( الحـــظ والـشــاعرة )
الشمس تقترب من المغيب . الرياح تزمجر, الشاطىء يرقب الموج , البحر في صراع مع العاصفة .
مراكب هنا وهناك تنتظر لحظة هدوء , غاب الخيال عنها . أبى الشعر أن يحضر . أخذت (فادية ) القلم.
طلبت كوباً من الشاي . دخلت غرفة نومها . يكاد قلمها ينكسر.., لم تمهلها الرياح طويلاً .هبت عاصفة شديدة .
تبعثرت على لسانها الكلمات خرجت من قلبها الآهات . سقطت من عينيها دمعتان حارقتان على خديها .
ارتمت على سريرها المتوقد بحرارة مشاعرها الملتهبة من تصرفات مجتمعها الجاحد .
كتبت بأصبعها من دمعتيها على المرآة عبارة : ( لا يزال الحظ غائباً )..
غابت الشمس تماماً . باتت (فادية) ليلةً أشبه بليلة حلمٍ مزدوجٍ . أرَّقها ذلك كثيراً .
أسفر الصباح عن خبرٍ جميلٍ . كلفت بإدارة إحدى المدارس في المدينة . استقبلت ذلك الخبر بابتسامة عابرة .
لكنها لم تمحُ آثار الحزن الواضحة على وجهها , لازالت الصورة في عينيها قاتمة , التهنئات تمر بها مرور الكرام باللغو , إلا من تمتمات لا تكاد تُسمع أو تُفهم , .
مرت السنون و(فادية )مثالٌ حيٌ للمديرة المخلصة المتميزة . تألقٌ , جديةٌ ,انضباطٌ , تعاملٌ , تضحياتٌ , جهودٌ جبارةٌ, مشاركاتٌ رائعةٌ,.
سبع سنين من العطاء المستمر كأنها أحلامٌ لكنها حقائقُ ملموسةٌ , نجاحاتٌ باهرةٌ رغم كل الجهود المبذولة , الصعوبات التي تجاوزتها ,
الظروف التي تغلبت عليها , . (لا يزال الحظ _ كما هو حال الشعر _ غائباً )
يوم جديد . دقت الساعة مشيرةً إلى السابعة صباحاً . كل شيءٍ يدعو إلى التأمل ؛ تلبدت السماء بالغيوم , تفتح الورد, شقشقت العصافير ,
غردت البلابل , تراقصت الأغصان , كانت الأرض على موعد مع السماء. أخذت زخَّـات المطر تتساقط على المدينة .
الجوُّ بديعٌ , النسمات عليلة , . (فادية) : يا إلهي .. ! شعور غريب ينتابني اليوم , كأن في الأمر شيئاً ..,
مرت الساعات عليها سريعاً . نظرت إلى الساعة قائلة : الواحدة ظهرا ... لابد لي من إنجاز أعمالي المتبقية .
أحضرت الملفات , دونت البيانات , أخذت تتجاذب أطراف الحديث مع مسؤولة النشاط في المدرسة . قاطعتهما (المراسلة) قائلةً :
هذا خطاب من الإدارة جئت كي أسلمه إياك .. أخذته , فتحته , قرأته , كادت أن تصعق . لم تكن تتوقع ما فيه , . مسؤولة النشاط : ما الأمر ؟ . (فادية) : لقد تم تكليفي معلمة للصفوف الأولية .. مسؤولة النشاط : هل هذا يعقل ؟ هل هذا جزاء البذل والعطاء والتضحيات ؟
(فادية) : لا ضير , لا ضير , .. عادت إلى قلمها . أمسكته علها تكتب به قصيدةً تعبر فيها عن حالها . وجدته مكسورا ,
لم تفلح كل المحاولات . أيقنت أن الحال كما هو عليه . استدركت ذلك قائلةً :
غدا ستكتب أيها القلم , (وإن غداً لناظره قريبُ ... )
ذاع صيتها , سطع ولمع نجمها , إخلاصٌ له بريقٌ , عملٌ دؤوبٌ , نشاطٌ مميزٌ , جديةٌ لا مثيل لها , أخذت مكانة مرموقة بين زميلاتها .
هي تستحق ذلك . تُبارك , تُـشارك , تعمل في صمت بعيدا عن الإعلام , تُبذل بلا حدود . تعطي بلا مقابل .
(فادية) كالشمعة التي تحترق لتضيء للأخريات . عاد الأمل إليها من جديد. أمسكت بالقلم تحت إصرار وإعزاز بالنفس . هتفت بأعلى صوتها ..
وجدتها .. وجدتها .. وجدتها ...!
لم تنتظر حينها كثيرا , كتبت قصيدةً رائعةً , في أقدس البقاع , عاصمة الثقافة ,(مكة المكرمة) تركت في ذاكرتها أشياء وأشياء. طبعتها , نشرتها في كتاب.
كانت بمثابة الانطلاقة المأساوية . فرحت قليلاً,تلاشت آثار الحزن التي كانت علامةً فارقةً تميزها عن زميلاتها , لكنها سرعان ما عادت .., بدأ الحسد يدب في قلوب الزميلات .
الغيرة , الاستهزاء , التحيز , غابت .حضرت . الحالان واحدةٌ .
ابتعدت عن القلوب , لم تلق تقديراً كما كان ينبغي , لم تكن تنتظر المكافآت . الجوائز , الترقيات , ذهبت كل خطابات الشكر . شهادات التقدير ,
عبارات الثناء , لمن لم تعمل , لمن لم تجتهد , لمن صعدت على أكتاف الأخريات .
كانت في أمس الحاجة إلى كلمة شكر فقط . لمسة وفاء . لكنها لم تجد إلا سراباً بقيعة ., يحسبه الظمآن ماءً .رغم شدة الظمأ , طول السفر ,
وعورة الطريق , متاعب الحياة , سهر الليالي , لم يشفع شيءٌ من ذلك كلِّه لها عند أصحاب القلوب الحاقدة . وصاحبات النفوس الحاسدة.
في مجتمعٍ يحارب المبدعات , ولا يعرف قدر المخلصات .,
دقت الساعة معلنةً الرابعة والنصف فجراً ؛ عندها أمسكت (فادية) بالقلم, لتكتب به قصيدة لكنها لم تستطع كتابة بيتٍ واحدٍ .
حاولت وحاولت لكن دون جدوى .., أدركت أنها غير قادرة على الكتابة . سرعان ما أصبحت تكره ذلك . حزنت كأنما حيل بينها وبين الشعر .,
لا تدري عن الأسباب , أحاطت بها الحيرة , آثرت على نفسها , زفرت زفرات المعاناة . لملمت أوراقها , جمعت كتبها , وضعتها في حقيبتها ,
أطفأت المصابيح , الدمع يخترق جدران الصمت في الغرفة . يجتاز حواجز الحرمان , يثير بركان الحظ المنزوع من صخور جبال ( الهملايا ) .
حملت نفسها , ألقت بجسدها المتهالك المحمل بهموم مجتمعٍ لا يعترف بالإبداع , على سرير أحلامها الوردية . كأنها تريد أن تنام على فراش من حرير.
على شواطىء البحار اللازردية . كأن (النوارس ) تردد معها بصوت حزين .. ( ولد معكِ الحظ العاثر وسيموت معكِ).
اغرورقت عيناها بالدموع , كتبت خلف حقيبتها ... أيها الحظ لتكن بعدي قصة تُروى للأجيال الجديدة على عتبات الزمن القادم
عنوانها (الـحــــــــظ والـشــــــاعـــرة )....