"يسرني سيداتي آنساتي..أن أقص عليكن حكايتي، أنا الزوجة والأم التي مضى على زواجها ثلاثة عقود كاملة، لم يرتفع خلال هذه الفترة الطويلة صوت لي، لم أتذمر، لم أشك من سوء طالعي، أو أندب تعثر حظي، قضيت هذه الأعوام وأنا شبه راضية، وإن لم أكن سعيدة، فلماذا أشكو؟"ص14 قصة "استغاثة".

أول ما يحضننا في مجموعة لائحة الاتهام تطول، الغلاف، حيث استلقى رسم لخارطة العراق المشار إليه باللون الأخضر علامة الخصب والعطاء، خلف قضبان الأسر أو لنقل هنا في قفص الاتهام. كما تطالعنا أشجار نخيل كسر وجرف بعضها في حين وقف بعضها الآخر مقاوماً الريح والكسر و الانجراف.
وحيث كتب العنوان، وهو مستفز، باللون الأحمر. فالأمر جدي وخطير. والأحمر لون الدم المنثور بين دفتي الكتاب وهو لون الثورة أيضاً التي تنظّر لها القاصة في مجموعتها التي تعتبر ثالث عنوان تصدره بعد "التمثال" و"امرأة سيئة السمعة".
سأذهب مع طرح أننا إزاء محاكمة لائحة الاتهام تطول فيها حيث تستعرض القاصة بلغة شفيفة تنحو الوضوح والرمز المكشوف، نماذج لشخوص ميسمها التشظي والانكسار، قاسمها المشترك المعاناة والتأزم والرزح تحت وطأة الظلم والطغيان.
تراوح نصوص المجموعة التسعة عشر بين ملامستها للذات وبين مقاربتها من عوالقها ومحيطها. وتنتصب المرأة فيها بمختلف وظائفها المتشابكة ومهنها المربكة التي يفرضها عليها واقع ذكوري جائر وسياسي مستبد. هي الزوجة المتفانية التي لم تسمع أبداً كلمة شكر. كل تضحياتها تقابل بلا مبالاة قاتلة مدمرة.
"الشخير يتعالى، وأنا غرسة ظمأى في صحراء روحي وبدني، أجدبت حدائقي، وأصفرت أوراقها، وتساقطت،ضمرت أيامي، وتضاعفت أسقام قلبي، شل لساني، أضحى متقوقعاً، ينشد الخلوة، بعد أن باءت أحلامه باخضرار ربوعه وازدهارها بالفشل.
تناسيت هزائمي،تفاءلت بإمكانية اندمال جراحي، آليت على نفسي أن أناضل لاسترداد حقوقي، والشخير يتعالى، يتضخم، ارتديت أنوثتي، واستعنت بقارورة عطري، والشخير يتزايد".ص52، قصة "ما عاد لك".
وهي الأم التي تزوج الأبناء لتخلص إلى الوحدة مع رجل ممعن في غيابه حتى في أكثر صوره حضوراً ليصير ابنها الشارد الدائم. "يقرأ بنهم، يشعل شمعة في الليل لتضيء له أثناء القراءة، يستولي عليه النعاس، ويأخذه بين أحضانه، تأتي هي على رؤوس أصابعها، تبعد الكتاب من بين يديه، وتطفئ الشمعة الموقدة، وتغطيه خشية من البرد، ثم تذهب إلى سريرها في الغرفة الأخرى" ص28 قصة "تراجع عن قرار".
وهي المواطنة التي تنتمي إلى وطن الجرح والنزيف، والقاصة تهدي كتابها لوطنها الذي تدين له بكل شيء جميل.
ما يميز المجموعة التي بين أيدينا، هي أن الساردة فيها لا تتوقف عند تشخيص الداء أو وضع أصبعها على الجرح المنكأ، بل لكأني بها تعمل مبضعها محاولة استئصاله وعزله عن كل الجسد. فعلى الرغم من الملمح الظاهر لليأس والقنوط، إلا أن القارئ المتتبع لأحداث المجموعة يتمثل بارقة ضوء بعيدة تلوح عند نهاية كل قصة. كذلك الحال بالنسبة لكل العمل الذي يستهل بــ"أرق ونحيب مكتوم" ليختتم بـــ"أراجيح العيد".
نعم، المجموعة هنا محاكمة نصبتها القاصة المتميزة صبيحة شبر ولائحة الاتهام تطول فيها. الكل مدان، الرجل، الوطن، المجتمع، وأيضاً المرأة لخنوعها واستسلامها. الحكم والقاضي القارئ وحده.
رفعت الجلسة.


عبدالسلام المودني.