قراءة استيعابية لقصيدة "لستُ أدري" للشاعر مجذوب المشراوي
تتسيد ذاتية الخطاب الشاعري في نص متدفق حميمية مع النفي في المعرفة بالتوازي مع حتمية انتصار الأمل الذي يحلم في تحقيقه الشاعر - أو قناعه – في وقت تتحداه ضبابية الثقة ومرارة التجربة التي أفرزت في خاطره تلك المشاعر التي يصدح بها علانيةً بلغة لا غبار عليها وسهلة المنال والاستيعاب. ورغم أن النص قد يبدو سوريالياً إلى حدٍ ما، إلا أننا أمام لوحة حداثيةً بطعم متفرد وبريشة شاعر فنان له باع في الصياغة والبناء الشعري والرؤية في التبعير والتصريح.
ورغم أننا قد نتعرض في النص لغموض في توظيف صورة ما أو لفظة ما، إلا اننا نستطيع أن نميز بين الثنائيات التي استحضرها الشاعر من قاموسه الشعري ونتحيز للأمل الذي يبني عليه الشاعر رغم هذا الشحوب الذي على "سمرة النفس" الذي يترك آثاره في الباطن الإنساني لدى الشاعر.
تنتشر في النص قيم تنهض من مرارة العيش على "شهوة الخبز" في ثورة الجياع والقتلى جوعاً وعطشاً – والسكوت عن الحق في وقت يحتاج المرء للتمرد على كل مظاهر القهر والطغيان والتبعية – و عدم التقوقع في فضاء منهزم – ونداء التمرد على القهر والحزن وأسبابه المصطنعة – والثيمة الأسطورية للماء الذي يجعل كل شئ حي:
مُرَّة ٌ شهوة الخبز فينا
وأسماؤنا حينما يشتري (هنا يا سيدي خطأ مطبعي في كلمة "أسماؤنا")
حلمها الدّجَل ُ
ما لنا نختفي مثل صمت بأعماقنا
كلما جفّ في صدرنا مورد الماء
هل كفَّرَت ْ عن مساوئها المُقَل ُ –
هل التكفير بالدمع أم بالصحو رغم انسدال الظلام والبحث عن المجرم وقت المساءات في كل يوم. والنص يدعو إلى التمرد على الواقع بكل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لست ُ أدري لمَ الموت ُ لا يقتل ُ الموت -
هنا تكرار ل"لست أدري" بما تحمله من دلالات في توكيد المغزى لفكرة النص في رفض المطلق المدمر والمؤدي للموت اليومي!
حتى تصير المواقيت سِلمًا
ولا ينبُت ُ الوجَل ُ-
هنا أيضاً تشخيص لمعنى الوجل في قدرته على النمو والإنبات ومشاركة كل مظاهر الحياة ليصبح جزءاً منها ومطلباً إنسانياً لدى الذات الشاعرة وكأحد اهم مقومات النفس البشرية في عصرنا الحاضر بعد أن غابت من قاموسنا اليومي قيم وعادات تتمثل في الوجل ذاته.
كنتُ مثل الربيع الذي قتلوا –
هنا ذروة الحبكة الشعرية متمثلة في قتل الربيع بما يحمله هذا الرمز الطبيعي من إيحاءات لحيوية الطبيعة واخضرار الكون والحياة بكل مظاهرها، وفي الصورة نفسها تجسيد مشخّص للربيع الذي يتعرض بكايته للموت والقتل على أيدي أعداء الحياة والطبيعة.
كنت ُ مثل الجميع بريئا –
هنا يتحول الشاعر/القناع من صورة الربيع بعد أن كان الشاعر مثله إلى الناس جميعهم بوصفهم أبرياء، وهذا إيثار من الشاعر الإنساني الطبع والرؤية، إذ يرفض أن يستسلم ويركن للضياع والانهزام ولا يكتفي بذرف الدموع كميكانيزم نهائي للبكاء على حال الأمة بعد أن تمتهن النفس الإنسانية البكاء ولا تتبدل في مواجهتها للواقع المرير الذي لا يرى سوى صورة الموت في لوحة الحياة.
وحيث أن لكل إنسان دور لا يتبدل في معركته في الحياة بحثاً عن ذات إنسانية، يصر الشاعر أن يكون الإنسان مثل الجمل صابراً مراطاً في بقاع الأرض ولا يستسلم لمكروه أو لسيدٍ يسلبه حقه في الحياة بعد أن يكون الحب ملأ الكون وانتشر بين البشر.
ثم يتحول التصوير لاحقاً للطين على اعتبار أنه من الأرض وللأرض يعود مصدره، تذكير بأصل الناس والخلق، وهنا أخالني ألمس بعداً دينياً له علاقة وطيدة بجمل فكرة النص المنطوية على حرية الإنسان في مواجهة الباطل والتغلب عليه في صراع مرير. ورغم أن المصرح به في نهاية النص هو الموت بالتجاور مع الأجل كمترادفين، إلا أننا أمام نص مخفي وثيمة لا تكاد تظهر إلا على سطح النص الأساس والظاهر يقول أن الإنسان له حق العيش الكريم بحرية وكرامة ولا غنى عنهما مهما كلف الأمر:
هل ْ لطيني دلالات خلد
فلا يغرب الكون ُ فينا ولا
يصعب الموت والأجل ُ
نرى الشاعر حريصاً على توظيف جملة من الصور الديناميكية والحيوية التي تخدم فكرة القصيدة وتداعياتها الشعورية، متراوحةً بين الاستعارة والمجاز والرمز المتئ على واقعية يجتر منها الشاعر جل صوره، ومشخصاً المعنوي من القول ليكون داعماً ومعززاً لذات الفكرة الإنسانية في النص. نص يميل لأن يكون نموذجاً حداثياً لكل ما يشتغل عليه من صور ولغة وتعبيرات وجماليات وقيم وثيمات، ويأخذ طابعاً فلسفياً وعلمياً من وحي معرفة الشاعر ورحم تجريته الشعورية. ومما يتفرد به النص هو اشتغاله أيضاً على العلاقة الوصفية والمحاكاة والتعبير عن حضور الشاعر/القناع في العالم الصغير من حوله واندماجه مع كائناته وأشيائه. كما أن النص بحداثته الإيجابية – وبعيداً عن التورط الكلي والتقليد الأعمى لما صار إليه منظرو الحداثة الغربية في تجديدهم بل توريطهم للعقائد الدينية والموروث التقليدي وانقطاعهم عن جذور ذلك كله – ينفذ إلى ما وراء الواقع من أجل رؤية ملامح الأمل والخلاص، وذلك من خلال تعبير جميل عن الذات في لحظة رؤيا وكشف. إن هذا التباين في الرؤيا والموقف والفهم يعود إلى مضمون حالة الوعي الذي بنى عليها الشاعر صوره الشاعرية لتجسيد فكرته بلغته سهلة الاستيعاب والهضم.
تحيات د. عبدالله حسين كراز
أستاذ الأدب الإنجليزي الحديث والنقد المقارن