رجة في مقابر الخلود
وانزوى في فراشه مهموما.. مبتهلا.. مستأنسا بلا شيء.. ما عدا ظل من خلية الأحلام النائية.. تبسط أمام ناظريه بضاعته المحظورة.. تربصت حتى دثر السكون جوف قبره المعتم.. ركام من النغم أشاع في أوصال التربة المقدسة دفئا وجموحا.. بينما أصاب الخنافس من أكلة التراب بنوبة من الصرع مهولة.. ما أفظع منظر الجرذان المهجنة! كم هو فظيع عالم اللقطاء الأغبر، وحقير منتجع النمل الأحمر!.. يبكي وينوح.. يهش على الذباب المجنون يقاسمه سريره الأعرج.. ينظر بعين داهمها احمرار إلى الكوة اليتيمة فوق.. يهزأ.. يضحك فينفغر الفم عن أسنان كشظايا العيدان المحروقة.. ينصت من دون أن تبرح سحنته أهلة بنات الربيع.. كن يعدنه مشفقات.. مصغيات.. يعرفن أنه عريس منبوذ غير مرغوب فيه، لا يهم.. دسوا في قبضته سلسلة من عزم الجبال واستماتة الأهرام.. حلقن في سماء المقبرة مستبشرات.. كما هو على الدوام، منذ وطأت قدماه أعتاب المقبرة المنسية... يصغي إلى أطياف الصباح تباشر العزف على هامات الفصوص الماسية المدفونة في مقابر الطلح.. المزدانة بإسفلت الزبانية الجدد.. كانت الزوارق هشة كالغدير يطفح بنيران الأصدقاء.. كل السهول.. كل الآفاق الموغلة في بطن الرمال.. وهضاب الصلصال كما حكاها غزاته الجدد.. الجميع ينسحب كفعل الريح المعتمة.. الموسومة على نواصي الزيزفون. راح بالأمس وكان رواحه كالعقيق يطفو على سطح الثريا.. يوشح صدرها بدمع حار من صنع القلوب الآلية.. ورغم ذلك لم يأبه لشيء رغم وعيد الطوفان المكشر.. راح يتهادى على ذرى الأفلاك السيارة.. يحاكي عناد التين والزيتون.. يمتشق حربة من حراب الجن فاقت حربة العبد وحشي صولة ومضاء.. يرقص على حافة المراجل تغلي على نيران بليدة، وإن كانت ذات بأس وشدة.. صلى وأطال في صلاته وإن سلك سبيل التيمم.. رفع أكف الضراعة.. وأنهى جولته الروحية بضحكة... ربما انتهت متسللة إلى آذان العسس.. حفظ عن أسلافه البررة أناشيد ما تزال توشح ناصيته.. تحكي في نغم سرمدي عن عشاق الزيزفون.. إن حفدة الزيتون المتوارية أجساد آبائهم بين الجذور، وفي بطن الجذوع.. إن النواصي المحصنة بجدار مرجاني، لن يخبو لها بريق ولا تنطفئ لها ومضة.. شعارها قطف ألسنة السوط الأحمر.. غسل أديم الأرض وعتقها من بذور نسل جبان.. وعرض الذخيرة الملغومة على مخابر الثقاة وفطاحل الدهاة.. على شريعة القصاص الحازم.. هي الأيام تتمادى.. تتهادى.. تسرح في غنج على زرابي الأنس في رياض السلاطين.. ولكن هذه المرة انتفضت وسرحت مستعرضة ذيول فساتينها الأخاذة.. حملت الصخرة بتعاضد... وجرت بها أمام أنظار طابور الزيتون والزيزفون.. الكل يؤدي التحية العسكرية إكبارا وإجلالا.. وفجأة انتفض غيلان من فراشه العقيم.. رفع المصباح اليدوي في وجه وطاويط الليل، ولم يجد لهم أثرا.. نهض يتفصد عرقا كمن تلقى وحيا من السماء.. لم يبق مهموما مغبونا.. مبتهلا في محراب الخواء الموجع.. سار ينط كأرنب جريح في اتجاه الثقب ـ المسمى جورا مرحاضا ـ يشدو بأغاني من وحي ما يرقد في ذاكرة الخلود.. ينظر في كبرياء وغبطة إلى الرياح تنهار.. والزيتون يصفق ومنارات يافا تزهر في الأفق البعيد.. والعنادل تغرد.. تنثر الورود..تطلق الرجم مهللة مكبرة.. وفتح غيلان عينيه على رئيس العسس يتلقفه من ذراعه ويعيده إلى قبره كدأبه..
قصبة تادلة في 4 ـ 4 ـ2006
محمد غالمي