلى أقـدام الخيـبة أم على أجنحة الوجع ؟ و ما الشيء الفظيـع الذي مر به حتى يقـلبه إلى هذا الكائـن الغـريب في اقـل من سنة ؟؟ هـو .. الرجـل الذي كان يستـفيض مرحــًا , كان يحمل معه حقيبة الفرح أينما حل يفتحها أمامنا ..كحاو ٍ ماهر , و ينثر محتواها عبقا ً يزيح به ضباب الملل و كآبة الأيام , لم يكن ثمة رجــل بيننا أخف ظـلاً أ و أكثر ضحكا أو اقـل هـَمّاً منه .. فما الذي قـلبه بهذا الشـكل ؟؟ .
    مضيت إلى منزلي , لم أنم ليلتـها , غالبني النعاس و لم يغـلبني , و كبْوم ٍ مكابـر بقيت ساهـد الطرف سادرا ً حتى خيوط الصباح الأولى , استسلمتُ بعـدها لكوابـيس مــوت مؤلـم مدمـر .
    حلمت به .. كانت الذئـاب تطــارده مطاردة عـنيفة , ثُم أحاطت به و تكالبت عليه تنهش لحمه , رأيتهـا تهاجمه .. تعـض أطرافه فـتـتساقط أشلاؤه شـلــواً تلو الآخـر, و رأيته يعاود التـقاط أشلائـه و يضعها كيفما اتفـق لـتـلتـصق بجسـده , تـشــّوهَ شـكله .. صار أشبه بمسخ مرعب , لكنه لم يفـرط بقطعة من جسده المتمـزق ولا حتى بظفـر , ما زال الجسد جسده رغم كل التـمزق , رغم كل التشوه , و برغـم جميع الألـم .. ثم انبثــق الدم من جسده واصبح نهــراً .. جـرى نهـر دمـه بتدفـق مهـول .. فيضانـاً اقـتـلع كل ما وقف في طريقه حتى ثـلة الذئاب التي حاولت في البداية أن تشرب من نهر الدم , كان مصيرها هي الأخرى الغـرق في فيضـانه.. بينما هـو ما يزال واقفاً حيث هـو, صامداً يحاول معالجة أعضائـه الكليمة و إعادتها إلى مكانهـا . .
    أوجعـني كابوسي .. واستيقظـت غارقـاً في عـرقي بـدلاً من أن اغــرق في دمه , كنت اخـتـنــق .. واكتشفت للتــّو أن عـينـيّ لم تغـمضا لأكثر من ساعـتين .. لكن الصباح أعـلن عن إشراقـه مزيحـاً ستائر الظلماء عن وجه الكون بجيوش من أشعة الشمس. .
    ارتديت ثيابي كيفما اتفق ناسياً أن اغسل آثـار خرائب الليل و فيضاناته عن ملامح وجهي , ويـممـتُ مسرعا شطر داره ثانيـة و قد نـال مني كابوس الـدم ذا ك .
    فتحـت أختي الباب واجمة وكأنها أصيـبت منه بعـدوى الذبول و الصمت .. قـلت لها
    ــ كيف حالـــه ؟؟
    رد ت :
    ــ لا حـال لديه تسأل عـنه .. لم يـأكل .. لم يتـكلم .. لم يصغ ِ .. و لو آ ل الأمر إليه لما تنفس , ارتـمى فـوق سريره بعـد أن أغـلق الباب وراءه في محاولة لإبلاغـنا بوجوب البقاء خارجا بطريقة مهذبة , دخلت إليه بعـد قـليل فوجـدته غـارقاًً في نوم متعـب , بيـنما تجمعـت ملامح وجهه وتقـلصت وتمركـزت في منتصف وجهه , فخـرجت مغـلقة الباب ورائي لعـل النوم يزيح عنه شبح الإعياء الذي يهيمن عليه .
    اتجهتُ إلى غرفـته بعـد أن قـدّرتُ انه نام فترة مناسبة تماما لإيقاظه بعدها .. طرقت الباب , وإذ لم أتـلـقَّ جوابا فتحته بهدوء شديد و دخـلت , كان قد حرص على استضافة الظلام في غرفته بإغلاق النافذة الوحيدة و إسدال الستائر جيدا , وجدته كما وصفته أختي تماما , ولـولا إيقاع أنفاسه المتعـبة لاعتقـدتــه ميتـاً .
    هززتـه برفـق مرددا بصوت هامس :
    ــ استفق فقـد أفرد الصباح جناحــــه .
    دون أن يفتح عينيه أجابني :
    ــ أي صباح ؟ أنت تهـــذي .
    قـلــت له :
    ــ قــم وحـدثـنا , فقـد اشتـقـنا لأحاديثـك المرحــــة .
    فتح عينيه بشح ٍ شديد كأنما خاف أن يهرب منهما النوم قائلاً :
    ــ و ما نفع الكلام .. افتح الباب و انظـر خــارجاً .. هـل بعـد هـذا كله كلام يُـقــال ؟
    قـلــت له:
    ــ قــم يا رجـل ..أولادك بانتـظارك .
    قال لي :
    ــ قـلْ لهم إذن ألا ّ ينتـظروني .. فلم أعــد هـنا.
    أربكـتـني كلماته .. هـزتـني في العـمق .. بل قل أوجعـتـني , وحرت في أمره لكني احترمت رغبته و خرجت مغـلقـا ً ورائي بابـا أظنه يريـده بابا ًً لـلحــده .
    جلسنا في الصالة .. لم تكـن صالة بمعـنى هـذه الكلمة , إلا أنها مع ذلك كانت تؤدي وظـائـف الصالة وغرفة الضيوف وغرفة الطعـام معا في النهار .. أما ليلا فكان لها عمل إضافي غير مأجور إذ أنها تتحول إلى غرفة نـوم للصبيـين الكبيرين الذين تجاوزا سـن ّ الثالثة عشر فتم فصلهما عن أخواتهما الإنـاث , وخصصت هذه الصالة لنومهما بعد أن تفرغ ليلا من أشغالها الأخرى . أحضرت أختي إبريق الشاي , وجلست قبالتي , كانت تمنع دموعها من الإفلات من فتحتي عينيها و هي تسألني بسذاجة طفـل ما الذي يجري ؟؟
    بماذا أجيب و ليس لدي أي شئ يحمل بريق إجابة .
    قلت لها : صبرا يا أختي .. إنها مسألة وقت , ما مر به ليس بالقليـل ,الحمد لله انه عاد .. أما كنا قد يئسنا من ظهوره ثانية؟؟
    ردت أخـتي : حقــا ً !!! لقد أصابني اليأس من عـودته , و اعتقـدت انه ربما ... وسكتـت برهة لتنجو بنفسها من احتمال موته و لو شفهيا , ثم أضافت :
    ــ لا قـدّر الله !! الحمد لله الـذي أعـاده لنا سالما ً.
    شعـرت بوخـزة غـريبة للسخرية تمتـزج بجملة ( عاد سالما ً) .. وربما تطال وخزتها هـذه كلمــة ( عــاد ) أصلا َ, فأنا شخصيا لم أجـد شيئا عـاد منه حتى اللحظة .
    بقيت إلى جانب أختي اشد أزرها إذ لم يعـد لديّ ما أقوم به طيلة النهار سوى انتظاري اليائس لاستيقاظـه من مـوت مؤقـت يـريد أن يعتـقـده دائمـا .
    فـتـح باب غرفـته .. خرج إلينا بخطوات وئيـدة وكأنه يضنّ عـلينا بحضوره , هالني شكله في الضـوء , فلـم أكـن قد رأيتــه من خلال نـور واضح قبل اللحظـة , كان مـيتـاً يخطـو على أرجـل حـي .. كان ميتـاً حقـا ً .. و قد فقد مع فرحه كثيراً من وزن جسده المتعب... و كرشا ً كان يبارينا بها وفي عينيه تلك النظرة التي تفيض ألماً حتى فرغـت من المعـنى و امتلأت وجـعــــاً .
    لم يحفــل بنـا ولا بشيء حولــه .. لم يحاول حتى أن يخـصّ أي شئ كان قـد فارقه قرابـة السنـة بنظـرة خاصة ولا حتى زوجته المشتاقة .
    جلس على كرسيه وكأنما كان قد تركه قبل النوم فقـط , بدون كلام , فـقط بـكل ذلك البؤس المطـلّ من عينيه الذي لم تفارقـني مفـردات له حتى اللحظـة لم أفهمهـا .
    قامت أختي بتجهيز الغــذاء الذي يحـب , وربما الأصح أن أقول العشاء , نظرا لأفول الشمس مصادرة معها دفئا لم اشعر به, إلا أن إصرار أحـد منا لم يثـنه عن مقاطعتـه للطعـام .. فما عاد الطعام من اهتماماته مطلقــــاً .
    أ رِ قٌ هـو .. تـَعِـبٌ .. مهـزومٌ .. مخـنوقٌ .. متألـمٌ .. ضائـعُ ..غاضب.. لكنه حـتماً ليس بجـائع .. على الأقـل ليس إلى الطعـــــــام .
    احتراماً مني لشهيته المفقودة لكل شيء .. قاطعت بدوري الطعـام .. وأومأت لأخـتي بأن تـتركنا وحـدنا عـلّ رياح الصداقة المتينة التي ربطتـنا منذ نعومة أظفارنا تهب على هـمومه و تشد أزر رغبة دفينة في إزاحة عبء ثـقيل عن كاهله فتــأذن له بالبــوح .
    ــ هـيا يا صديقي , فأنـا بئر أسرارك كنت وما أزال .. أنا من شاركك آلامك وأفراحـك و مغامراتـك ومقالبـك وتقـلباتـك وأسـرارك الصغيـرة تـلك التي كانت يومها بحجـم المحـيـط .. ما زلت أنا رغم تقـلبات الدهـر علينا , رغـم الأوقــات الصعبة التي مرت على كل منـا , رغم كل شئ .. لم ينقـص من صداقـتـنا سوى شـوائب الزمن فازدادت متـانة مع تقــدم العـمــــــر .
    بكى صديقي , وانفرطـت لؤلؤتـان غاليتـان من عـينيه نزلـتـا باستحياء وإبـاء ذكوري على خـديه , أوجعـتـه دمعـتــاه وهـما تنهمران قسرا على مرأى مني , فما زال يريـد أن يـبدو قويا.. ربما ذلك الجانب مني الذي اصبح قريبـه بالمصاهـرة هو تحديدا ً ما أوجعه ببكائه أمامي , تمتـم بكلمات لم تكن مفهومة أبـدا .. بضع كلمات منها زايلها الغموض ففهمتهـا , لكنها وصلتني دونما ترابط كما في الكلمات المتقاطعـة , ثم انفجر بالكلام دفعة واحدة .. و أجهش بالبــكاء كمـا لم أ رَ رجلا ً يبكي من قـبل , أصبحت عباراته تأتيني متقـطعة الأوصال , أليمة الأشلاء , لكني صرت افهم و أحس كل ما كان يقوله وما لم يقـلــه , صرت اشعـر بحـواسه و أرى بعـينيـــه .
    قال لي بصوت متهدج يكاد يطغى عليه صوت أنفاسه المكلومة المتـقطعة :
    ــ تصور امرأة تـُخـلّـد انتصارها بصورة فوتوغرافية فوق عـري رجـولـتي , و تقـف بوضعـيـات فاحشة و بأخـرى مذلـّة فوق جسدي العاري , ضابط هـي في الجيش الأمريكي , لم أذق طعـما أمـّر من الذل .. و الله لم اعـرف طعـما أمــّر منه , وودتُ لو أشبعتها ضربا ... وددتُ لو قتلتها ألف مرة ... وددتُ لو متُ... لو تفجرتُ ... لو احترقتُ ... وأحرقتُ كل شئ معي , لكنني ما زلتُ حياً .
    في هـذه اللحظات بالـذات شــاركته البــكاء , أجهشت ألمــا و مرارة و وجعا .. أجهشت ذلاً .
    أردت أن اصرخ به لا تبــك ِ فالجــرح جرحي أيضا , لكن صوتي اختـنـق مع دموعي , فلم اعـد قادرًا إلاّ عـلى العـويل كالنساء .
    آه يا جـرحي الهرم وأنت تمتـد خنجرًا في الخاصرة يطال كرامتي كما طال كرامته قبلي .
    سكتَ قليلا , كنتُ أعلم أن في جعبته الكثير من الألم المتحصن خلف قسماته الموجوعة , لكنه آثر أن يذيل حديثه بالصمت ...مواريا ً عوراته النفسية خلف سكونه , بعد أن كُـِشفتْ عوراته الجسدية أمام عيون لصوص الحضارة , فرحت أغيـّر مسار الحديث صوب أطفاله عــله يسلـو , ومضات غـبيــة اختبأتُ وراءها عـندما أدمته الــذاكرة في محاولة للنيل منه ثانيـة .. إلا انه لم يكن يسمعـني .. لم يكن يـراني , كان وحــده تماما في الغــرفة .
    تركته و خرجت ... مضيت تائهاً في سواد الليل .. اختلط بكائي بعويلي بذهولي بصمتي بتشردي .. بذلي.. لم اعد اعرف من أنا.
    تتقاذفني الأزقة الضيقة و متاهات الضياع في داخلي , وددت لو خلعت حواسي الخمس ووضعتها عند اقرب جمعـية خـيرية .. فـلربما احـتاجها غـيري ليعـزز صلاته بما حوله لكي يـرى و يسمع و يحس جيــــــدا بما يـحــــد ث..و ربما كان اكثر شجاعة مني فاستطاع أن يفعل شيئا ً .
    على أطـلال خرائـبي مشــيت .. على وهــم ٍ كان اسمه أنــا .. على ذيـول الخيـبة الحـمقاء أسرج فتيـل حـزني , فــــــلا أستطيـــــــع أن احـــــــزن اكـثــــــــــــر .
    يا له من مـــــوت مفجـع ٍ أنــاخ بلعـنـتــه على كل ما حــولي .. و تركني إمعانـاً منه في تعـذيـبي و إذلالـي .. أ للمـوت مفاضلات وتفضيــل كما للحـــــــــياة ؟؟
    فـقـدتُ قـدرتي على الرؤيـة بمباركة العـتــمة التي حــلت فجــأة حولي وفي داخلي و صرت أتخبط في محاولة مستميتة لتحديد وجهتي , لكني و لدهشتي وجدت نفسي حيث أنا .. على خطوات من منزل أختي , كأني غادرتـه للـتـّو , كان نور الصالة مضـاءاً مما يعـني انه ما زال هناك يلوك أوجاعه و تلوكـــــــــــه .
    أحنيت شموخ رأسي بألم مخيف و مضيت صامتا نحو منزلي , مشّيعا بقايا أمل باغتني يوما ما , لا اعرف من أين أتى , لكنني اعلم تماما كيف مات .
    --------------------------------------
    ديالــى : محافظة في العراق مشهورة بالبرتقال.
    ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــ
    الدراسة النقدية :
    =======

    في قراءة لنص مثل نص ( موت آخر ) للقاصة لبنى ياسين تحلق الأجنحة و تطير في أجواز السماء و لكنها تعود أدراجها لتدخل مغاور النفس وتسبر الأنفاس و يبقى المكان يسجل الحضور بلغة شعرية في مونولوج داخلي و حركة دائرية تتسع للحدث عبر منهجية دراماتيكية ترصدها الكاتبة وتبحث فيها عن الذات التائهة في تضاريسها النفسية وفق معطيات تعكس بارتدادها منهجاًَ سيكولوجيا توظفه بنمط سلوكي يحمل هموم الوطن ويبحر في أشرعته ، فمرارة الأيام وقسوة العيش تحت وطأة المحتل تبرزها الكاتبة و تشكل لنا خطها البياني فالوجوم المطبق لشخصية الحوار يجعل أعباءه ثقيلة بظواهرها النفسية التي افتقدت شمسها وربيعها الداخلي لتغوص في مدارات اللانهاية
    ((انبثق أمامي فجأة بهامته الباسقة , لكن انحناءً ما أصاب شموخها , فأصابني بالذعر , وقفت في حضرة انكساره مندهشا حد الألم ))
    00 ذاكرة الحزن المؤلم المحفور على جدرانها ترانيم الطفولة و أراجيح الذات الملتهبة 00 تحاول الكاتبة أن تزيل ستار الصمت عن جفون صديقها وزوج أختها لكن أروقة الصمت التي تزيح عن الجفون نعاسها و تعلل للذات ظواهر الحزن تعكس بمرآتها هما يعيشه الناس
    ((ــ لا حـال لديه تسأل عـنه .. لم يـأكل .. لم يتـكلم .. لم يصغ ِ .. و لو آ ل الأمر إليه لما تنفس , ارتـمى فـوق سريره بعـد أن أغـلق الباب وراءه في محاولة لإبلاغـنا بوجوب البقاء خارجا بطريقة مهذبة ,))
    ينحدر بنا الخط البياني من صورة ألفتها النفس لصورة تعكس الوجه الآخر بمظاهره الحسية التي تعايش الحزن لتصنع منه أيقونة التفاعل لتعزف لحنها المنفرد على وتر الذات التي تبحث عن كينونة الوطن بين مسامات الأوردة و فضاءات الروح التي تأبى الذل و الانكسار لينطلق الصوت ببوح تغمره الدموع بقوسها القزحي لتشكل خارطة الوطن فوق وجنتيه 000
    ((قال لي بصوت متهدج يكاد يطغى عليه صوت أنفاسه المكلومة المتـقطعة :
    ــ تصور امرأة تـُخـلّـد انتصارها بصورة فوتوغرافية فوق عـري رجـولـتي , و تقـف بوضعـيـات فاحشة و بأخـرى مذلـّة فوق جسدي العاري , ضابط هـي في الجيش الأمريكي , لم أذق طعـما أمـّر من الذل .. و الله لم اعـرف طعـما أمــّر منه , وودتُ لو أشبعتها ضربا ... وددتُ لو قتلتها ألف مرة ... وددتُ لو متُ... لو تفجرتُ ... لو احترقتُ ... وأحرقتُ كل شئ معي , لكنني ما زلتُ حياً ((.
    نتوقف جليا بين الحروف نفتش عن شعاع يعيد للشمس حرارة النهار فالجسد العاري المكلوء بذل العيش يتوازى ببعده الأفقي مع الحزن وزفراته التي سمتها الكاتبة بالعورة الجسدية ( الدموع ) و أما العورة النفسية التي تسكن في حنايا الصدر فما زال بوحها خلف السكون و الكاتبة تبحث عن أشعة هناك بين الدموع في خزانات الحزن لتكشف لنا الغطاء عن لصوص الحضارة 0
    ((سكتَ قليلا , كنتُ أعلم أن في جعبته الكثير من الألم المتحصن خلف قسماته الموجوعة , لكنه آثر أن يذيل حديثه بالصمت ...مواريا ً عوراته النفسية خلف سكونه , بعد أن كُـِشفتْ عوراته الجسدية أمام عيون لصوص الحضارة ))
    وبين الأزقة الضيقة وأنهار الحزن ومتاهات الضياع التي تتقاطع على تلافيف الذاكرة تخلع الكاتبة حواسها التي تشكل كينونتها النفسية و الاجتماعية و تبحث في معالمها عن انسان آخر لربما يكون شعاع الشمس الذي يحمل تحت إساره الشجاعة
    تتقاذفني الأزقة الضيقة و متاهات الضياع في داخلي , وددت لو خلعت حواسي الخمس ووضعتها عند اقرب جمعـية خـيرية .. فـلربما احـتاجها غـيري ليعـزز صلاته بما حوله لكي يـرى و يسمع و يحس جيــــــدا بما يـحــــد ث..و ربما كان اكثر شجاعة مني فاستطاع أن يفعل شيئا ً .
    من لوحة العزف المنفرد إلى كينونة الذات الملتهبة التي تبحث بين أناتها عن زفير يتجاوز أطلال الخرائب و يسمو على وهم الذات ليخلصها من ذيول الانكسار و الخيبة 00 ويبقى سراج الأمل يوقد فتيل الذاكرة بشلالات الحزن و أما الأشعة المنبثقة فيعلو صوتها على لسان الكاتبة :
    (( على أطـلال خرائـبي مشــيت .. على وهــم ٍ كان اسمه أنــا .. على ذيـول الخيـبة الحـمقاء أسرج فتيـل حـزني , فــــــلا أستطيـــــــع أن احـــــــزن اكـثــــــــــــر .
    يا له من مـــــوت مفجـع ٍ أنــاخ بلعـنـتــه على كل ما حــولي .. و تركني إمعانـاً منه في تعـذيـبي و إذلالـي .. أ للمـوت مفاضلات وتفضيــل كما للحـــــــــياة ؟؟ ((
    على إيقاع الزفرات المتصاعدة ينام الوطن ببرتقال( ديالى) ليلون المشهد بلونه التصاعدي ، فالزفرات الممتدة من خاصرة الوجع إلى جدران القلب تلامس تلافيف الذاكرة لتبدأ دورتها الديناميكية بربط الهاجس النفسي بفداء الوطن من خلال (مفاضلات ) أطلقتها الكاتبة بين الموت و الحياة 00 قصة تأخذنا بين بوحها و مفرداتها لتسجل حضورها بكل تميز على جدران الذاكرة
    و القاصة بانسجامية مفرداتها و أبعاد تراكيبها و إصابتها للهدف تبدو باحثة عن إعادة أجزاء الوطن إلى الأم ( العراق ) الذي تقطعت أشلاؤه و أصبح متناوشاً بين أنياب الذئاب الداخلية و الخارجية التي تريد أن تفوز بحصة من لحمه السمين و كأننا بالقاصة تريد أن تؤطر لوحدوية عربية لا يمكن فصل عرى جسدها فالعراق مذبوح و الوطن العربي مبعثر بين آلامه إنها تعيد للذاكرة صورة البطل العربي ( عنترة ) الذي حمى قومه حياً و ميتا ً
    (حلمت به .. كانت الذئـاب تطــارده مطاردة عـنيفة , ثُم أحاطت به و تكالبت عليه تنهش لحمه , رأيتهـا تهاجمه .. تعـض أطرافه فـتـتساقط أشلاؤه شـلــواً تلو الآخـر, و رأيته يعاود التـقاط أشلائـه و يضعها كيفما اتفـق لـتـلتـصق بجسـده , تـشــّوهَ شـكله .. صار أشبه بمسخ مرعب , لكنه لم يفـرط بقطعة من جسده )
    وهذه هي الأشلاء تتساقط شلواً فشلواً 000000000 و الفاجعة بانتظار موعود آخر
    البناء الفني لنص ( موت أخر )
    يبدو أن مجموعة القاصة لبنى ياسين المعنونة ب ( طقوس متوحشة ) تحمل في ذاكرة النقد بعداً خيالياً من جهة و رؤيويا ً من جهة أخرى فالطقوس التي هي عبادة و استئناس تتوحش في ذاكرة الإنسان الذي أصبح قاتلاً و مقتولاً في آن واحد و هي في صفحة الخيال مخلوقات مفترسة تبحث عن دم لا تفتأ تستعذب طعم حرارته و ملوحته و الحديث عن نص ( موت آخر ) بكل أبعاده يحتاج إلى مسافة ماراثونية لذلك سنشير إلى البعد الخيالي الذي حملته القاصة و الذي طار بعباراتها عبر أدغال النفس الإنسانية فصور لنا هذه النفس و جموحاتها بأبعاد درامية مفجعة
    (كان في عينيه شئ ما .. شئ كسرته العتمة و محـا بريقه الألم )
    ارتديت ثيابي كيفما اتفق ناسياً أن اغسل آثـار خرائب الليل و فيضاناته عن ملامح وجهي )
    (بكى صديقي , وانفرطـت لؤلؤتـان غاليتـان من عـينيه نزلـتـا باستحياء وإبـاء ذكوري على خـديه , أوجعـتـه دمعـتــاه وهـما تنهمران قسرا على مرأى مني)
    (مواريا ً عوراته النفسية خلف سكونه , بعد أن كُـِشفتْ عوراته الجسدية أمام عيون لصوص الحضارة )
    و هي بذلك تبدو على العكس من القاصات العربيات التي تحولت نصوصهن إلى مجرد خواطر و ذكريات تبني نصها بناءً فنياً على غرار البناء الفني الشعري و نحن جميعاً نعرف أن شاعرية الشاعر و إبداعية القاص لا تظهر إلا من خلال الأجنحة الخيالية التي يرسمها المبدع لنفسه و يطير بها في آفاق الفضاء 0000 صور لا تحتاج إلى من يفتق عناصرها و لكنها تستدعي ذاكرة القارئ ليتمتع بمعطياتها و أبعادها 0 إنها رؤيوية الكاتبة التي جعلت من ( ديالى ) هذه الواحة التي تسحب شعرها البرتقالي على أكتاف العراق الماجدة العربية التي تحمل السلاح في وجه أعدائها و لا يمكن لنص كهذا إلا أن يكون الطائر المحلق في ســـماء الإبداع العربي ( ذاكرة و إبداع و استطالة في القامة ) وذا ما يجعلنا نؤكد على الذراع الممتدة للكاتبة في الوصول إلى أهدافها من خلال نصوص هادفة و لكنها خلاقة 0

  2. #2
    الصورة الرمزية عبد القادر رابحي شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 1,735
    المواضيع : 44
    الردود : 1735
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    الأخوان حسين علي الهنداوي
    و
    حاتم قاســــــم
    تحياتي الخالصة
    قراءة هادئة
    و واعية
    تحاول الوصول إلى مغاور النص
    في قصة(موت آخر)
    للكاتبة لبنى ياسين..
    بارك الله فيكما على هذا المجهود العلمي
    عبد القادر رابحي

  3. #3
    عضو مخالف
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    العمر : 42
    المشاركات : 1,799
    المواضيع : 128
    الردود : 1799
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    أيها الناقدان البارعان ..
    تحية طيبة لكما ..
    أمتعني وجودكما الحي في تلك القراءة..
    ومررت أقدم شكري خالصا لمجهودكما الكبير..
    والقراءة بعد إذن الكرام
    رغم طول المدة على نشرها
    للتثبيت
    أثارني الأسلوب والروح مهما اختلفنا في بعض أشياء..
    وأكد لي رأيي رأيُ أستاذنا الحبيب الدكتور عبد القادر
    جزاكم الله خيرا، ونسأل الله أن يكون العمل في ميزان حسناتكم..
    ونسألكم مزيداً من إفادتنا بعلمكم وطاقاتكم النقدية..

المواضيع المتشابهه

  1. قصة أعجبتني للقاصة العربية زكية علال (نزيف آخر الشرايين)
    بواسطة زاهية في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 25-01-2023, 01:30 PM
  2. القامة
    بواسطة فايدة حسن في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 23-11-2015, 07:42 PM
  3. تجليات رؤيوية فى شعر العامية
    بواسطة جمال سعد محمد في المنتدى قَضَايَا أَدَبِيَّةٌ وَثَقَافِيَّةٌ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 16-04-2010, 02:28 PM
  4. @ موت بلا .. موت @
    بواسطة منى محمود حسان في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 12-12-2006, 03:39 PM
  5. قصائد قصيرة القامة لعزت الطيرى
    بواسطة عزت الطيرى في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-04-2006, 04:10 PM