الضحية
وصلت الحافلة التي تنقلها هي ومتيلاتها إلى السجن, حيت ستمضي خمس سنوات من حياتها وراء قضبانه.
خرجت واحدة تلو الأخرى مكونين صفا مستقيما, طبعا تحت إشراف الحارسات الشديدات البنية وتحت أشعة الشمس الحارقة, وصلن أخيرا للبوابة الضخمة, رفعت رأسها لتملأ عينيها بالمناظر قبل أن تودعها لخمس سنوات, لكنها لم ترى سوى مساحة هائلة تملأها الأحراش والنباتات اليابسة التي أحرقتها شدة الحرارة, عادت بعينيها إلى البوابة تسمع قرقعة المزالج والأقفال مازالت لا تصدق أن كل هذا يحدث, مازالت تأمل أن تستفيق من هذا الكابوس, ما زالت تأمل أن يأتي شخص ما ليبعدها عن كل هذا وينسيها المرارة التي عاشتها والعذاب الذي ينتظرها خلف هذه البوابة.
فتحت البوابة وبدأت السجينات تدخلن تحت دفعات الحارسات التي تظاهي اللكمات, تلقت بدورها دفعة على كتفها اهتز لها جل جسدها نظرت بسرعة للتي دفعتها متأهبة للدفاع عن نفسها لكن نظرة منها أخرصتها وجعلتها تعود للصف منكمشة على نفسها ممسكة بكتفها لعل الألم يبرد شيئا ما, تقدمت للأمام وعيناها تطوفان بالمكان للتعرف على تفاصيله لكن سرعان ما اجتاحت أنفها رائحة نتنة وكلما تقدمت أكثر كلما زادت حدة النتانة.
غريبة هي هذه الحياة التي قادتها لهذا المصير الذي لم تحسب له في حياتها أبدا حسابا, من كان يتصور أن ندى الفتاة الجامعية الجميلة, التي أخيرا بعد جهد مضني حصلت على وظيفة محترمة كمحاسبة في شركة والتي كان كل همها أن تبقى مرفوعة الرأس وترفع معها رأس عائلتها ترمى هذه الرمية البائسة في هذه الزنزانة الكئيبة.
’ السجن’ كلمة لم تكن ضمن قاموس تفكيرها كانت تسمعها في الأفلام في الأخبار لكنها أبدا لم تفكر أن تكون في حياتها أو بالأحرى أن تخطف خمس سنوات من عمرها وأي سنوات أحلى سنوات.
مرت أيام قليلة عرفت فيه زنزانتها و تعرفت على رفيقاتها فيها ثلات نساء أخريات كلهن ولجن عالم الجريمة.
في الأيام الأولى لم تكن تتحدت أو تأكل أو تنام كان كل همها أن تستوعب الفكرة, فكرة أنها حبست بين أربعة جدران, فكرة أنها لن ترى أسرتها, فكرة أنها فعلا دخلت السجن ولا مناص لها منه, فكرة أن العدالة بكل جبروتها وبكل عظمتها خدلتها فحبستها, حبست المظلوم وتركت الظالم خارجا يسرح ويمرح ويبحت عن ضحايا جدد, فتيات جميلات يلف حول رقبتهن حبل السجن فيخيرهن إما يتبعنه ليغوص بهن في أعماق الخطيئة وإما يلفق لهن قضية اختلاس محكمة ليكن عبرة للأخريات, لكنها مازالت لا تستوعب كيف لأغلب زملائها في العمل كيف لهم أن يشهدوا ضدها في التحقيق؟ كيف لهم أن يلقو أصابع الإتهام عليها وهم أدرى الناس أنها يستحيل أن تناقض خلقها أن تعرض شرف مستقبلها للخطر؟ حاولت أن تبرر تصرفهم ربما هددهم بالطرد, ربما أصابهم الهلع من فكرة الطرد أمام ارتفاع نسبة البطالة وقلة فرص الشغل والغلاء, فامتتلوا له مجبرين لكنها تعود فتقول هل متل هذه الأسباب تبيح لهم كل شيء؟ تم تضع نفسها مكانهم, هل تستطيع هي أن تفعل بهم هذا؟ هل تستطيع أن تشهد شهادة زور وتبيعهم بهذا الثمن البخس؟ هل تستطيع أن تكون في صف الظالم على المظلوم؟ فتجد أنه من المستحيل أن تفعل, من المستحيل أن تسمح لها نفسها البريئة, الشريفة, العفيفة, أن تنزل لهذا المستوى المتدني وتضع يدها في يد رئيسها الشيطان, نعم لابد أنه شيطان ليخطط وينفد والمهم أنه دائما ينجو بفعلته.
وبعد كل هذا ها هي الآن مع المجرمات لم تنفعها براءتها وشرفها وطيبوبة قلبها هاهي الآن لم يشفع لها لا حبها لكل الناس, لا جدها المضني في الدراسة و في العمل ولا حتى دكاءها وسرعة بديهتها كل هذا لم يحل دون دخولها السجن, فكرت لماذا ومع اتصافها بكل هذه الأوصاف الحميدة تهان بهذه الطريقة؟ ربما لو اتصفت بعكس هذه الأوصاف ما آلت أمورها إلى هذه الحالة, ربما لو كانت متل زملائها الأنانيين الخبثاء, نعم فبالرغم من كل شي هم مازالو خارج قضبان السجن محتفظين بوظيفتهم براتبهم بحياتهم.
فبكت كما لم تبك يوما انهمرت دموعها غزيرة سالت ساخنة على خديها ملأت وجهها وانسابت على الوسادة رهيب هو الإحساس بالظلم, قاس هو الإحساس بالظلم , وعميق هو هذا الجرح في قلبها الذي ما فتىء الإحساس بالظلم ينخر فيه وينغرز في أعماقه لا يخفف عنه لا كثرة الدموع ولا حتى كثرة الوقت.
عانت في السجن من رداءة الأكل ومن عدم نظافة الأفرشة واختبرت الويلات من تواصلها مع السجينات, اكتشفت حقيقتهن وسوء حظهن في الحياة, الذي أحيانا يفوق سوء حظها وعانت أيضا من الجفاء وسوء المعاملة وأهم شيء أصبح لديها وقت أكثر من كافي لتفكر وتتمادى في التفكير بكل ما يحيط بها.
مرت خمس سنوات وهاهي مجددا أمام البوابة, تسمع قرقعة المزالج والأقفال وتنتظر الخروج للعالم, مرت هذه الفترة طويلة عليها, قاسية, مروعة, وأحيانا لا تجد الكلمات لتصفها وهاهي الآن مرت لكنها لم تمر مرور الكرام, بل امتصت سنوات من زهرة شبابها سنوات اهدرت بلا طائل.
وقفت متشبتة بحقيبتها ونظرت نظرة ازدراء للوراء تم تابعت طريقها بخطوات مصرة, لا شك أنها ليست بالمرة تلك الفتاة المسكينة المظلومة التي دخلت السجن مذلولة مقهورة, بالتأكيد لن تكون كذالك, فالألم الذي عانته والظلم والبكاء والإحتقار والذل والمهانة قادرين على تحويل طيبوبة قلبها إلى عداء, وحبها للناس إلى كره, وحنانها لقسوة وشفقتها على الضعفاء لجفاء وأن يكون كل همها الإنتقام, الإنتقام من كل شخص والدوس على كل شخص للوصول لغايتها علها تطفيء هذه النار الملتهبة في قلبها وعلها تتأر لبقايا تلك الإنسانة السادجة التي جعلتها طيبوبتها تغرق في بحر المآسي.
أخيرا خرجت, مشت خطوات والريح تلفح وجهها وتمتد لشعرها, فتلوح بخصلاته للوراء , تقدمت أكثر مستشعرة لذة الحرية واتسعة بسمة كبيرة على شفتيها, بسمة استهزاء وسخرية في ثواني تحولت لضحكة عالية, هستيرية ونطقت من بين ضحكتها: ’ها أنا آتية إليكم فانتظروني يا أشباه البشر, انتظروني يا وحوش, أقسم أني سأنال منكم ولو عنى هذا أني سأصير واحدة منكم.’
وربما اكتشفت أو ستكتشف بعد فوات الأوان أنها ليست إلا ضحية فالقسوة لم تكن طبيعتها لكن السجن علمها إياها وهكذا نحن الخطيئة لا تولد معنا لكن المجتمع يدفعنا إليها.