فرقة الأنصار.. نشيد الدم والدموع والشهادة!

فرقة الأنصار.. نشيد الدم والدموع والشهادة!

21/08/2003
فلسطين/ ياسر البنا




كبّر الجمهور كما هي العادة في حفلات الزفاف الإسلامية التي يقيمها الفلسطينيون المتدينون، واصطف المنشدون كي يؤدوا نشيدهم المفضل "عهدا يا شهيد".. فتفاعل الجمهور مع الأنشودة وكلماتها التي تقطع العهد مع الشهيد بالسير على الدرب المقدس الذي اختاره الشهداء للعروج نحو السماء.. حتى إن الجمهور نسي من غمرة الحماسة أنه يشارك في حفل زفاف، وربما خيل إليه أنه يهتف للمقاومة في مهرجان تأبين شهيد.

انتهت الفقرة بشكل عادي؛ فكل الفرق الإسلامية تنشد للجهاد والبطولة والشهادة. ولم تكن فرقة "الأنصار للنشيد الإسلامي" التي أحيت ذلك الحفل تتميز عن غيرها من الفرق كثيرا، إلا أن قدر الله كان يخبئ لها مكانة مميزة فاقت كل فرق الإنشاد عراقة، وتألق منشدوها فتميزوا عن كافة المنشدين.

من هم الأنصار؟.. القصة من بدايتها

في شهر رمضان المبارك لعام 1411 هـ (فبراير 1990م) قرر عدد من الفنانين الملتزمين تأسيس فرقة إسلامية لإحياء المناسبات الدينية الكثيرة التي يشتهر بها شهر الجهاد والتضحية، لا سيما أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت في أوجها، وكان لا يمر يوم إلا ويسقط فيه شهيد، أو تنفذ فيه عملية فدائية، وكانت مدينة طولكرم خالية تماما من أي فرقة فنية إسلامية.. فقرر الشباب العمل والتحضير لإقامة احتفال بيوم غزوة بدر الكبرى في 17 من رمضان.

بدأ الشبان في مسجد الحي (مسجد السلام) لملمة "الأصوات" وعمل البروفات، وكانت البداية طيبة ومشجعة. واختار الجميع لفرقتهم اسم "الأنصار" تيمنا بأنصار رسول الله في "المدينة المنورة".

وتفاوت عدد أعضاء الفرقة من سنة إلى أخرى ما بين 6- 8 ولكل منهم صوت خاص، فجمعت الفرقة بين الأصوات الرخيمة، والروحانية، والجبلية، والزجلية، وأصوات الأشبال (الرقيقة). كل هذا امتزج كي يلهب حماس الجمهور إعجابا ودهشة.

واختارت الأنصار أناشيد الأعراس والزجل والدبكة، وأناشيد المناسبات والمهرجانات الحماسية، وشاركت الفرقة في كثير من المهرجانات في كافة أرجاء الوطن باستثناء (قطاع غزة) الذي لم تسمح لهم قوات الاحتلال بدخوله.

وحاولت "الأنصار" منذ البداية تسجيل أناشيدها على أشرطة كاسيت وطرحها للبيع في الأسواق، إلا أنه في كل مرة يتفرغ فيها أعضاء الفرقة لدخول الأستوديو كان يتم اعتقال بعض أفرادها، أو حتى جميعهم من قبل قوات الاحتلال، كما حصل في عامي 1995، و2001.

وللفرقة شعراء داخل فلسطين وخارجها، يكتبون لها كلمات الأناشيد الخاصة بينما يتولى آخرون تلحينها، فقد غنت الفرقة لشعراء عراقيين وأردنيين وفلسطينيين، منهم الأستاذ ناجي صبحة، والأستاذ الشاعر خالد سعيد، والدكتور زهير سيف.

تميّز الأنصار

إلى هنا تبدو الأنصار كغيرها من الفرق غير أن قدر الله تعالى كان يخبئ للأنصار مكانة مميزة، وكانت البداية عندما غيّرت الفرقة مسار رحلاتها من الجنوب إلى الشمال، فقد كانت الفرقة التي يقطن أعضاؤها في طولكرم كما أسلفنا، والواقعة على الحد الفاصل بين الضفة الغربية وفلسطين المحتلة عام 1948 تتجه في سفرها دوما نحو الجنوب لإحياء الحفلات الإسلامية هناك في مدن ومخيمات الضفة الغربية، وإن كانت قلوب أعضائها تحوم هناك.. في حيفا ويافا واللد والرملة.

ولكون أعضاء الفرقة لا يملكون التصريح اللازم للسفر إلى هناك.. إلى شمال فلسطين المحتلة عام 1948 لإحياء الحفلات، أقدم المنشد الأنصاري "أحمد عليان" (1) – الذي كان يعمل مؤذنا لمسجد أبي عبيدة بن الجراح بطولكرم والحافظ لـ 25 جزءا من كتاب الله- أقدم على التسلل عبر الخط الأخضر ليصل سوق نتانيا شمال فلسطين المحتلة المقامة على أراضي قرية أم خالد المدمرة.

هذه المرة استبدل أحمد الميكرفون.. بكبسة كهربائية "تماما كالميكروفون"، ولم يسمح لأحد أن يقدمه للجمهور، بل بادر هو للتقدم، وضغط الكبسة بعد أنهى النطق بالشهادتين، وسكت أحمد عن الكلام فهو نجم الاحتفال، ولم يكن يليق به أن ينشد فترك النشيد، بل دعنا نقول: ترك لغيره أن ينشد له.

الأنصاري الثاني

في طولكرم القريبة من نتانيا، أنشد أنصاري آخر "عهدا يا شهيد" مرة أخرى، وبطريقة أكثر نجاعة، كان هذا البطل "عبد الباسط عودة" (2) أحد مؤسسي الفرقة، ومنشدها الوسيم.. يهمس عبد الباسط في أذن صديق له أنه لن يرضى بأقل من نجومية أخيه أحمد عليان، ويصل طلبه إلى المعنيين، فيجتمعون به، ويخبرونه بالموافقة على طلبه، فتملأ الفرحة نفسه وترتسم على قسمات وجهه الجميل.. ولكن يطول انتظار عبد الباسط، ويكاد صبره ينفد وهو يسمع ذات الجواب في كل مرة يسأل فيها عن دوره متى سيأتي؟: "اصبر قليلا يا عبد الباسط في الوقت المناسب سنتصل بك".

بعد 8 أشهر يحين الوقت، ويتوجه أحد القساميين إلى المنشد الوسيم، ويسأله عن الوقت المناسب له كي ينفذ المطلوب منه.. لم يصدق عبد الباسط أذنيه، وأخذ قلبه يخفق بشدة، وسرت قشعريرة في بدنه الذي أحس بقوة هائلة تسري في أنحائه.. "آه يا ريح الجنة ما أطيبك"، قال عبد الباسط وعلى الفور أجاب: "أنا جاهز الآن وفورا".

وتبدأ التجهيزات وتتم بسرعة، فالأمور تبدو ميسرة ليصل عبد الباسط إلى فندق بارك مساء 29 مارس آذار 2002، وهناك أنشد الأنصاري عبد الباسط نشيده المفضل "عهدا يا شهيد" لكن بلحن جديد، وتوزيع جديد، جعلت من عمليته واحدة من كبرى عمليات الثأر التي شهدتها فلسطين حتى هذه اللحظة.

الأنصار يواصلون الطريق

وتستمر مسيرة الأنصار، فقد كان المنشد "نضال قلق" (3) هو الآخر قد بدأ سيره نحو تحويل الكلمات التي طالما ألهب مشاعر الجمهور بها إلى أفعال، كيف لا وقد طبقها من قبله "أحمد وعبد الباسط"، ولكن كيف ومتى؟ لم يعرف نضال الجواب.. اشتعلت نفسه شوقا، وكوى لهيب الغضب نفسه القريحة الباحثة عن الخلود، ويوما بعد يوم أخذ يشعر كأن القلق يلتهمه وبدا التوتر الشديد واضحا عليه.

وأخيرا.. هدأت روح نضال بعد أن تلقى وعدا بأن انتظاره لن يطول، وأنه سيكون "الأنصاري" القادم والمنشد الآتي، إلا أن قدر الله أراد لنضال (الذي كان يستعد لتنفيذ عملية استشهادية) أمرا آخر، فقد وقع في كمين نصبته له وحدة خاصة إسرائيلية، بعد أن أصبح واضحا لأجهزة استخبارات العدو أن "الأنصار" قد غيرت ألحانها، وباتت لا يحلو لها النشيد إلا على صوت القنابل وأزيز الرصاص.

بيعة الأنصار

وأكمل "الأنصار" مشوار تنفيذ بنود البيعة التي عقدوها مع ربهم هناك تحت ظل شجرة الزيتون الرومية الضخمة الضاربة بجذورها بعيدا في الأرض، والتي اختاروها مقرا لاجتماعاتهم.

عندما توجه "نصر" إلى نابلس طرأ تغيير كبير على مجرى حياته، حتى إنه لم يعد ينشد كعادته، بل ظل صامتا ولسان حاله يقول:

لغة الدماء لغتي وليس سوى الدما

أنا عن فنون القول قد أغلقت الفما

وتركت للرشــاش أن يتكلما

ليحيل أوكار عدونا لجهنما

وبعد 7 أيام من الصمود ارتقى خلالها عشرات الشهداء، نفدت ذخيرة "نصر"، وأرهق القتال والسهر المتواصل جسده، وإن كانا لم ينالا من عزيمته، فوقع أسيرا، وأبى إلا أن يكمل أنشودة الأنصار الخالدة هذه المرة في محاكمة عسكرية قضت عليه بالسجن المؤبد 29 مرة (المؤبد العسكري الإسرائيلي 99 سنة)، قابلها نصر بابتسامة سخرية وصيحة تكبير رددها نصر لأمه التي وقفت لتزغرد مرفوعة الرأس، تاركة ضباط العدو ومسئوليه حائرين مذهولين من رد فعل المرأة.

ولم يبق من منشدي الأنصار اليوم إلا (رائد) ابن الـ15 ربيعا، يحدق في ألبوم صوره مع رفاق دربه الذين مضوا وتركوه وحيدا حينما كان أصغر أعضاء الفرقة يقف على منصة المسرح إلى جوار إخوانه كالشبل يرقب خطوات الأسود، مرددا خلفهم أهازيج المقاومة، ها هو يردد اليوم بصوت حزين:

قد قسّم الدهر أحبابي فنصفهمو طواه سجن ولفّ النصف أكفان

نهاية تراجيدية، هي قصة تفرق "الأنصار" ما بين أسير وشهيد على طريق وفائهم لعهد قطعوه على أنفسهم حينما أنشدوا معا "عهدا يا شهيد"، فقد نطقتها قلوبهم قبل ألسنتهم فتعاهدوا على تنفيذ العهد.. قصة يصعب تصديقها في زماننا هذا، لكنها حتما تعيد إلينا الأمل بأن ليل العرب ليس بتلك الحلكة التي يتحدثون عنها.

الهوامش:

(1) استشهد أحمد عليان من سكان مخيم نور شمس قضاء طولكرم ابن كتائب الشهيد عز الدين القسام التابعة لحركة حماس بتاريخ 4-3-2001 في عملية استشهادية في سوق مزدحم بمدينة نتانيا عندما فجر حزاما ناسفا كان يتمنطق به يزن 4 كجم من مادة شديدة الانفجار ومشكلة بطريقة هندسية، فقتل 3 إسرائيليين وجرح 70 آخرين.

(2) ولد الشهيد عبد الباسط عودة بتاريخ 29-3-1977، وكان أحد المطلوبين للمخابرات الصهيونية في مدينة طولكرم في الضفة الغربية، ونفذ بتاريخ 29-3-2002 كبرى العمليات الاستشهادية على الإطلاق، حيث قتل فيها 30 إسرائيليا وجرح المئات.

(3) كان نضال قلق من مجموعة الاستشهادي عبد الباسط عودة، وكان من المفترض أن ينفذ العملية التالية لعملية عودة، وحاولت الخلية إرساله، حيث تم شراء المعدات اللازمة له، لكن العملية لم تدخل حيز التنفيذ لأسباب تقنية، وبسبب اعتقال "قلق" على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي.

كثر الله امثالهم وجزاك الله خير اخي عدنان

عزائنا انهم عند ربهم يرزقون

ودمت بخير

سرني مرورك أخيتي نادية

بوركت

يستحق هؤلاء الأبطال أن يكتب عنهم ..

تقبلهم الله شهداء ، وجعلهم أطيارا في جنة خلده ..

أخي عدنان بارك الله بك على هذا العمل في نشر جهاد أبطال فلسطين ، اللذين تركو متاع الدنيا ليقدموا زهرة الشباب في سبيل الله والوطن .

عسى الله أن يلحقنا بهم ..
اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك وسبيل دينك ..

بارك الله فيك أيتها السيدة الكريمة وفاء لجميل مرورك وكلامك الطيب

شكراً لك