التفت ناحيتهم بكامل عنقه ورأسه التي كادت تنفصل عن جذعه الثابت ومالبث أن يلمح أولهم إلتفاتته العنيفة حتى هموا بالإنصات الشديد في انتظار حديثه الآمر ،بصوت قوي هامس يقول :
- الآن !
واستبقهم الى أسفل الكوبري حيث الطريق الممتليء بعربات الميكروباص والأجرة ..وهم على اثره يسيرون وكأن على رؤوسهم اسراب الطيور يخشون انفلاتها من بين ايديهم ،قبل الوصول لمنتهى الكوبري حيث الطريق المستهدف بدأت العربات بخاصة الميكروباص تبحث لها عن شكل منظم مما أربك السير المتدفق واصابه بعشوائية نجم عنها تعطل تام لكل ذي حركة على الطريق حتى الريح المعبأة بتراب ؛يجبر العين على الانتكاس؛قد توقف وسكن ..كل حركة قتلها السكون واصبح الطريق-طريق الذهاب داخل القاهرة- بمثابة حرماً للصمت وكأن الإله قد تجلى فأخذت الصاعقة كل حي ..حتى الجماد قد طالته الصاعقة فأعمدة النور التي كانت واضحة المعالم تحس بها صلة بالحاضر قبل أن يغطيها تراب اعادها عقوداً من الزمن للوراء وكأنها هربت من المواجهة القادمة أو تنحي نفسها عن شهادة وأمانة غير ذات حمل بها .
والغريب في الأمر فعلاً أن طريق الإياب لايزال في حركته الدؤوبة المستمرة لم يمسسه نصب فهذا الطريق يفضي بمتخذه من القاهرة إلى الجيزة ،وكأنه كون آخر لايمت بعلاقة للطريق الساكن هذا على الرغم ان من يروح في هذا يغدو في ذلك الآخر !
في حسرة شديدة تخرج من رحم اليأس دون أي صرخة أو همسة بل تخرج في صمت يغلفه السكون ..يحدث سائق ميكروباص نفسه :
هذا يومهم..اللهم أرؤف بحالنا واجعل كلامنا خفيفاً على صدورهم ،أو كلما ضاق بهم الحال نزلوا الينا من فوق !
الكل في ترقب حذر ازاء أولئك القادمين بسرعة دقيقة محسوبة الخطى محددة الاتجاه والهدف ..عرق المنتظرين يزيد ويسيل دون حساب وكأن اغوار العرق في اجسادهم قد طفحتها على سطح الوجوه وتحت الابط حتى الاماكن التي يندر افرازها للعرق خلقت لنفسها مساماً اوسع وراحت تفرز في كرم وجود منها وتكثف العرق بخاراً على زجاج مقدمة السيارة فحجبت رؤية القادمين بعض الشيء مما أكسب المنتظرين –من سائقي الميكروباص والاجرة-دفء الانتظار ورواح شيء من قلقه ،تطل رأس أحدهم عن يسار سائق في مباغتة قاسية الملامح ..ويطلب في عنف شديد :
- رخصك يارجل ..(في تصنع واضح يتأمل الرخصة وجوانب العربة )تفضل بركن السيارة جانباً ..هيااااا .
قالها في صوت مدوٍ ان سمعها عابر لاعلاقة له بالأمر لنفذه على الفور في تلقائية بدهش لها .
بدأ عدداً لابأس به يمر من السيارات دون لوم يذكر او نظرة تولي الاهتمام بشيء ونظرات الحسد والحقد تطولها من قبل سائقي الاجرة والميكروباص وترصف طريقها وتمهده ،وعلى الجانب غير البعيد هناك صفاً من سيارات الميكروباص والنقل القاطرة دون اي ملمح لسيارة ملاكي يزداد هذا الصف ويتراكم كانها الاطلال لاينقصها ولايعوزها خراب ،ينتظر رابعهم لينظم صفوف سيارات الطريق الذي طالته أنياب العشوائية بينما هم يعودون للسيارات الواقفة هناك تنتظر حسابها الآت .
أصوات الثلاثة تعلو كأنها سواط من نار يلهب أجساد من ينطق كلمة كأن في الأمر ثمة اعلان عن ردة او كفر بين ..حشرجات تتلفظ تأوهات وصراع بين كلمات محدودة حادة في غضبها مستشيطة وكلمات اخرى واهنة نسجها عنكبوت اللسان ربما يتصيد شيئاً من الرحمة به ..وياليت شعري !
غالبية السيارات الراكنة او المركونة بدأت في التدافع نحو الكوبري يهز أرجاءها خيبة جديدة والسائقون هنا يقودون خيبتهم تلك وفشلهم الذريع ؛في عقد صفقة مع الرزق والحياة؛في مهارة وخفة يحسدون عليها ،لكن لماذا الصعود الى الكوبري ألم يكونوا في سبيلهم نحو اكمال الطريق مباشرة دون الميل ناحية الكوبري مع العلم أن أحداً لم يوجههم أو يأمرهم بتغيير الطريق !
بينما يدير أحد سائقي الميكروباص من ذوي الخيبة الشديدة شريطاً للقرآن حيث تُتلى سورة البقرة بصديح عال ..يقول السائق المكفهر الملامح قسمات وجهه وكأنها رحم الغضب والانتقام ولدت :
- يبدو أنه صار لزاماً علينا الصعود لفوق ..فنحن لاينهش لحمنا ولايمس إلا في الأسفل ..فلنجرب كيف الحياة فوق .. مع هؤلاء !!
أحمد زكريا منطاوي
كتبت في : 3\11\2007