أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 14

الموضوع: قصة قصير : حلوق حارة

  1. #1
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    المشاركات : 191
    المواضيع : 44
    الردود : 191
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي قصة قصير : حلوق حارة

    قصة قصيرة : حلوق حارة بقلم د. مصطفى عطية جمعة

    تطلع النوخذة " صالح " إلى المياه التى أذابت في شفافيتها لون السماء . و هي تداعب جنبات السفينة الثابتة في مكانها منذ أيام ، بعرض البحر . يتكسر اللون الأبيض و الأزرق مع الطحالب الطافية . السكون يتحرك من أعماق الماء طافيًا . يحلّق إلي الكون الانهائي ، فيكسوه بالصمت . يتأمل تجاعيد أصابعه المتشبثة بأحد حبال السفينة . يداه السمراوان بفعل لفح الشمس ، تعكسان مرور السنين . منذ حادثته مع الأمواج ، روى له أبوه كيف ألقي به في البحر ولا تزال براءته عمرها شهور . صرخت أمه و استحال لونها مثل " الكركم " ، و فغرت فمها ، و الدموع تملحت بعينيها . قال الأب : " ستحفظه الملائكة يا " أم صالح " و سيباركه البحر " .

    ظل يتهادى على الأمواج و طمأنينة تُسيّل نفحاتها حولـه ، فتحيل بكاءه إلى انبساط ، ثم أطلقت أمه زغرودة .

    رفع بصره للسماء ، سحابة تتجمع في بطء تتأرجح مترددة في تلاقيها ؛ فلا ريح . أشرعة سفينتهم تستجدي كتل الهواء ، يديرونها للجهات الأربع و هي في انتصابها بنسيجها المفرود و البحـارة يتسمّـرون منذ تنفس الفجر ، و يستمرون مع تلظى الشمس رويدًا . . . رويدًا ، و حين تتمركز الأشعة السماء يهربون إلى باطن السفينة. . ولكن “ النُوخَذة “ يبقي متعلقا بالحبل ، مبتسمًا للسماء ، يناجيها ، و اللسان صامت ، و المآقي تتقلّب ، فاليقين يجري بدمائه منذ نعومة أنامله ،
    صهريج الماء يتناقص بمرور السويعات ، يتجمعون على رشفات منه محسوبة ، طعامهم أسماك ، لازمت أنوفهم رائحة شوائها دومًا .
    تتسرب الساعات . . و الأيام و الماء . . بضع سنتيمترات . . قطرات . . ثم . . . اهتزت الأحداق . . أشار نحو المخزن ، قائلاً :
    - تركنا هنا بضعة آلاف من ثمار جوز الهند ، التي شحناها من إحدى الجزر ، وزعوا الثمرات ، كل بحّار له واحدة في يومه . . يرتشف عصيرها .
    تدافعوا ، بنهم في امتصاصها . . هل ستكفي ؟
    بحّار يلقي بثمرة فارغة في الماء ، يرميها بقوة ، تطير ، هل يراسل بها الريح الخامدة ، هل يهمس بها للهواء . . ؟ . . يفصح بها عما في صدره ؟
    صاح فيه ، و فيهم :
    - حافظوا على الثمرات الفارغة .
    كومتان لجوز الهند : كومـة تتنـاقص و أخرى تتـزايد . السويعات بطيئة في سكونها ، الليل سواده ممزق بأنجم سهرت على مناجاة صدورهم و انفلات ذكرياتهم . . هناك على الشاطئ ، أولادهم و بناتهم يتأملون الأفق في نقطة التقائه بالأمواج ، علّه مع بزوغ شمس أو أفولها تظهر نغمات أشرعة سفينتهم العائدة ، فتنطلق صرخات الفرح . . ثم ترتمي الأجساد الصغيرة على صدور الآباء السمراء ، و يغدون لأكواخهم حيث أزواجهم في حبور ، و أمهاتهم قبضن طوال فترة الغياب على أفئدتهن ، في حين رسمت وجوههن رباطة الجأش .

    يتسلل " صالح " من مخدعه ، يتنسم الهواء المشبع بالرذاذ ، يستشعر طعم الرطوبة في رئتيه . يبلل وجهه و مرفقيه و قدميه ، يستطعم ملوحة الماء بين شفتيه ، . . . يطيل ركوعه ، يصمت في سجوده تاركًا دقات فؤاده تعلو . . . .
    كومة الثمرات الفارغة ارتفعت و الأخرى تلاشت ، تحلّقوا حوله . . كلمات “ النُوخَذة “ قليلة :
    - ليس أمامنا سوى الشموخ ، سنشعل الثمرات الفارغة ، بعد تجفيفها و نقوم بتقطير ماء البحر ، و لا يزيد الواحد في شربته عن رشفة واحدة و له نصف كوب في اليوم .
    الصبر عقد مآقيهم ؛ فثبتت تطالع البخار المتصاعد من القدر و المتكاثف على لوح نحاسي ، القطرات تنزلق على اللوح تحمل كل قطرة حياة ، أحشاؤهم تخرج حرارة تلفح وجناتهم ، تعالى غضب الشمس . كومة الثمرات تتناقص .
    تفلتت الليالي ، الذكرى تجثم على النفوس ، الكلام محتبس ، زفير طويل ملتهب . الكومة . . . . صارت رمادًا .

    على ظهر السفينة استلقوا ، يرطبون شفاههم بالماء المالح ، ركوعهم و سجودهم في جلوسهم . . تُستَحرّ المناجاة على الألسن .
    " صالح " ، دقات فؤاده صاخبة ، مع كلمات أبيه التي ترن في مسامعه ، الآن :
    " الملائكة ستحفظك ، و سيباركك البحر " .
    يستشعر هفهفات أجنحتها تداعب روحه .

    يركعون و يسجدون بجفونهم ، و الأحداق تناجي ، و الشفاه ابيضت لترسب الملح عليها ، . . يضحك " صالح " الأجنحة البيضاء تحمل البشرى ، رذاذًا باردًا يقطر في فمه ، يتجلى أبوه بنظراته الحانية .
    دفقات الريح ، السحب تتجمع تتزاحم في طبقات ، المطر يغرق ثيابهم ، يذيب ملوحة أفواههم ، يتوغلها ليرطب الأحشاء .
    كتل الهواء تملأ الأشرعة . الجفون تستسلم مع اهتزاز السفينة التي تمخر الأمواج .

  2. #2
    الصورة الرمزية د. سلطان الحريري أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2003
    الدولة : الكويت
    العمر : 58
    المشاركات : 2,954
    المواضيع : 132
    الردود : 2954
    المعدل اليومي : 0.39

    افتراضي

    أخي الحبيب الدكتور مصطفى عطية :
    قصة رائعة أحجز فيها مكانا لعودة قريبة ، واسمح لي أيضا بتحيتك من جديد ، وأن أقوم بنقل قصتك الثانية إلى المنقولات المؤقتة ؛ لتأخذ كل منهما حقها في الرد ، فقصتان دفعة واحدة ستفسد إحداهما على الأخرى ألق الردود .
    لك خالص ود أخيك
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    المشاركات : 191
    المواضيع : 44
    الردود : 191
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    الصديق العزيز / د. سلطان الحريري
    السلام عليك ورحمة الله وبركاته
    أشكرك جزيل الشكر على مرورك الأولي وفي انتظار مرورك الثاني وقراءتك للقصة .
    أحييك على نقل القصة الثانية للمؤقت ، وأقدّر الغرض الذي قمت به ، فهو ينم عن متابعة فاعلة لما ينشر في المنتدى .
    خالص شكري ، وعميق تمنياتي بالخيرات لشخصك الجميل .

  4. #4
    عضو مخالف
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    العمر : 42
    المشاركات : 1,799
    المواضيع : 128
    الردود : 1799
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    أستاذي الذي سعدت أيما سعادة بصداقة فكره وإحساسه كتابة وروحاً..
    كتبت تعليقا والله أمس ولكن للأسف يبدو أنه ذهب .. ولا أدري كيف!! أيها المعلم الغالي ..
    وأنا الآن متعب جدا من أني لم أكن الأول في التعليق..
    عموما فاتني شرف .. وسوف أجتهد لنيل ما يشبهه في صفحاتكم فيما بعد..
    لكن بجدية ..
    أنا أذوب في فكر الحرف في أصابعك..
    دمت بمحبة وجلال

  5. #5
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي حلوق حارة

    دكتور..
    قرأت النص وأنا أنتظر اضافة ما هو جديد لوعيي الشخصي بما يمكن يوفر لي شيئا عن ماهية قدر الموت ، و كأني بحاجة إلى التمكن من انطباعي ، عاودت القراءة ثانية ، فادركت ماهية الذات التي تقع في مطب من الموت، وكاني بك وعيت الامر فاخرجته على ما هو عليه الان، فكان لازاما علي ان اعيد قراته مرة اخرى، لاستخرج بهذه الكلمات.. التي توحي بنظرة أساسها مرجعية الاعتقاد الشخصي ، طبعا ، لست ضد تمثل ذهنية السارد فيما يكتبه ، لكن حين يتعلق الأمر بالموت كموضوع مطلق ، لا يمكن حكر معالجته من منظور أحادي الجانب ، و إلا فإن النص يسقط في المباشرة التي تقصي القارئ غير المتفق مع الأطروحة المنطلق منها . خاصة حين تأخذ الآخرة بعدها الديني محددة في مصدر واحد، مع ذلك جاء النص آخاذا للقلوب وكاننا نعيش الحدث معا.
    دمت بخير
    محبتي لك
    جوتيار

  6. #6
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    المشاركات : 191
    المواضيع : 44
    الردود : 191
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جوتيار تمر مشاهدة المشاركة
    دكتور..
    قرأت النص وأنا أنتظر اضافة ما هو جديد لوعيي الشخصي بما يمكن يوفر لي شيئا عن ماهية قدر الموت ، و كأني بحاجة إلى التمكن من انطباعي ، عاودت القراءة ثانية ، فادركت ماهية الذات التي تقع في مطب من الموت، وكاني بك وعيت الامر فاخرجته على ما هو عليه الان، فكان لازاما علي ان اعيد قراته مرة اخرى، لاستخرج بهذه الكلمات.. التي توحي بنظرة أساسها مرجعية الاعتقاد الشخصي ، طبعا ، لست ضد تمثل ذهنية السارد فيما يكتبه ، لكن حين يتعلق الأمر بالموت كموضوع مطلق ، لا يمكن حكر معالجته من منظور أحادي الجانب ، و إلا فإن النص يسقط في المباشرة التي تقصي القارئ غير المتفق مع الأطروحة المنطلق منها . خاصة حين تأخذ الآخرة بعدها الديني محددة في مصدر واحد، مع ذلك جاء النص آخاذا للقلوب وكاننا نعيش الحدث معا.
    دمت بخير
    محبتي لك
    جوتيار
    الأخ العزيز الناقد / جوتيار
    تحياتي وتقديري لشخصك الكريم
    جميل منك أن تلج النص وتنتظر إضافة الجديد لتلقيك الشخصي ، وهو مقياس ذاتي ، ولكنه فعال بشكل عال في النقد ، حيث يقيس الأمور من منظور الإضافة الشخصية ، ولكن ماذا لو كان الناقد أقل كثيرا من مستوى المبدع ؟ تكون هنا المشكلة .
    وبالتالي فإن مناهج النقد : التحليلية والتشريحية والشكلانية والتأويلية والسردية ... ، فيها إغناء كثير لهذا الأمر ، وحسما لخلاف الذاتي والموضوعي في القراءة النقدية .
    أقول هذا ، وأنا معجب أيما إعجاب بهذا المستوى الراقي من الطرح النقدي لك ، الذي نتج عن قراءات متعددة المستويات لنصي .
    أعد كلماتك حافزا لي للمزيد
    وأتمنى اطلاعك على دراسات النقدية في باب النقد لمزيد من التواصل
    دمت بخير عزيزي

  7. #7
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    المشاركات : 191
    المواضيع : 44
    الردود : 191
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد حسن محمد مشاهدة المشاركة
    أستاذي الذي سعدت أيما سعادة بصداقة فكره وإحساسه كتابة وروحاً..
    كتبت تعليقا والله أمس ولكن للأسف يبدو أنه ذهب .. ولا أدري كيف!! أيها المعلم الغالي ..
    وأنا الآن متعب جدا من أني لم أكن الأول في التعليق..
    عموما فاتني شرف .. وسوف أجتهد لنيل ما يشبهه في صفحاتكم فيما بعد..
    لكن بجدية ..
    أنا أذوب في فكر الحرف في أصابعك..
    دمت بمحبة وجلال
    المبدع الجميل الناقد / أحمد حسن
    انتظرت تعليقك على القصة كما أشرت إلي ، حيث ذكرت أنك كتبت تعليقا ولكنك فقدته ، وما زلت أنتظر هذا التعليق ، علني أستفيد منه ، وأستضيء به ؛ وهذا ما أخّر ردي عليك .
    في انتظار تعليقك أيها المحب ، فأنا لا أقنع بالتعليقات المرحبة والمجاملة .
    دمت بخير دائما .

  8. #8
    في ذمة الله
    تاريخ التسجيل : Nov 2006
    العمر : 76
    المشاركات : 674
    المواضيع : 101
    الردود : 674
    المعدل اليومي : 0.11

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د.مصطفى عطية جمعة مشاهدة المشاركة
    قصة قصيرة : حلوق حارة
    تطلع النوخذة " صالح " إلى المياه التى أذابت في شفافيتها لون السماء . و هي تداعب جنبات السفينة الثابتة في مكانها منذ أيام ، بعرض البحر . يتكسر اللون الأبيض و الأزرق مع الطحالب الطافية . السكون يتحرك من أعماق الماء طافيًا . يحلّق إلي الكون الانهائي ، فيكسوه بالصمت . يتأمل تجاعيد أصابعه المتشبثة بأحد حبال السفينة . يداه السمراوان بفعل لفح الشمس ، تعكسان مرور السنين . منذ حادثته مع الأمواج ، روى له أبوه كيف ألقي به في البحر ولا تزال براءته عمرها شهور . صرخت أمه و استحال لونها مثل " الكركم " ، و فغرت فمها ، و الدموع تملحت بعينيها . قال الأب : " ستحفظه الملائكة يا " أم صالح " و سيباركه البحر " .
    ظل يتهادى على الأمواج و طمأنينة تُسيّل نفحاتها حولـه ، فتحيل بكاءه إلى انبساط ، ثم أطلقت أمه زغرودة .
    رفع بصره للسماء ، سحابة تتجمع في بطء تتأرجح مترددة في تلاقيها ؛ فلا ريح . أشرعة سفينتهم تستجدي كتل الهواء ، يديرونها للجهات الأربع و هي في انتصابها بنسيجها المفرود و البحـارة يتسمّـرون منذ تنفس الفجر ، و يستمرون مع تلظى الشمس رويدًا . . . رويدًا ، و حين تتمركز الأشعة السماء يهربون إلى باطن السفينة. . ولكن “ النُوخَذة “ يبقي متعلقا بالحبل ، مبتسمًا للسماء ، يناجيها ، و اللسان صامت ، و المآقي تتقلّب ، فاليقين يجري بدمائه منذ نعومة أنامله ،
    صهريج الماء يتناقص بمرور السويعات ، يتجمعون على رشفات منه محسوبة ، طعامهم أسماك ، لازمت أنوفهم رائحة شوائها دومًا .
    تتسرب الساعات . . و الأيام و الماء . . بضع سنتيمترات . . قطرات . . ثم . . . اهتزت الأحداق . . أشار نحو المخزن ، قائلاً :
    - تركنا هنا بضعة آلاف من ثمار جوز الهند ، التي شحناها من إحدى الجزر ، وزعوا الثمرات ، كل بحّار له واحدة في يومه . . يرتشف عصيرها .
    تدافعوا ، بنهم في امتصاصها . . هل ستكفي ؟
    بحّار يلقي بثمرة فارغة في الماء ، يرميها بقوة ، تطير ، هل يراسل بها الريح الخامدة ، هل يهمس بها للهواء . . ؟ . . يفصح بها عما في صدره ؟
    صاح فيه ، و فيهم :
    - حافظوا على الثمرات الفارغة .
    كومتان لجوز الهند : كومـة تتنـاقص و أخرى تتـزايد . السويعات بطيئة في سكونها ، الليل سواده ممزق بأنجم سهرت على مناجاة صدورهم و انفلات ذكرياتهم . . هناك على الشاطئ ، أولادهم و بناتهم يتأملون الأفق في نقطة التقائه بالأمواج ، علّه مع بزوغ شمس أو أفولها تظهر نغمات أشرعة سفينتهم العائدة ، فتنطلق صرخات الفرح . . ثم ترتمي الأجساد الصغيرة على صدور الآباء السمراء ، و يغدون لأكواخهم حيث أزواجهم في حبور ، و أمهاتهم قبضن طوال فترة الغياب على أفئدتهن ، في حين رسمت وجوههن رباطة الجأش .
    يتسلل " صالح " من مخدعه ، يتنسم الهواء المشبع بالرذاذ ، يستشعر طعم الرطوبة في رئتيه . يبلل وجهه و مرفقيه و قدميه ، يستطعم ملوحة الماء بين شفتيه ، . . . يطيل ركوعه ، يصمت في سجوده تاركًا دقات فؤاده تعلو . . . .
    كومة الثمرات الفارغة ارتفعت و الأخرى تلاشت ، تحلّقوا حوله . . كلمات “ النُوخَذة “ قليلة :
    - ليس أمامنا سوى الشموخ ، سنشعل الثمرات الفارغة ، بعد تجفيفها و نقوم بتقطير ماء البحر ، و لا يزيد الواحد في شربته عن رشفة واحدة و له نصف كوب في اليوم .
    الصبر عقد مآقيهم ؛ فثبتت تطالع البخار المتصاعد من القدر و المتكاثف على لوح نحاسي ، القطرات تنزلق على اللوح تحمل كل قطرة حياة ، أحشاؤهم تخرج حرارة تلفح وجناتهم ، تعالى غضب الشمس . كومة الثمرات تتناقص .
    تفلتت الليالي ، الذكرى تجثم على النفوس ، الكلام محتبس ، زفير طويل ملتهب . الكومة . . . . صارت رمادًا .
    على ظهر السفينة استلقوا ، يرطبون شفاههم بالماء المالح ، ركوعهم و سجودهم في جلوسهم . . تُستَحرّ المناجاة على الألسن .
    " صالح " ، دقات فؤاده صاخبة ، مع كلمات أبيه التي ترن في مسامعه ، الآن :
    " الملائكة ستحفظك ، و سيباركك البحر " .
    يستشعر هفهفات أجنحتها تداعب روحه .
    يركعون و يسجدون بجفونهم ، و الأحداق تناجي ، و الشفاه ابيضت لترسب الملح عليها ، . . يضحك " صالح " الأجنحة البيضاء تحمل البشرى ، رذاذًا باردًا يقطر في فمه ، يتجلى أبوه بنظراته الحانية .
    دفقات الريح ، السحب تتجمع تتزاحم في طبقات ، المطر يغرق ثيابهم ، يذيب ملوحة أفواههم ، يتوغلها ليرطب الأحشاء .
    كتل الهواء تملأ الأشرعة . الجفون تستسلم مع اهتزاز السفينة التي تمخر الأمواج .
    السلام عليكم ورحمة الله
    الأستاذ الفاضل / د0 مصطفي عطية جمعة
    الدخول إلي عالم قصة " حلوق جافة " المتخيل يبدأ من عتبة الوصف لمكان السفينة في عرض البحر ثم يبدأ الحدث من تامل النوخذة صالح {السكون يتحرك من أعماق الماء طافيًا . يحلّق إلي الكون الانهائي ، فيكسوه بالصمت . يتأمل تجاعيد أصابعه المتشبثة بأحد حبال السفينة } ويعود بنا الكاتب إلي الزمن الماضي " فلاش باك " ليسرد لنا ملامح شخوصة التي سوف يقدمها {منذ حادثته مع الأمواج ، روى له أبوه كيف ألقي به في البحر ولا تزال براءته عمرها شهور . صرخت أمه و استحال لونها مثل " الكركم " ، و فغرت فمها ، و الدموع تملحت بعينيها . قال الأب : " ستحفظه الملائكة يا " أم صالح " و سيباركه البحر " .}
    ونلاحظ هنا دلالات الأسماء ألأب الملائكة صالح سيباركه البحر تجعل المتلقي يتهيأ لتوحد روحاني مع النص الذي يتناص مع العقيدة { “ النُوخَذة “ يبقي متعلقا بالحبل ، مبتسمًا للسماء ، يناجيها ، و اللسان صامت ، و المآقي تتقلّب ، فاليقين يجري بدمائه منذ نعومة أنامله ، } فاليقين هو الموت ( سوف ترونها حق اليقين 000 الآية ) وفكرة النص مبنية علي تعرض السفينة لعارض منعها من مواصلة رحلتها بعد أن توقف هبوب الريح ووصف حالة بحارتها النفسية وصراعهم للبقاء علي قيد الحياة والماء هو ذخيرتهم للحياة ( وجعلنا من الماء كل شئ حي 00 الآية ) ويغوص الكاتب في شخصية من شخوص السفينة يستخرج من حركته وتفاعله مع الموقف كبف يفكر {بحّار يلقي بثمرة فارغة في الماء ، يرميها بقوة ، تطير ، هل يراسل بها الريح الخامدة ، هل يهمس بها للهواء . . ؟ . . يفصح بها عما في صدره ؟} والكاتب هنا يريد أن يذكر بأن اللجوء في مثل هذه الحالات إلي الله ينجيهم من المحنة بعد أن جفت حلوقهم من قلة الماء { يركعون و يسجدون بجفونهم ، و الأحداق تناجي ، و الشفاه ابيضت لترسب الملح عليها ، . . يضحك " صالح " الأجنحة البيضاء تحمل البشرى ، رذاذًا باردًا يقطر في فمه ، يتجلى أبوه بنظراته الحانية .
    دفقات الريح ، السحب تتجمع تتزاحم في طبقات ، المطر يغرق ثيابهم ، يذيب ملوحة أفواههم ، يتوغلها ليرطب الأحشاء . }
    والكاتب هنا تجح في إحياء النزعة الدينية دون اللجوء إلي الوعظ المباشر
    كل قراءة احتمال
    خالص تقديري واحترامي

  9. #9
    الصورة الرمزية د. نجلاء طمان أديبة وناقدة
    تاريخ التسجيل : Mar 2007
    الدولة : في عالمٍ آخر... لا أستطيع التعبير عنه
    المشاركات : 4,224
    المواضيع : 71
    الردود : 4224
    المعدل اليومي : 0.68

    افتراضي

    "أرواح فى حلوق"


    دراسة نقدية تحليلية عن قصة"حلوق حارة"

    للأديب المبدع: د.مصطفى عطية


    "تطلع النوخذة " صالح " إلى المياه التى أذابت في شفافيتها لون السماء . و هي تداعب جنبات السفينة الثابتة في مكانها منذ أيام ، بعرض البحر . يتكسر اللون الأبيض و الأزرق مع الطحالب الطافية . السكون يتحرك من أعماق الماء طافيًا . يحلّق إلي الكون الانهائي ، فيكسوه بالصمت . يتأمل تجاعيد أصابعه المتشبثة بأحد حبال السفينة ."




    المدخل التمهيدى للقصة وهو يعكس براعة القاص فى توظيف اللغة تبعا لحالة بطله الشعورية, وهنا يعطى القاص ايحاء وفكرة غير واضحة المعالم للمتلقى ....والتى سيكتمل وضوحها باكتمال السرد.


    "يداه السمراوان بفعل لفح الشمس ، تعكسان مرور السنين . منذ حادثته مع الأمواج ، روى له أبوه كيف ألقي به في البحر ولا تزال براءته عمرها شهور . صرخت أمه و استحال لونها مثل " الكركم " ، و فغرت فمها ، و الدموع تملحت بعينيها . قال الأب : " ستحفظه الملائكة يا " أم صالح " و سيباركه البحر " .
    ظل يتهادى على الأمواج و طمأنينة تُسيّل نفحاتها حولـه ، فتحيل بكاءه إلى انبساط ، ثم أطلقت أمه زغرودة ."



    هنا يعود القاص فى لمحة فلاش باك غير متوقعة – ييسير للخلف فى ذاكرة البطل. وقد وجدت هنا أن اللمحة قد طالت كثيرا من الكاتب, فقد كانت تحتاج بعض التكثيف, فقوة اللقطة تكمن فى الهدف منها وليس فى اطالتها. و ينبغى الاشارة هنا الى أن الكاتب كان يهدف من لقطته الى التمهيد والايحاء الرائعين للخاتمة.


    "رفع بصره للسماء ، سحابة تتجمع في بطء تتأرجح مترددة في تلاقيها ؛ فلا ريح . أشرعة سفينتهم تستجدي كتل الهواء ، يديرونها للجهات الأربع و هي في انتصابها بنسيجها المفرود و البحـارة يتسمّـرون منذ تنفس الفجر ، و يستمرون مع تلظى الشمس رويدًا . . . رويدًا ، و حين تتمركز الأشعة السماء يهربون إلى باطن السفينة. . ولكن “ النُوخَذة “ يبقي متعلقا بالحبل ، مبتسمًا للسماء ، يناجيها ، و اللسان صامت ، و المآقي تتقلّب ، فاليقين يجري بدمائه منذ نعومة أنامله ،
    صهريج الماء يتناقص بمرور السويعات ، يتجمعون على رشفات منه محسوبة ، طعامهم أسماك ، لازمت أنوفهم رائحة شوائها دومًا ."



    يبدأ القاص فى التعمق فى حبكة العمل بالسرد الجميل المفرز لمعاناة الشخوص المعرضين للضياع والموت فى بحر لا نهاية له.


    "تتسرب الساعات . . و الأيام و الماء . . بضع سنتيمترات . . قطرات . . ثم . . . اهتزت الأحداق . ."


    تعبير رائع من القاص يختزل به فى ومضة رائعة رحلة معاناة كاملة بتكثيف غاية فى الابداع لم يفقد بالرغم من شدة تكثيفه وصف الحالة.


    " أشار نحو المخزن ، قائلاً :
    - تركنا هنا بضعة آلاف من ثمار جوز الهند ، التي شحناها من إحدى الجزر ، وزعوا الثمرات ، كل بحّار له واحدة في يومه . . يرتشف عصيرها .
    تدافعوا ، بنهم في امتصاصها . . هل ستكفي ؟
    بحّار يلقي بثمرة فارغة في الماء ، يرميها بقوة ، تطير ، هل يراسل بها الريح الخامدة ، هل يهمس بها للهواء . . ؟ . . يفصح بها عما في صدره ؟
    صاح فيه ، و فيهم :
    - حافظوا على الثمرات الفارغة ."



    حوارية جدلية وصفية تظهر كيفية انقضاء أوقاتا أخرى على سفينة الضياع.
    "كومتان لجوز الهند : كومـة تتنـاقص و أخرى تتـزايد ."
    تعبير آخر غاية فى الروعة جاء فى تناقض رائع يعكس رحلة زمنية كاملة, فتناقص الكومة دليل على انقضاء أيام من الجوع والألم , وتزايدها دليلا على تناقص أيام الحياة الباقية.



    " السويعات بطيئة في سكونها ، الليل سواده ممزق بأنجم سهرت على مناجاة صدورهم و انفلات ذكرياتهم . . هناك على الشاطئ ، أولادهم و بناتهم يتأملون الأفق في نقطة التقائه بالأمواج ، علّه مع بزوغ شمس أو أفولها تظهر نغمات أشرعة سفينتهم العائدة ، فتنطلق صرخات الفرح . . ثم ترتمي الأجساد الصغيرة على صدور الآباء السمراء ، و يغدون لأكواخهم حيث أزواجهم في حبور ، و أمهاتهم قبضن طوال فترة الغياب على أفئدتهن ، في حين رسمت وجوههن رباطة الجأش .
    يتسلل " صالح " من مخدعه ، يتنسم الهواء المشبع بالرذاذ ، يستشعر طعم الرطوبة في رئتيه . يبلل وجهه و مرفقيه و قدميه ، يستطعم ملوحة الماء بين شفتيه ، . . . يطيل ركوعه ، يصمت في سجوده تاركًا دقات فؤاده تعلو . . . .
    كومة الثمرات الفارغة ارتفعت و الأخرى تلاشت ، تحلّقوا حوله . . كلمات “ النُوخَذة “ قليلة :
    - ليس أمامنا سوى الشموخ ، سنشعل الثمرات الفارغة ، بعد تجفيفها و نقوم بتقطير ماء البحر ، و لا يزيد الواحد في شربته عن رشفة واحدة و له نصف كوب في اليوم .
    الصبر عقد مآقيهم ؛ فثبتت تطالع البخار المتصاعد من القدر و المتكاثف على لوح نحاسي ، القطرات تنزلق على اللوح تحمل كل قطرة حياة ، أحشاؤهم تخرج حرارة تلفح وجناتهم ، تعالى غضب الشمس . كومة الثمرات تتناقص .
    تفلتت الليالي ، الذكرى تجثم على النفوس ، الكلام محتبس ، زفير طويل ملتهب . الكومة . . . . صارت رمادًا .
    على ظهر السفينة استلقوا ، يرطبون شفاههم بالماء المالح ، ركوعهم و سجودهم في جلوسهم . . تُستَحرّ المناجاة على الألسن .
    " صالح " ، دقات فؤاده صاخبة ، مع كلمات أبيه التي ترن في مسامعه ، الآن :
    " الملائكة ستحفظك ، و سيباركك البحر " .
    يستشعر هفهفات أجنحتها تداعب روحه ."



    فى وصف رائع هنا يدخل الكاتب فى مراحل تمهيدية, واصفا بها رحلة المعاناة مع الجوع والضياع والألم , حتى يصل الى أقصى درجات التصعيد بالدخول فى حالات هزيانية بين الواقع والخيال.



    "يركعون و يسجدون بجفونهم ، و الأحداق تناجي ، و الشفاه ابيضت لترسب الملح عليها ، . . يضحك " صالح " الأجنحة البيضاء تحمل البشرى ، رذاذًا باردًا يقطر في فمه ، يتجلى أبوه بنظراته الحانية .
    دفقات الريح ، السحب تتجمع تتزاحم في طبقات ، المطر يغرق ثيابهم ، يذيب ملوحة أفواههم ، يتوغلها ليرطب الأحشاء .
    كتل الهواء تملأ الأشرعة . الجفون تستسلم مع اهتزاز السفينة التي تمخر الأمواج ."




    خاتمة أكثر من رائعة استفزت خيال المتلقى الى أبعد حد, فالتعبير هنا يضعك أمام تفسيرين كلاهما صحيح. الأول نجاتهم فعليا, الثانى موتهم. واللغة هنا والتعبير يخدمان فى إبداع كلا التفسيرين فيوسع بذلك الكاتب خيال القارىء مما يعد نجاحا للقاص والقص.



    التعقيب النهائى:


    القصة هنا مصاغة، غالباً، بطريقة الحوار غير المباشر، من خلال تقديم السارد نفسه بسرد حكاية أساسية داخل النص ثم مزج سرد آخر جانبى داخل نفسية الشخوص وخاصة شخصية لبطل, فكان العمل سرد خالص مغلف بغلالة رقيقة من سرد القصة النفسية الحديثة التى تعكس لنا النزعة الباطنية البعيدة الغور فى المنطقة الشائكة بين الحياة والموت. ونحن نرى هذا الانعطاف الذاتي معكوسا في أحاسيس شخوص القصة ويتكثف بصورة كبيرة فى احساس بطل القصة المنعكس على سيكولوجية التفكير الكلى للقص.


    اكتسب السرد في بعض الأركان سمة حوارية جعلت بالإمكان تحويله الي حوار من دون أن يحدث ارتباك في البناء والدلالة، لأن الحوار ارتبط ارتباطاً بنائياً بالسرد. فى العمل أيضا اصطحاب الحوار للسرد في جميع مراحل تطوره في كثير من أماكن القص، الذى كان نامياً من خلال السرد، ومرتبطاً به بعلاقة متصلة. وقام السرد بدور تبادل المنفعة مع الحوار في تفاعل وانسجام لكسر التعاقب المتسلسل المثير للإيقاع الرتيب الناشئ عن تناوب سرد الواقع ووصف جوانية الشخوص. من كل ما تقدم نشأت علاقة بين سرد يقوم به الراوي الأساسي للحدث، وحوار يوازي السرد في مصاحبته له، من دون أن يلتقي به، فكون لكل منهما نهاية مختلفة عن الأخري، ولو كان جري استخلاص السرد النفسى الشعورى من الحوار وفصله لنتج قصة ذات طبيعة سردية خالصة. ولا ييجوز بحال انتهاء من التعقيب دون الاشارة الى روعة أدوات الكاتب القصية ودقة حبكته الدرامية, بدءا من عنوان مناسب للحدث ودخولا فى القص وتصعيدا رائعا للحدث ثم انتهاءا بخاتمة مميزة قوية.


    شذى الوردة لهذا الرقى

    د. نجلاء طمان
    الناس أمواتٌ نيامٌ.. إذا ماتوا انتبهوا !!!

  10. #10
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    المشاركات : 191
    المواضيع : 44
    الردود : 191
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. نجلاء طمان مشاهدة المشاركة
    "أرواح فى حلوق"
    دراسة نقدية تحليلية عن قصة"حلوق حارة"
    للأديب المبدع: د.مصطفى عطية
    "تطلع النوخذة " صالح " إلى المياه التى أذابت في شفافيتها لون السماء . و هي تداعب جنبات السفينة الثابتة في مكانها منذ أيام ، بعرض البحر . يتكسر اللون الأبيض و الأزرق مع الطحالب الطافية . السكون يتحرك من أعماق الماء طافيًا . يحلّق إلي الكون الانهائي ، فيكسوه بالصمت . يتأمل تجاعيد أصابعه المتشبثة بأحد حبال السفينة ."
    المدخل التمهيدى للقصة وهو يعكس براعة القاص فى توظيف اللغة تبعا لحالة بطله الشعورية, وهنا يعطى القاص ايحاء وفكرة غير واضحة المعالم للمتلقى ....والتى سيكتمل وضوحها باكتمال السرد.
    "يداه السمراوان بفعل لفح الشمس ، تعكسان مرور السنين . منذ حادثته مع الأمواج ، روى له أبوه كيف ألقي به في البحر ولا تزال براءته عمرها شهور . صرخت أمه و استحال لونها مثل " الكركم " ، و فغرت فمها ، و الدموع تملحت بعينيها . قال الأب : " ستحفظه الملائكة يا " أم صالح " و سيباركه البحر " .
    ظل يتهادى على الأمواج و طمأنينة تُسيّل نفحاتها حولـه ، فتحيل بكاءه إلى انبساط ، ثم أطلقت أمه زغرودة ."

    هنا يعود القاص فى لمحة فلاش باك غير متوقعة – ييسير للخلف فى ذاكرة البطل. وقد وجدت هنا أن اللمحة قد طالت كثيرا من الكاتب, فقد كانت تحتاج بعض التكثيف, فقوة اللقطة تكمن فى الهدف منها وليس فى اطالتها. و ينبغى الاشارة هنا الى أن الكاتب كان يهدف من لقطته الى التمهيد والايحاء الرائعين للخاتمة.
    "رفع بصره للسماء ، سحابة تتجمع في بطء تتأرجح مترددة في تلاقيها ؛ فلا ريح . أشرعة سفينتهم تستجدي كتل الهواء ، يديرونها للجهات الأربع و هي في انتصابها بنسيجها المفرود و البحـارة يتسمّـرون منذ تنفس الفجر ، و يستمرون مع تلظى الشمس رويدًا . . . رويدًا ، و حين تتمركز الأشعة السماء يهربون إلى باطن السفينة. . ولكن “ النُوخَذة “ يبقي متعلقا بالحبل ، مبتسمًا للسماء ، يناجيها ، و اللسان صامت ، و المآقي تتقلّب ، فاليقين يجري بدمائه منذ نعومة أنامله ،
    صهريج الماء يتناقص بمرور السويعات ، يتجمعون على رشفات منه محسوبة ، طعامهم أسماك ، لازمت أنوفهم رائحة شوائها دومًا ."

    يبدأ القاص فى التعمق فى حبكة العمل بالسرد الجميل المفرز لمعاناة الشخوص المعرضين للضياع والموت فى بحر لا نهاية له.
    "تتسرب الساعات . . و الأيام و الماء . . بضع سنتيمترات . . قطرات . . ثم . . . اهتزت الأحداق . ."
    تعبير رائع من القاص يختزل به فى ومضة رائعة رحلة معاناة كاملة بتكثيف غاية فى الابداع لم يفقد بالرغم من شدة تكثيفه وصف الحالة.
    " أشار نحو المخزن ، قائلاً :
    - تركنا هنا بضعة آلاف من ثمار جوز الهند ، التي شحناها من إحدى الجزر ، وزعوا الثمرات ، كل بحّار له واحدة في يومه . . يرتشف عصيرها .
    تدافعوا ، بنهم في امتصاصها . . هل ستكفي ؟
    بحّار يلقي بثمرة فارغة في الماء ، يرميها بقوة ، تطير ، هل يراسل بها الريح الخامدة ، هل يهمس بها للهواء . . ؟ . . يفصح بها عما في صدره ؟
    صاح فيه ، و فيهم :
    - حافظوا على الثمرات الفارغة ."

    حوارية جدلية وصفية تظهر كيفية انقضاء أوقاتا أخرى على سفينة الضياع.
    "كومتان لجوز الهند : كومـة تتنـاقص و أخرى تتـزايد ."
    تعبير آخر غاية فى الروعة جاء فى تناقض رائع يعكس رحلة زمنية كاملة, فتناقص الكومة دليل على انقضاء أيام من الجوع والألم , وتزايدها دليلا على تناقص أيام الحياة الباقية.

    " السويعات بطيئة في سكونها ، الليل سواده ممزق بأنجم سهرت على مناجاة صدورهم و انفلات ذكرياتهم . . هناك على الشاطئ ، أولادهم و بناتهم يتأملون الأفق في نقطة التقائه بالأمواج ، علّه مع بزوغ شمس أو أفولها تظهر نغمات أشرعة سفينتهم العائدة ، فتنطلق صرخات الفرح . . ثم ترتمي الأجساد الصغيرة على صدور الآباء السمراء ، و يغدون لأكواخهم حيث أزواجهم في حبور ، و أمهاتهم قبضن طوال فترة الغياب على أفئدتهن ، في حين رسمت وجوههن رباطة الجأش .
    يتسلل " صالح " من مخدعه ، يتنسم الهواء المشبع بالرذاذ ، يستشعر طعم الرطوبة في رئتيه . يبلل وجهه و مرفقيه و قدميه ، يستطعم ملوحة الماء بين شفتيه ، . . . يطيل ركوعه ، يصمت في سجوده تاركًا دقات فؤاده تعلو . . . .
    كومة الثمرات الفارغة ارتفعت و الأخرى تلاشت ، تحلّقوا حوله . . كلمات “ النُوخَذة “ قليلة :
    - ليس أمامنا سوى الشموخ ، سنشعل الثمرات الفارغة ، بعد تجفيفها و نقوم بتقطير ماء البحر ، و لا يزيد الواحد في شربته عن رشفة واحدة و له نصف كوب في اليوم .
    الصبر عقد مآقيهم ؛ فثبتت تطالع البخار المتصاعد من القدر و المتكاثف على لوح نحاسي ، القطرات تنزلق على اللوح تحمل كل قطرة حياة ، أحشاؤهم تخرج حرارة تلفح وجناتهم ، تعالى غضب الشمس . كومة الثمرات تتناقص .
    تفلتت الليالي ، الذكرى تجثم على النفوس ، الكلام محتبس ، زفير طويل ملتهب . الكومة . . . . صارت رمادًا .
    على ظهر السفينة استلقوا ، يرطبون شفاههم بالماء المالح ، ركوعهم و سجودهم في جلوسهم . . تُستَحرّ المناجاة على الألسن .
    " صالح " ، دقات فؤاده صاخبة ، مع كلمات أبيه التي ترن في مسامعه ، الآن :
    " الملائكة ستحفظك ، و سيباركك البحر " .
    يستشعر هفهفات أجنحتها تداعب روحه ."

    فى وصف رائع هنا يدخل الكاتب فى مراحل تمهيدية, واصفا بها رحلة المعاناة مع الجوع والضياع والألم , حتى يصل الى أقصى درجات التصعيد بالدخول فى حالات هزيانية بين الواقع والخيال.

    "يركعون و يسجدون بجفونهم ، و الأحداق تناجي ، و الشفاه ابيضت لترسب الملح عليها ، . . يضحك " صالح " الأجنحة البيضاء تحمل البشرى ، رذاذًا باردًا يقطر في فمه ، يتجلى أبوه بنظراته الحانية .
    دفقات الريح ، السحب تتجمع تتزاحم في طبقات ، المطر يغرق ثيابهم ، يذيب ملوحة أفواههم ، يتوغلها ليرطب الأحشاء .
    كتل الهواء تملأ الأشرعة . الجفون تستسلم مع اهتزاز السفينة التي تمخر الأمواج ."

    خاتمة أكثر من رائعة استفزت خيال المتلقى الى أبعد حد, فالتعبير هنا يضعك أمام تفسيرين كلاهما صحيح. الأول نجاتهم فعليا, الثانى موتهم. واللغة هنا والتعبير يخدمان فى إبداع كلا التفسيرين فيوسع بذلك الكاتب خيال القارىء مما يعد نجاحا للقاص والقص.
    التعقيب النهائى:
    القصة هنا مصاغة، غالباً، بطريقة الحوار غير المباشر، من خلال تقديم السارد نفسه بسرد حكاية أساسية داخل النص ثم مزج سرد آخر جانبى داخل نفسية الشخوص وخاصة شخصية لبطل, فكان العمل سرد خالص مغلف بغلالة رقيقة من سرد القصة النفسية الحديثة التى تعكس لنا النزعة الباطنية البعيدة الغور فى المنطقة الشائكة بين الحياة والموت. ونحن نرى هذا الانعطاف الذاتي معكوسا في أحاسيس شخوص القصة ويتكثف بصورة كبيرة فى احساس بطل القصة المنعكس على سيكولوجية التفكير الكلى للقص.
    اكتسب السرد في بعض الأركان سمة حوارية جعلت بالإمكان تحويله الي حوار من دون أن يحدث ارتباك في البناء والدلالة، لأن الحوار ارتبط ارتباطاً بنائياً بالسرد. فى العمل أيضا اصطحاب الحوار للسرد في جميع مراحل تطوره في كثير من أماكن القص، الذى كان نامياً من خلال السرد، ومرتبطاً به بعلاقة متصلة. وقام السرد بدور تبادل المنفعة مع الحوار في تفاعل وانسجام لكسر التعاقب المتسلسل المثير للإيقاع الرتيب الناشئ عن تناوب سرد الواقع ووصف جوانية الشخوص. من كل ما تقدم نشأت علاقة بين سرد يقوم به الراوي الأساسي للحدث، وحوار يوازي السرد في مصاحبته له، من دون أن يلتقي به، فكون لكل منهما نهاية مختلفة عن الأخري، ولو كان جري استخلاص السرد النفسى الشعورى من الحوار وفصله لنتج قصة ذات طبيعة سردية خالصة. ولا ييجوز بحال انتهاء من التعقيب دون الاشارة الى روعة أدوات الكاتب القصية ودقة حبكته الدرامية, بدءا من عنوان مناسب للحدث ودخولا فى القص وتصعيدا رائعا للحدث ثم انتهاءا بخاتمة مميزة قوية.
    شذى الوردة لهذا الرقى
    د. نجلاء طمان
    الأخت العزيزة الناقدة / د.نجلاء سلام الله عليك ورحمته وبركاته
    تفضلي بقبول فائق شكري وتقديري لهذا الجهد المبذول في الدراسة
    ودعيني أشيد بقدراتك النقدية في التحليلي السردي والدلالي .
    إن أجمل لحظات المبدع أن يظفر بناقدة ومبدعة بهذا المستوى الجميل
    وأجمل لحظاته أيضا أن يجد قلما رقيقا يتلمس عالمه ، ويغوص في ثنايا هذا العالم .
    جزالك الله خيرا
    وأقترح عليك أن تقومي بنشر الدراسة في باب النقد ، بوصفها دراسة نقدية متكاملة .
    دمت بخير أيتها العزيزة ، ودام تواصلنا الإبداعي والنقدي

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. وردتي قصة قصير
    بواسطة حسين غبيري في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 14-04-2015, 07:07 PM
  2. "أرواح فى حلوق"....دراسة نقدية تحليلية عن قصة "حلوق حارة" للأديب الرائع: د.مصطفى عطية
    بواسطة د. نجلاء طمان في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 09-01-2008, 03:58 PM
  3. حارة اليهود ـ قصة قصيرة للقاص الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 26-10-2006, 06:48 PM
  4. تعزية حارة لمن هذا حالهم....!!!!
    بواسطة ابو دعاء في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 07-09-2003, 05:22 PM