منصة الأحذيــة ...
منصة الأحذية
... وبعد أن جال جولته اليومية العسيرة، وبعد أن خاط من جديد كما اعتاد شوارع عديدة، متنقلا في أجواء المدينة الخانقة الصاخبة من مقهى إلى مقهى، ومن حديقة عمومية إلى أخرى، وبعد أن عرج في خط سيره الرتيب المعتاد على تلك المحطة الخاصة بنقل الركاب وهذه المحطة، انتهى به السير الطويل الشاق مثقلا بصندوقه الخشبي المعلق في يده اليسرى، وبكرسيه الصغير المتدلي من يده اليمنى، وملسوعا بسياط شمس حارقة، قد جف بها حلقه، ومنهكا بأحزان وأحزان قد ضاقت بها نبضات قلبه، وتقطعت بها الأنفاس المترددة في صدره ...
أخيرا وصل، بعد أن قفل عائدا من جولته، إلى مجلسه حيث سيحاول جاهدا التقاط ما تبقى من أنفاسه المتقطعة، وحيث سيظل يدعو، دون كثير إلحاح، المارة من الشباب والكهول بطرقات، يوقعها بماسحة الأحذية على صندوقه الخشبي، الذي صممه بشكل خاص كما صممه سواه، وكأنه منصة أعدت ليعتليها الحذاءان بالتناوب ...
مر رجل في الخامسة والأربعين من عمره، بعد طول انتظار الفتى، الذي لم يبلغ بعد سن العاشرة، فما كان منه إلا أن بادر إلى تحيته بأن وضع أمامه وقريبا من وجهه الشاحب قدمه اليمنى المرسلة في حذاء أسود قاتم، فانهمك الفتى يمسح الحذاء ويلمعه، في حين أخذ الرجل ينظر من خلال نظارته السوداء تارة ذات اليمين وذات الشمال، وتارة إلى ساعته اليدوية المذهبة ...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
رد مع اقتباس
