قراءة أولية في ديــوان
( العزف الصامــت )
أغاريد في ذمة الصبا




د/ عبد الولي الشميري

لا شئ كالحب، هو إكسير الحياة، بل هو الحياة في الأولى وفي الآخرة، " لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا" والحب هو الجوهر المكنون في نواميس الوجود الكوني من البداية المجهولة إلى النهاية المعلومة ، فبالحب قامت أواصر الترابط السلالي بين البشر والأمم الأمثال ، من عوالم الأرواح والحيوان ، والإنس والجان ، والحب هو ذاته الدين الخالص بين العبد والمعبود ، وبين الرسل وأممهم ، وبين الوالد والولد ، وبين الذكر والأنثى وبين المكان والإنسان.
ولذلك كان الحب هو الإيمان " لا يومن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده، ونفسه التي بين جنبيه " ثم تشاطر الحب المخلوقون جميعاً بمراتب ومنازل متشابهة ومتعددة ، غير أن الانجذاب العشقي بين الذكر والأنثى ، جاء وفق مقاصد الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ثم دعاهم للتعبد في محاريب الحب لتبقى سنة الحياة الوجودية ماضية وعمارة الأرض محققة ، وكلها لا سبيل إليها سوى العبور على جسر الحب ، الذي يقوم على أعمدة التأثير والمؤثر.
ومن هذه المنطلقات المنطقية ، وبين يدي نوازع الفطرة السليمة جاءت قصائد العزف الصامت كسلسلة نفيسة المعادن ، لا شئ فيها سوى الصدق ، الحب ، الوضوح ، العفاف ، الولوع ، الموهبة.
نعم لقد شهدت تجارب حب طبيعي متوقد ومتعثر لابني هذا العازف بصمت عبدالفتاح قائد حسين منذ نعومة أظفاره قبل أن يشب له عذار.
وحشرني في آلام حبه وآمال مستقبله المنسوجة من خيال الافتراضات ونوازع الرفض والاستسلام ، فكم حزنت معه بالتضامن ، وكم فرحت له بلحظات لا يدوم سرورها سوى سويعات.

إن هذا الشاعر صاحب حياة مليئة بتجارب الهموم وتجاذب اليأس والطموح ، كلها مرسومة في صفحات هذا الديوان ، لا في طلاسم معقدة ، ولا رمزية ولا غموض.
وعندما يعرض شاعري هذا صورة لاحظة كان يرى لها صفات روحية ، ومعنوية ، وخلقية ، توجب عليه التقاط صورة وصافة.
فــــــي ساعــــــة مبكـــــــره وتحــــــــــت ظــــل شجـــره
رأيتهــــــا فــــاتنــــتــــــــــي كــــــــــــــــــدرة مزهــــــره


فهكذا يهتم الشاعر بالضبط للزمان، والمكان ، والإنسان في بيتيه السالفتين ، ثم يغادر للوصف بأوصاف الفضل، والأدب ، والاحتشام ، منتقياً أحسن ما يحبه مجتمعه ومتطلبات ثقافته:

فالوجـــــه فــي حجـــابـــــــه بــــــدر حوتــــــه منظــــــره
ثــــوب الحيــــــــاء ثوبهـــــا فيــــا لهـــا مــــن مفخــــــره
نـاهيتــــــك عـــن فضائـــــل تشــــــــع منهـــــــا نيـــــــره
مستـفعلـــــن مستــــــفعلــــن مستــفعلــــن مستفــــــعلــــن
فالإيقاع والموسيقى يوحيان بالبراءة ، والبراءة ، والبساطة ، وعدم التكلف ، وهذه هي حدود تلك المرحلة التي كانت من أهم شروطها السمات السلوكية قبل الجمال الفطري والملامح الخلقية قبل المحاسن الحسيّة.

ومما لا شك فيه أن شاعري هذا اليوم يخرج من كشاكيله القديمة يوم كان في مدرسته الثانوية، وبواكير أيامه الجامعية قصيداته المراهقة، وغنغنات أوتاره الناعمة التي كانت ذات يوم رنيناَ يجلجل في مسمعه، وحنينا إلى عالم الحلم الجميل الذي كان القدر الأحب يسوقه إليه دون توقع، لذلك نرى معظم غزلياته إما في أو تحت ظل شجرة بين أسوار ، أو في مواطن الثقافة ، أو لجميلة تحتضن دفتراً أو كتاباً:

فــي موطــن الثقــــافــــــــــه تــــلميـــــــذة شفافـــــــــــــه
فليتـنــي فــــــــي حضنهـــــا كـــدفتـــر الثقافــــــــــــــــــه
تضمــــــه فــــــلا يــــــــرى بـــــردّا ولا مخافـــــــــــــــه

وإيقاعات هذا البصر تحاكي صبيّاً يوالي قفزات عابثة أو مراهقاً ، يتابع مراهقة وهي تقفز على حبل المرح ، وعبدالفتاح بن قائد حسين كغيره من الرسامين لأي لوحة جميلة، ولو لم يكن له فيها بؤرة عشق أونقطة غرام يوجه ابتهالات شعره إليها ، ولكنه ماهرّ ، فنانّ ، فاتن حيثما يوجه لمعان مرآته العاكسة لضوء شمس الوجدان الوهاجه بالإعجاب إلى فتاتين جميلتين لعلهما زميلتين أيضاً في فناء مدرسة أو جامعة:
فــي موطــن الثقــــافــــــــــة تــــلميـــــــذة شفافــــــــــــــة
فليتـنــي فــــــــي حضنهـــــا كـــدفتـــر الثقافــــــــــــــــــة
تضمــــــه فــــــلا يــــــــرى بـــــردّا ولا مخافـــــــــــــــة

فالألف الخاص بالتثنية أحاطهما معاً دون اختيار أو تفضيل لأحدهما على الأخرى ومع كل ذلك فالمدح بالعفاف، والوصف بالجمال ، يعتبر غراماً عذرياً بريئاً ، ينزع إلى الوصف لا إلى التشبيب العشقي من الصب المغرم، كما هي قصيدته " صديقتان أنتما أم أنتما أختان " لكن التشبيهات في سبائك هذا الشاعر رغم تبعثرها هنا وهناك في أرجاء ديوانه هي صور فاتنة وهّاجةٌ بالمهجة الولوعة بين عروقه، وهي شائقة بريئةٌ لطيفة وخالية من التكليف، والتقليد ،
ومنها:
فــليتنــــــي فــــــي حضنهـــــا كدفتـــــــــر الثقافـــــــــــــــة
وقولـــه :
فــــــــــــــــإن المُنــــــَـــــــــى كالمنايــــــــــــــــــ ـا قــــــدر
وقولـــه :
حتــى تــــمنيــــت أنــــــــــــي عقـــــدٌ ينــــــــــام بصــدرك

ولكن قصيدته التي خاطب بها "رملة" والتي وصفها ببراءة الطفلة ، كانت ذروة البساطة والجمال، وخالية من نزعة الصنعة وجيّاشة بالعاطفة.
فيها أبارك له روح صدقه ووضوحه ، وشاعري هذا كل قصائده موجهة ومخصصة لذوات الأوصاف المسرودة في تضاعيف سطوره

سقى الله أرض الندى والمطر
ففيها حبيب الفؤاد استقـــــر
حبيــب وهبــت حياتــي لـه
ولو قال زد قلت خــذ ياقمر
أحبـــــــك كم مــرة قلتهـــا
وكم سال دمعي هوىً وانهمر

وآن لي الأوان أن أحيل القارئ إلى العزف الصامت ليتأمل أوتاره
ويتبتل في محرابه عاشقاً ومخبتاً ليتصل في حصيلته النهائية بروح الشاعر الذي يستحق هو الآخر أن يكتب فيه وعنه قصائد مغرمة ، ولكن بنبله ، وبأدبه وبأخلاقه ، وبفطرته


د. عبدالولي الشميري
رئيس مؤسسة الإبداع للثقافة والآداب والفنون – صنعاء
رئيس منتدى المثقف العربي – القاهرة
1/11/2006م