الشاعرة الدكتورة : اعتدال الكثيري ،
بداية اسمحي لي أن أنضم إلى الكرام الذين استقبلوكِ ولي الشرف في حالي الاستقبال والصحبة ، فأهلاً بك في الواحة المباركة ونتمنى أن تسعدي بها ، وأن يطيب لكِ المقام .
قرأت هذا العمل الشعري الذي ينبض حسًا وتتلون صوره بألوان الإبداع ، فأنا أمام قصيدة لشاعرة تدرك من أين تكون القصيدة ، وإلى أين ، فإلى جانب الإمتاع ، والتشويق الذي تميزت بهما اللوحة التعبيرية ، أتت المعاني التي تجانست ، فالشاعرة تستقبل رمضان بصورة بديعة حين تقول :
بليتَ ولم تـزلْ طفـلاً وليـداً
ألا نبلى ونحـنُ أشـدُّ عـوداً
فصيّرنا البلـى أشبـاهَ موتـى
وعاد بك البلى غضـاً جديـداً
كم أعجبني هذا الاستهلال الذي يمزج بين حالين : حال رمضان الذي يبلى باعتبار الزمن ليعيده البلى كل عام غضًا وليدًا متجددًا ، وحالنا نحن وقد استسغنا لأنفسنا هذا البلى الروحي ، والوجداني ، والوطني ، والقومي ، وربما العاطفي أيضًا ، فنحن أمام استهلال محفز على الاستمرار مع العمل ، وباستعمال الشاعرة لهذا التعبير : أشياه موتى ، دلالة قوية على أننا فقدنا القدرة على أن نكون إما موتى ، وإما أحياء ، هي المنطقة التي ربما تثير الشفقة لحين ليلتفت عنها القوم ، وقد استوقفني هذا التعبير مع ذكر البلى الذي يعني الفناء ، والفناء بدوره مرحلة نهائية لكنها تقف بنا في منطقة حرجة لتنطلق إلى ما بعد هذه النتيجة .
كأنّـك برعـمٌ حدبـت عليـه ِ
يـد الأيـام تكفلـهُ وحـيـداً
تجودُ عليـه بالأمطـار حتـى
يعانقهـا بأفرعـهِ صـعـودا
فيقتطف الندى منهـا ويـروي
بـهِ الأرواحَ يقتلـع الجمـودا
في هذه الأبيات تستعرض الشاعرة العوامل التي تجدد رمضان ، وقد لعب هذا التجسيد دورًا رائعًا في جعل الصورة تكتسب حركية عناصرها ، بنقلها من معنويتها إلى مادية الطبيعة حيث البراعم والندى والقطف ، أي أننا أمام ترابي الشهر الفضيل وكأنه البذرة التي يخلفها الشهر لتتكفلها السنة حتى تعود شجرة وارفة كريمة على الخلق ، وقد جاء التعبير بالصعود معبرًا عن شموخ هذا الشهر سواء بذاته ، أو بأعمال العباد فيه ، لكن الشاعرة هنا ترسم صورها ناطقة متحركة في فخامة وشموخ ، وكأنها تعير بها الأمة التي تتجه نحو القاع ؛ لنصل إلى النقلة التي جاءت بسلاسة ، ويسر يشي بتمكن الشاعرة من لغة الشعر ، وأدوات التعبير :
وتسأل ما الجديدُ ومـا أصبنـا
وعيدُ الفطر هل ما زال عيـدا
فـلا والله لـم نهنـأ بفـطـرٍ
فمنذ العـام نعتلـف الركـودا
كفرنا العهد بعد مضـيّ شهـرٍ
فكيف على المدى صنتَ العهودا
إنها لم تنتقل هنا تقريريًا وإنما انتقلت بتعجب عن سؤال على لسان الشهر الفضيل ، والسؤال منطقي لأن الشهر متبوع بالعيد وبين بداية الشهر والعيد أعمال ، ومن الطبيعي أن تكون الأعمال في رمضان خيرة نؤجر عليها ، وكأن الشاعرة هنا تجعل الجهاد والسعي لتخليص الأمة من همومها ، من ضائل الشهر الكريم ، أو بالأحرى من الأعمال اللازمة للعبادة في هذا الشهر ، علاوة على كونها ضرورة لأمة فقدت عزتها، والذي أثرى هذه الصورة قولها : فـلا والله لـم نهنـأ بفـطـرٍ *** فمنذ العـام نعتلـف الركـودا . هنا صورة بديعة تؤكد ما ذهبنا إليه حيث صار الركود معتلف هذه الأمة وعلى الرغم من قسوة الصورة بقولها نعتلف إلا أنها أتت معبرة جدًا وخادة للحالة الشعورية للقصيدة وللمتلقي الذي تفاعل معها لننتقل للبيت التالي :
كفرنا العهد بعد مضـيّ شهـرٍ
فكيف على المدى صنتَ العهودا
الشاعرة هنا لم تقل كفرنا بالعهد ، ولكنها تقول كفرنا العهد ساترين إياه تخاذلاً فالكافر لا يكفر إلا عن دراية بما كفر والأكيد لمصلحة يراها ، ويأتي زعمه ضد صالحه ، فبعد شهر من المقاومة نتخاذل أو بتعبيرها الجميل نكفر العهد ، وقد هللنا ناصرين صاحبه ، على حين بقي الزمن كما هو يفي بعهده بالتجدد والاستمرار ، والزمن بساط إن طوي عن أرض فلا ريب ممدود على غيرها .
أنقبـلُ بالفتـات وكـلّ حيـنٍ
وحـزبُ اللهِ يقرضنـا شهيـداً
وألسنـةُ الدمـارِ تنـالُ منـا
وتسكب في ضمائرنـا صديـداً
هنا أجدني أمام بكائية على ما نلاقيه ، وانتصارًا خافت الصوت لحزب الله الذي مثل المقاومة ، وقد استوقفني قول الشاعرة : وكل حين ، فلا أدري أتقصد بها الشاعرة استنكار قبول الفتات وقبول الزمن المنهزم ، أم كانت تقصد قبول الفتات كلّ حينٍ والواو لا مكان لها لتبقى الواو السابقة لحزب ؟! أما يقرضنا : القرض يقتضي الرد أو أن يأكله من اقترضه ، وبهذا يمنحنا حزب الله قرضه فخارًا ونحن نضيع هذا الفخر وهل كان من الممكن إبدال يقرضنا بلفظة ا تكسر الوزن وتفي بالغرض المعنوي الذي يرتفع بالصورة أكثر ؟! أما قول الشاعرة : وألسنـةُ الدمـارِ تنـالُ منـا *** وتسكب في ضمائرنـا صديـداً . أجد أن الشطر الأول جميل فألسنة الدمار ناسبها أن تنال منا طعامها ، وتجرحنا في الكرامة والضمائر وفي الشطر الآخر ، من المعروف أن الجرح يفرز الصديد لكن الشاعرة هنا تنسب السكب لألسنة الدمار وهنا يمكن قبول الصورة على هذا الشكل ، لكن أن تكون الصورة كون الضمائر تقيحت حتى إفرزت الصديد اقوى من أن يأتيها الصديد سكبًا .
وهاهم صوب لبنانَ استعـادوا
مخططهـم وحلمهـم العتيـدا
وشارلمـانُ خلفهـم انتواهـا
على الإسلام حرباً لـن تبيـدا
تظاهر بالمضـيِّ إلـى سـلامٍ
به مـا زال يلبسنـا القيـودا
وعاد ينالُ جهـراً مـن نبـيٍّ
هدى الأرواح جنّدهـا جنـودا
تشعّ الخير من غربٍ وشـرقٍ
ويعرضُ كبرُهم عنـهُ جحـودا
في هذه المجموعة من الأبيات تعالج الشاعرة المضمون بصورة تقارب التقليدية مستحضرة المعاناة التي لاقاها لبان ومازال يلاقيها ، وتنعي القدس وحالها ، والانتهاكات الحادثة ، وهذا التعدي على الأرض والعرض والدين ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وتلتفت إلى مزاعم الصهاينة وأمريكا والوعود بالسلام ادعاءً ، وقد خدمت هذه الأبيات الغرض من القصيدة ، إلا أنها كما أسلفت ربما أتت مقاربة التقليدية في العرض الشعري لحال الأمة ، إلا أن الشاعرة ترتقي بالصورة والغرض في قولها :
شقينا بانتظـار الغيـثِ دهـراً
وآنسنـاهُ ننتظـر الـرعـودا
فيا رمضانُ علّمنـا التصـدّي
ويا رمضـانُ لقّنّـا الصمـودا
تعـودُ فتلتقينـا حيـثُ كنّـا
أما أذن العزيـز بـأن نعـودا
تبدأ الشاعرة بيتها بقولها شقينا بانتظار الغيث ، نعم أنتِ بارعة هنا أيتها الشاعرة اختصرت حالنا بعبارة ، فنحن نعقد الآمال ونتمناها فإن بدا لها دليل انتظرنا من يحققها لنا وأنا هنا أستحضر قصيدة الشاعر الجميل : مصطفى الجزار : أسطورة عودة صلاح الدين ، والفارق هنا أن الجزار صور عودة صلاح الدين للواقع ، وأنتِ تحكين الواقع .
أما البيتين الأخيرين فهما درة يا سيدتي ، وهذا المزج الرائع للنهاية يناسب المزج في الاستهلال ، وهذا الأسلوب في خطاب رمضان بما فيه من يقين وحميمية يضفي ألقًا على البيتين فالشاعرة هنا تزاوج مرة أخرى بين طاعات العبادة وأفعال الجهاد من الصمود والصبر ، وكأنها تخاطب الأمة : يا أمة العروبة والإسلام إن كنتِ تستطيعين البر والجوع والصمود في مواجهة الشهوات فاصمدي مواجهة عدوكِ ، وإن كنت مؤمنة بالعقيدة فالعقيدة تحثك على أن تتخلصي من صغارك وتخاذلك ، وأن رمضان فاتحتك للتقى والانتصار ، ليس من العدو ، وإنما الانتصار لنفسك من أهلكِ المتخاذلين ، حينها ستنتصري على العدو .
شاعرتنا الدكتورة : اعتدال الكثيري ،
هذه قراءة سريعة في قصيدتك ، أتمنى ألا تزعجكِ .
ومرة أخرى كل آيات الترحيب لكِ وبكِ في الواحة ، وكل عام وأنتِ بخير ، وننتظر رمضان القادم والأمة منتصرة مرفوعة الرأس بإذن الله .محبتي واحترامي
مأمون