الفصل الثاني ... طائرة ورقية
كان عزيز مليئاً بالحركة لا يستريح, يتنقل من مكان لآخر ويضحك لهذا وذاك, ويلقي بكلمات تجعله يضحك قبل أن يقولها. فلقد كان باعثاً للحيوية في تلك الجلسات المملة. بعضهم على طاولة النرد, والبعض الآخر يلعب الورق, ونظرات ريبة مع بساطتها تضفي بعض الغموض على تلك الجلسة, وآخر يستلقي على مقعده وهو يعانق الدرب لا يلتفت إلا لذلك الرصيف, ولا يرى سوى أحذية سوداء وبنية وبيضاء, وأحيانا يراقب أقدام القطط حين تقف لتبحث عن شيء بين القمامة, ثم تولي مسرعة نحو لاشيء. في الزاوية المطلة على ساحة القرية, يجلس أحمد وصديقه حمدي يتحدثان عن مباراة الغد في المدرسة, وبعض الأمور الأخرى المتعلقة بالتحضير لتلك المناسبة. وفي اللحظة يبتسم حمدي لشخص يعبر الطريق باتجاه المقهى ويقول:
أهلاً أستاذ فارس تفضل, أريد أن أعرفك على صديقي.
التفت أحمد, فعرف أنه المدرس الجديد القادم من مدينة أخرى, ذاك الذي انتقل إلى المدرسة حديثا. وقف ثم ألقى التحية. ابتسم فارس وأخذ كرسياً من طاولة أخرى ليجلس معهم, ثم نادى حمدي عزيزاً, فجاء مسرعاً وقال:
أهلا بالمدرسة ومعلميها ماذا أقدم لكم ؟
فقال أحمد:
اسأل ضيفنا ماذا يشرب.
أجاب فارس:
فنجان قهوة وسط إذا سمحت.
استمر الجميع بالحديث, ولم تكن الأحاديث تأخذ أية خصوصية أو تركيزاً على موضوع معين, مجرد كلمات لا تتطرق لشيء يبتعد عن مشاهدات يومية, وأحوال عادية. فكما قلت كان المكان ركناً يمزق حاجز الصمت الذي يسكن الدروب المؤدية إلى المساكن المتلاصقة في القرية.
سكن الليل, وسكتت معه الأحاديث, وعاد الكل إلى بيوتهم يسلكون الدروب المؤدية نحو سواقي التواجد اليومي
يدخل أحمد إلى البيت,وكانت والدته تعد العشاء فقال:
مساء الخير يا أمي.
أهلاً يا بني, كيف حمدي؟, ألا يزال وذلك الجنون و الشكوى ؟.
بخير, وكما هو لا يتغير أبداً, كباقي الأمور الأخرى في هذا المكان. آه نسيت أن أقول لك, فلقد دعوته وزميلاً جديداً في المدرسة للغداء عندنا يوم غد, هو شخص لطيف وأحببت أن أقدم له واجب الضيافة.
كما تريد يا بني, ولكن عليك أن تصحو مبكراً في الغد كي تحضر لي بعض الأغراض اللازمة.
حاضر يا أمي, أعلم أني أتعبك أحياناً ولكن...
لا يا بني, فهذا واجب. هيا تعال الآن إلى العشاء.
حسن يا أمي, ولكن سأغير ثيابي ثم أعود حالاً.
بعد العشاء عاد إلى غرفته, وأخذ يرتب أشياءه المبعثرة, ثم استلقى على السرير ينظر إلى السقف, هو يبحث عن معنى التواصل مع تلك الأمور اليومية. يفكر بحمدي وفارس وعزيز, ثم يغمض عينيه. يريد أن يقول أشياء كثيرة, ولكن لمن سيقول. أشعل سيجارة وذهب إلى المكتب قرب النافذة, تناول القلم, وبدأ ينساب على الورق بكل ما يثير فكره في تلك الليلة, فهو دائم التساؤل عن معنى الحياة واختلاف أشكال البقاء, فكتب:
طائرة ورقية
تحلق في فضاء واسع
تحسدها الطيور على ألوانها
وعلى وجهها الكبير
تحلق
ترقص للريح
تتمايل زهواً
لكنها مربوطة بخيط رفيع
ويد طفل صغير
لا تقدر أن تحلق أكثر
ولا في الأفق تطير
كانت طائرة ورقية
إن بللها المطر تذوب
ولا يبقى منها سوى الخيط
ويد الطفل الصغير
فما الأقدار وما المصير.
ألقى القلم على الأوراق ثم اقترب من النافذة ليستنشق بعض الهواء النقي. تراجع دون أن يطفئ النور, واستلقى على السرير, وترك عيونه تدور وهي تبحث عن قرار أو مصير. كان السقف أبيض وبلا ملامح. أيجد في الحلم شيئاً؟, لم يكن يدري, ولم يملك سوى أن يغمض عينيه.
في اليوم التالي عاد الجميع من المدرسة إلى بيت أحمد, وأمضوا فترة بعد الظهر هناك, تعرف خلالها فارس على والدته. وابتدأت بينهم في ذلك اليوم صداقة من نوع آخر. حين تقاربت أمور كثيرة تجمع بينهم في طرق التفكير وتلك النظرة للأمور.
كان يحمل أفكاراً تلقى تقبلاً من فارس, وتجيب على كثير من تساؤلاته, كان الآخر محباً للمعرفة وقد قال بأن نقله إلى هنا أثار فيه الفضول, خصوصا, أنها أماكن جديدة وأناس آخرون, ومشاهدات تحمل طابعاً يختلف عما يجده في مدينته الساحلية. كلا الطرفين له اهتمام مغاير لما تتطلبه الحياة اليومية العادية, من بساطة واقتناع. غادر الجميع المنزل قبل غروب الشمس, وأخذتهم الطريق والأحاديث إلى خارج القرية, حيث الطبيعة الخلابة والحقول المترامية على امتداد البصر. وتراءت لهم خلف التلال المحيطة بالقرية تلك الغابة الكثيفة, كانت داكنة وغامضة, خصوصاً بعد غياب الشمس خلف التلال.
سأل فارس:
هل من الممكن أن نذهب إلى تلك الغابة ؟, كم أحب أن أرى ما بداخلها, هل هناك غزلان وحيوانات بريه؟.
ضحك أحمد وقال:
ليست كما تتصور يا صديقي, يوجد هناك حيوانات برية, لكنها أرانب وثعالب صغيرة, وأنواع عديدة من الطيور. جميل أن نمضي هناك يوماً من أيام العطلة الأسبوعية, قريبا سنذهب برحلة طوال اليوم, وسترى العديد من الصيادين والحطابين, بعضهم يقصدها للهواية وآخرون لطلب الرزق. وسأعرفك هناك على الرجل العجوز, هو يسكن في ذلك الكوخ الصغير. أترى الضوء بين الأشجار على المرتفع؟, هناك يسكن, فهو يتكفل بحماية الغابة ممن يقطعون أشجارها الخضراء, وممن يغالون بالصيد. ليس موظفا تابعاً لجهة ما لها علاقة بالبيئة, ولكنه اختار المكان هناك لكي يحافظ على الطبيعة, وليجد مسكنا فيه, ولا أجمل من تلك البقعة التي يقطن فيها.
تابع يقول:
هيا بنا, بدأ الظلام يحل على المكان, وأمامنا درب طويل للعودة إلى القرية.
عاد الجميع, ولم يعـد هناك حديث. يسيرون بصمت, ولم يبق سوى أصوات صغيرة تأتي من هنا وهناك, بدأ السكون يرخي بظلاله على الأشياء وكأن الطبيعة تغفو بنوم هادئ وجميل.
في اليوم التالي, كان أحمد في طريقه إلى السوق لشراء بعض الأغراض اللازمة للأرض, فلقد أوصته والدته على أنواع من البذور وبعض العدد الضرورية. كان يفعل الأمور المطلوبة وبكل الرضا, ليس بآلية التعامل مع الأمور, ولكن لإحساسه الدائم بأن هناك ما يجب أن يكتمل, حتى تأتي أمور أخرى تكون أكثر إثارة. كان يجد في مسير الحــياة اليومية إحساساً وكأنه المخدر, فهو ليس بحاجة إلى الوعي الكامل حتى يستلقي على أريكة, أو يتناول فنجان قهوة, فكل الأمور الاعتيادية أصبحت أموراً عفوية ومتكررة, لا تحتاج إلى أي انفعال زائد, أو أية يقظة حسية. كان دائم الانتظار لمنعطف حاد يصادفه في مسيره على درب الأيام. ولكن, وحتى الآن يتراءى له الدرب وكأنه يمتد على مد الأفق, نحو أبعاد غير مرئية, وخوف دائم من أن يتعدى الأمر تلك الأبعاد نحو قادم مجهول. وبينما هو في تلك الهالة من الأفكار, أحس بيد تلامس كتفه, نظر إلى الخلف وابتسم, فلقد كان فارس.
اعذرني, بالفعل لم أنتبه, ما هذه الصدفة؟, وإلي أين أنت ذاهب؟
ليس لمكان محدد, لقد مللت الجلوس في البيت, فأخذت أسير في الطرقات قليلا, أو بالأحرى كنت أقصد المقهى علّي أجدك هناك.
جيد أني التقيتك, هيا تعال معي, أريد أن اشتري بعض الحاجات, ثم نعود سوية إلى البيت, لترى غرفتي وتجلس عند النافذة وكأنك في المقهى.
عند المساء, وصل الاثنان إلى البيت, لم تكن والدة أحمد هناك. كانت تقوم بزيارة لبعض الأقارب منذ يومين في قرية أخرى, فهي تريد أن تبحث له عن عروس مناسبة, علها توفق هذه المرة في جعله يفكر بالزواج. فتح باب الغرفة, واقترب من النافذة, ثم وضع كرسياً آخر هناك, وطلب من صديقه الجلوس ريثما يحضر القهوة.
بدأ فارس يجول بنظره في أرجاء المكان. فهناك يرى سريراً من الخشب, مرتباً وجميلاً, وخزانة لا تحمل فوقها أية حقيبة سفر. ثم شاهد تلك اللوحة المعلقة على الجدار المقابل, كانت لبحر هادئ معتـــم, ومركب تمتد صاريته نحو السماء وبلا شراع, وكأنه مهجور في المكان منذ آلاف السنين, جبال بعيدة سوداء فارقها ضياء الشمس, ومرفأ صغير بلا حراك.
كانت لوحة لمكان بلا زمن, وكأنها ذكرى البحر والإبحار, كئيبة بعض الشيء, لكنها تحمل معنى للحياة يأتي به الصمت والسكون, وتوحي بإشراقة جديدة ليوم جديد ولزمن آخر. أعجبته الساعة على المنضدة الصغيرة, قديمة كانت ويلازمها الوقت حين يلتزم بالحضور دون ملل. وفي الزاوية القريبة من الباب تمتد أرفف متعددة تحوي العديد من الكتب, تتراكم بلا ترتيب. نظر أمامه, فرأى أيضا طاولة المكتب, مليئة بأوراق مبعثرة وأقلام, وكراسة كتب على غلافها * أيام وكلمات*. وحتى على السجادة الصغيرة أوراق هنا وهناك, ملقاة لم تعبث بها الريح ولا الزمن, راكدة بلا حراك. نظر من النافذة وأخذ يرقب المنظر, أخذته الدهشة حين رأى المقهى والساحة والمارة, فلم يكن يفصله عنهم سوى شجيرات الحديقة الأمامية للبيت, ورأى بدايات الدروب المؤدية نحو الأحياء, وكأن المكان هو انطلاقة الحركة والحياة.
أحس بأنه بين عالمين, عالم خارج النافذة يتكرر في الأزمان, وفي القرى والمدن, وعالم آخر, يبدأ من داخل تلك الغرفة, ليمتد حتى أعماق ساكنها, فهي ذاكرة النافذة تخبئ ما يحدث في الخارج. أخذ يبتسم حين رأى عزيزاً يتراقص بين الجالسين في المقهى.
ومع محدودية المكان والجسد, إلا أن الدرب الذي يأخذنا نحو أعماقنا, هو درب بلا نهاية لعوالم أخرى, لا تعترف بالأحجار ولا الأسوار, ولا يحكمها البوح ولا الصمت.
دخل أحمد وهو يحمل القهوة وقال:
أهلاً بك, آسف على ما تراه حولك من فوضى, فأنا لا أسمح لوالدتي أن تلمس أوراقي, لأني أعرفها حيث وضعتها, وأتوه عنها عندما تأخذ شكلاً أكثر تنظيماً. أحس بها تحاكي أعماقي المبعثرة بين الشك و اليقين, وبين الماضي وما سيأتي.
بالعكس,لم يزعجني شيء, فهي غرفة جميلة ومطلة على عالم أكثر اندماجاً مع واقعنا. أعجبتني اللوحة كثيرا. واراك تحتاج إلى امرأة تغير ملامح هذه الغربة المقيمة بين الأشياء وأعماقك , و إلى أمور أكثر إثارة من جلوسك وحيداً. أظن والدتك تؤيد كلامي, فهي الأخرى بحاجة إلى من يؤنسها طوال النهار, ولمن يساعدها في أعمال البيت.
ضحك أحمد وقال:
لا يا صديقي, أمي تمضي معظم يومها في الأرض, وتعود لتكمل أعمال البيت, منتهى السعادة عندها حين تتحرك لتعمل وتنظف, فهي تمارس ذروة الحياة من خلال نشاطها الزائد, ولا تقدر على الجلوس لحظة واحدة دون عمل. تتمنى ما تقوله أنت, كباقي الأمهات, وقد ذهبت بزيارة لتبحث لي عن فتاة. صدقني يا عزيزي, لا أملك في داخلي أي تخيل بأني سأتزوج من هنا, ودائما ما كنت أشعر بأني سأصادف فتاة أحلامي في مكان آخر, مجرد هاجس دائم, لذلك أنا لا أهتم بأي فتاة, وكأني موعود بأمور أخرى لا أعلم ما هي, أحس بأن العالم مليء بأمور لا نفهمها, ولا ندري متى ستأتي كالمنعطف الحاد, لتغير مسيرة الدرب التائه فينا. اشرب القهوة قبل أن تبرد فلقد نسينا أمرها.
أخذ فارس يرتشف القهوة وهو يتأمل الساحة الحجرية الواسعة, وبقايا لأعمدة تحيط بها, والتي تنتهي عند الطريق المحاط بالأشجار العالية على جانبيه, والذي يمتد إلى خارج القرية, كان بمثابة المدخل لهذا المكان الواقع بين الجبال الخضراء. نظر إلى أحمد وكأنه ينظر من خلاله, لعله يجد الإجابة دون أن يسأل.
ماذا هناك, بماذا تفكر ؟
آسف ولكني أستغرب أمراً وأريد أن أسألك عنه منذ أن وصلت هنا, إلى هذا المكان. لم أستطع أن أجد أي ارتباط بين الساحة المرصوفة بشكل متقن, وتلك البقايا لأعمدة وكأنها كانت تحيط بكل تلك الساحة. أراه نظام بناء مختلفا تماما عن باقي المباني هنا, وتلك الأشجار العالية منظمة بطريقة مختلفة أيضا, فلأول وهلة تشعر وكأنك تدخل إلى مكان من زمن آخر وحضارة أخرى, بالطبع ليست آثارا قديمة ولكنها...
ضحك أحمد وقال:
بالفعل يا صديقي, فهمت الآن معنى أنك أحببت انتقالك إلى مكان آخر, وهو لأنك تحب أن تعرف أكثر. فقصة هذه الساحة طويلة وقديمة بعض الشيء, وكأني سأبدأ أحدثك عن تاريخ قريتنا. ومع أني أستاذ تاريخ, إلا أني ولأول مرة أحس بأني سأسرد تاريخا مقيماً حولي, لم أكن أعره أي انتباه من قبل, ربما لأني اعتدت على هذه الأمور وعايشتها منذ الصغر.
أترى ذلك المكان بجانب المقهى؟, كان هناك في الماضي مبنى ضخما أشبه بالقصر, مع اختلاف في الملامح الخارجية فقط. فلقد كان مقرا لتلك الحامية التي بقيت تعسكر هنا في هذه المنطقة, والمقهى وما خلفه من مخازن للحبوب, كانت في الماضي إسطبلات للخيول.
كان المقر يتكون من ثلاثة طوابق, في الأعلى يقيم قائد الحامية ومكتب القيادة, وفي الثاني مكان إقامة الضباط والجنود والطابق الأرضي كان عبارة عن معتقل, ومخزن للذخيرة والتموين. أما الساحة فكانت الجزء الأمامي للمقر حيث العربات والخيول, ولم تكن بيوت القرية ملاصقة للمكان, فلقد كانت بيوتاً طينية قديمة, أقرب إلى الحقول منها لهذا المكان. كانت تلك الأيام حسب ما قرأت وسمعت من الحكايا, هي أسوأ فترات منطقتنا, حين بني المقر هنا. لأن قريتنا تتوسط قرى كثيرة ومناطق زراعية خصبة وكان الفلاحون عبيداً, مجرد عبيد يعملون بالسخرة حتى في أراضيهم, تثقل كاهلهم الضرائب الكبيرة ومطالب قاسية, لتموين هؤلاء القادمين من مكان آخر, جنس مختلف ولغة مختلفة, حتى الشباب في مناطقنا, كانوا يعملون في البناء والطرق, و يجندون أيضا لمعارك وحروب في أماكن أخرى, كانوا يأخذون كل شيء جميل ولا يبقى لنا سوى البؤس والشقاء.
غدا سآخذك معي إلى نبع الماء غرب القرية, بنيت هناك أحواض كبيرة لسقاية الخيول, ولتأمين الماء للمقر ومن فيه, ينقلها الفلاحون على الدواب كل يوم, فكثيرون من أهل القرية كانوا يعملون خدماً في هذا المقر. على كل حال تلك كانت فترة بائسة, تتخللها خطايا وظلم, وتضحيات وشقاء, ولم يكن هناك في ذلك الزمن مكان للأحلام, ولا للحب ولا معنى للفرح. كان جدي من الذين ذهبوا إلى الحروب القديمة ولم يعد, ولا أحد يعرف عنه شيء. المهم زالت تلك الأيام وخسرنا الكثير من شباب المنطقة, وهكذا حصل في باقي المناطق الأخرى, وعندما خرج آخر جندي من المقر, أشعل الأهالي النار في المبنى, وبقي مشتعلاً عدة أيام, حتى تهدم وأصبح ركاماً, وأصبحت ذكرياته البغيضة رماداً, سرعان ما تناثر مع الريح في فضاء النسيان. أزيلت تلك الأنقاض ولم يبق لذلك المبنى أي أثر, سوى الإسطبل والساحة وذاك الدرب, وأيضا تلك الأحواض عند نبع الماء, بقيت منذ ذاك الوقت لتستخدم كمشارب للدواب والمواشي.
كانت تلك الأبنية والساحة والأشجار بدون خطايا, لذلك بقيت, لكي تكفر عما حصل. أما المقر وكل الظلم, فقد توارى خلف الزمن, ولم تستخدم تلك الأرض لأي شيء, هي الآن مجرد ملعب لأطفال القرية حيث الضحكات البريئة والعيون التي تحمل أملاً ورؤيا جديدة لعالم أفضل. للعلم يا صديقي بعد تلك الفترة عم الكساد والفقر, وأصبحت البطالة داء يعم كل المناطق. كنت صغيراً عندما سافر والدي ليعمل في بلد أخرى, تركني ووالدتي وللآن لم يعد, مضت خمس وعشرون سنة ولا نعلم عنه شيئا. لكن الحياة تستمر, ولا تزال الأشجار تثمر وتعبق الزهور, حين بدأت تشرق شمس أخرى, وبقينا نملك مع الاستمرار الأمل.
لم يكن فارس من عالم آخر, فهو يعرف ذلك التاريخ جيداً. تأثر كثيرا مما سمع, وضع يده على كتف أحمد وقال:
أنا آسف, لم أقصد أن أحرك الظلال أمام عينيك, وأرجوك أن تقبلني صديقاً, وأخاً مع كل تقديري.
وأنا يشرفني ذلك.
نظر فارس إلى الساعة, كانت تتجاوز الثانية عشرة, قام واستأذن بالانصراف, ثم أخذ يعبر الساحة, ومع كل الهدوء المحيط بالمكان, إلا أنه سمع وقع حوافر الخيل, وأصوات الألم من تلك النوافذ ضيقة, هو الصراخ يأتي من بين الأحجار المرصوفة. متقنة وجميلة ولكن للأسف تبقى, تحمل ذاكرة الألم. توالت الأيام, وتناثرت الأحداث خلف جدار الذكريات, فهي تختبئ خلف التغاضي.
لم تستطع والدته أن ترسم على مخيلته أية فتاة من تلك القرية, كثيراً ما كان يحب أن يمارس الحياة اليومية دون مؤثرات تأتي من منطقيات يصنعها العقل, فهو دائم الانتظار لشيء جديد يأتي, دون ممارسة لتقليد أو عرف قائم, ويرفض أن يخضع لتجربة, كما تسير الأمور مع باقي الناس, بمنتهى الآلية والاقتناع الغريزي. فهو غالبا ما ينظر إلى الحياة بمنظار مختلف, تماماً كأنه إحساس الزائر, مع كامل المسؤولية تجاه التواجد الموروث, دائماً ما كان يريد أن يملك شيئا آخر, كالوعي مثلا. فلقد كان يتوه في المفهوم ولا يناقش أمره مع الآخرين, يفضل الصمت مع ابتسامة دون البوح بأية رغبة أو امتناع.
الفصل الثالث ....صمت على الطرقات
في يوم العطلة خرج من بيته في الصباح, وعبر الساحة مسرعاً, متوجها نحو بيت فارس, كان بحاجة ماسة إلى من يناقشه ويحاوره, والى من يتعايش معه في أمور أخرى, محاولا أن يختلق الأحداث على أن يستسلم لما يحدث.
دق الباب وخرج فارس قائلا:
أهلاً.
صباح الخير, ما رأيك أن نخرج اليوم في نزهة خارج القرية؟, أشعر بالضيق, وأريد أن أمضي اليوم خارج نطاق المألوف.
فهم فارس من كلامه عن حاجة ماسة للحديث, لذلك أحس بضرورة مرافقته إلى أي مكان يريد, فهو أيضا يحب أن يعرف أكثر عما يجول في خاطر الآخر عن معنى الأشياء, فقال:
ادخل الآن, سنشرب القهوة ثم نغادر, كم أتمنى أن أرى تلك الغابة, وأن نمر بطريقنا على نبع الماء والأحواض, أريد أن أرى وأعيش تلك الحقبة بكامل المشاهدة والإحساس.
كان فارس يسكن في غرفة ضمن بيت كبير لعائلة من القرية وله مدخله الخاص, لذلك كان شعوره بالراحة التامة في هذا السكن, خصوصا وأنه يطل على الوادي ذلك الذي تنساب إليه سفوح الجبال المقابلة, منظر جميل وساحر, خصوصاً عند مغيب الشمس, فهو يجلس أمام غرفته ويراقب الكون من مكان آخر, بمنتهى الروية والسكينة.
خرج الاثنان يسيران نحو الطريق المؤدي إلى نبع الماء, كان أحمد يتحرك بصمت دون أي حديث, والخطوات بكل عفويتها تنسحب نحو المنحدر. ومع أن فارس يحمل سؤالاً, لكنه أيضا يحمل التردد في الحديث, فقد استمر يراقب العربات العائدة من الحقول, ويرى الفلاحين هناك حيث يجلسون تحت الأشجار القديمة, لعلها فترة الراحة بعد عناء العمل, كم تمنى في داخله لو انه معهم,ففي ذلك الوقت الذي يمتد على مر الأزمان, وعبر حياة الأرض وعلاقتها الحميمة بالإنسان, يبقى الكل في خدمة الآخر بمنتهى الحب والعطاء.
خرج أحمد عن صمته وقال:
تعال لننزل من هنا, فالطريق أقرب وأسهل, ولم يعد أمامنا الكثير كي نصل إلى نبع الماء.
تحدثت أخيراً وقلت شيئا؟, بالمناسبة أريد أن أسألك, ماذا فعلت والدتك في تلك القرية؟.
وماذا ستفعل ! أعجبتها إحدى الفتيات, وأخبرتها بأن تنسى الموضوع نهائياً.
عجيب أمرك, شاهد الفتاة أولاً ثم بعد ذلك قرر ما تريد.
للأسف, الأمر بحاجة إلى دافع يأتي من الداخل, وأنا لا أجد بأني أملك ذاك الدافع, لكي يجعلني أفكر في الزواج أو حتى الرغبة في أن أكون تحت المجهر أمام عائلتها, وأن أمارس الانتقاء والمقياس حين أراها.
عزيزي دائما نحتاج إلى شيء يخاطبنا من داخلنا, ويهجس فينا لنقوم بعمل ما, خصوصاً حين يكون قرار كهذا, استقرار وتغيير نمط حياة, لا يختلف كثيرا عن حياة من سبقوني إلى ذلك, أراهم وليس جميعهم يعيشون حياة رتيبة تحمل مسؤولية وأعباء, دون سعادة كانوا ينتظرونها أن تأتي بعد الزواج.
على كل حال لن أظلم مبدأ الزواج, فهو سنة حياة, وأظن الأمر يبعدنا عما جئنا من أجله. انظر هناك في الأسفل, تلك هي الأحواض التي حدثتك عنها وذاك هو نبع الماء, هو لم يعد غزيراً كالسابق, ولكنه كباقي السواقي المتناثرة في أرجاء الأرض يعطي دون توقف. تعال وانزل من هنا, فهذه الدرجات عمرها من عمر الأحواض, واحذر أن تنزلق قدماك فالأحجار ملساء ورطبة.
نزل الاثنان إلى نبع الماء, كان بارداً جداً. غسل فارس يديه ووجهه, وشرب من ذلك الماء وقال:
الله ما أجمل الطبيعة!
نظر إلى الأحواض, كانت بالفعل مبنية على نفس طراز الساحة والمقهى, ورأى الأغنام والطيور وهي تشرب من الأحواض.
قال له أحمد:
هناك في ذلك المكان كانت تقف العربات, وعلى تلك الصخور كان يجلس الجنود بانتظار ارتواء الخيل, ومن النبع هنا كانت تملأ أوعية الماء, وتوضع على الدواب, ليذهب بها الفلاحون إلى المقر ثم إلى بيوتهم, هو مصدر الماء الوحيد للقرية كلها في تلك الفترة. أما الآن, وبعد أن وصلت المياه عن طريق الخطوط, لم يعد للمكان أهمية كالسابق.
يأتي بعض الفلاحين, وأحيانا ترى الصيادين الذين يملأ ون بعض الماء قبل ذهابهم للصيد, لو تعلم يا صديقي كم هي الحكايا التي تدور على ألسنة أهل القرية, عن زمن الظلم وعن هذا المكان, فكم حصلت خلافات هنا بين الجنود وأهل القرية بسبب توزيع الماء, وكم شهد المكان العديد من الضحايا من الطرفين. أخبرني الفلاحون بأنهم لا زالوا يسمعون أصوات الخيل, وأمورا أخرى غريبة في المساء, لأشباح وحركات مريبة, وكأن المكان مازال عالقاً بين الحاضر وبين ذلك الماضي القديم.
تابع أحمد يقول:
أظنك استرحت من السير, هيا بنا لنكمل نحو الغابة, فالطريق إليها صار قريباً عبر تلك الدرب, هي ليست بعيدة عن تلك التلة المقابلة. سار الاثنان وبقي فارس يلتفت للخلف, عله يدخل في ذاكرة الأماكن, ولكن سرعان ما اختفت الملامح خلف الأشجار, حين ابتدأ صعود التلة نحو الغابة. صارت الطبيعة تأخذ شكلاً آخر كلما تقدما أكثر, فكل ما حولهم ينبع من عفوية لم تتدخل فيها يد الإنسان, بدأت الأشجار أكثر كثافة, وارتفاعها الشاهق نحو السماء يعطي للمكان معنىً آخر, فهو يشعرك بالرهبة
تنساب خيوط الشمس بين الأغصان المتشابكة بتناغم ساحر, وبتوزيع مدهش للضوء والظل, فكانا كلما تقدما يبتعد العالم من خلفهم,ويصبح للهدوء رونقاً آخر, كانت خطواتهم تدب على أرض طرية, وكأنها تفقد الجاذبية, فتراكم أوراق الشجر مع مرور الوقت, أعطى لطبيعة الأرض مرونة غريبة, ولم يكن من السهل أن يتبينا ملامح المكان دون الانحناء للرؤية من خلال جذوع الأشجار الضخمة, تلك التي تعاند الزمن في البقاء. طيور وتغاريد وبكل أصناف الصوت, عذوبة وسحر, وكأنها احتفالات عالم آخر.
بين تلك الأغصان, ومع تلقائية النمو, وتلك العفوية والانتقاء, إلا أنك تحس بعبقرية التنظيم, ذاك الذي يتشكل من رؤى مبعثرة, تعني الغابة والعفوية, والطبيعة الساحرة بكل عذريتها. استمرت الخطوات, واستمر الصمت والدهشة للجمال, وكان الارتياح ينساب إلى عقول السائرين نحو رؤية أوسع وأشمل, ونحو صفاء لا يقاوم.
ينظر إلى صديقه مبتسماً حين يراه مأخوذا بما يشاهد حوله ثم يكمل سيره دون أن يقاطع الاندماج.
فجأة استدار فارس وقال:
كم هو ساحر ما حولنا, أليس هذا هو الصمت الحقيقي , أم هو الجمال؟.
نعم هو جمال وحقيقي, لا تجده دائما, إلا عندما تنسجم مع ما حولك بالكامل,عندها تصبح جزءا من حركة قادرة على تحقيق الرغبة في الامتناع.
ما هذه التركيبة؟, أراك تخرج عن صمتك إلى حديث لم يكن يصمت في أعماقك.
أقصد أنك نسيت نفسك مع ما حولك, وبما أنه جميل, ونسيان النفس مع الجمال يؤدي إلى الامتناع عن الرغبة, فالرغبة مع الأنا لها خطايا, حتى ولو كانت صغيرة.
نظر فارس إليه بإعجاب وقال:
من أين تأتي بهذا ؟
لم آت بشيء. هيا بنا فلقد اقتربنا من الكوخ, وأظن صديقي غاضباً مني لأني لم آت لزيارته منذ مدة طويلة, انشغلت مع والدتي في موسم الزرع, مع أني في العطلة الصيفية لا أفارقه أبدا, ولا حتى في العطل الأسبوعية, ولكن لا بأس, هو يعرف ما بيننا جيداً ولن يغضب, أعلم أن الصيادين لا يفارقونه أبدا, فذلك الكوخ هو في طريقهم إلى الغابة, لذلك هو يعتمد عليهم في إحضار حاجياته من القرية.
حدثني عن الرجل قبل أن نصل إليه, أريد أن أعرف كيف أقابله وأتحدث معه ؟
هو الرجل الأنقى, حارس الغابة و العفوية, وذاك الحلم الخالي من الخدش والتشويه. كنا نطلب منه في الماضي أن يأتي ليعيش بيننا في القرية, ولكن بعد أن عرفته جيدا, صرت أخاف على ذاك النقاء من صراعات البقاء, تلك التي تبنى على منطق مصطنع. ذلك الرجل أبسط من أن تناقش كيف تحادثه, فله حديث في داخلك دون أن تدري, فقط حين تراه وتصغي إليه ستعرف أكثر.
نظر فارس أمامه فرأى الكوخ الخشبي. لم يكن صغيراً حسبما تخيل, فهو بناء ينسجم مع رؤيا المكان, وكأنه جزء من تلك الطبيعة المحيطة. سقف مائل ومغطى بألواح خشبية رقيقة, وجدران بنيت من جذوع الشجر, ونوافذ صغيرة ومدخنة ترتفع فوق الكوخ, يخرج منها الدخان, وكأنه يعلن عن وجودها. لاحظ أيضاً ذلك الباب الذي يقف فوق درجات من الأحجار, فقد كان حصيناً كذاك الكوخ, وتدل على ذلك تلك القاعدة من الأحجار الضخمة التي بني فوقها. أمام الكوخ كانت هناك ساحة واسعة تحوي عند احد أطرافها على كومة من الحطب المقطع للموقد. أعجبه المقعد الكبير عند أسفل الدرجات, وكأنه ينتظر أي قادم من مكان ما. اقتربت الخطوات أكثر, فسمع وقعها ذلك الرجل العجوز, كان يتجاوز السبعين من عمره , ويرتدي قبعة من القش عتيقة وكأنها تعود لبقايا الحرب القديمة. كان منشغلاً ببعض الأخشاب حين التفت من تحت القبعة, فكانت نظرة استقصاء تبحث عن القادمين, وعندما عرف بأنه أحمد, عاد للانشغال من جديد.
ضحك أحمد وقال:
أعلم أنك غاضب مني, ولكني أملك عذراً لذلك الغياب . فهل تريد استقبالنا؟
لم يلتفت الرجل, وتابع أحمد يقول:
حسنا سأعود من حيث أتيت.
عندها قال الرجل وبدون أن يلتفت:
أهلاً بكما.
ثم أشار إلى أحمد وقال:
أما أنت فأذهب وضع الحطب في الموقد, وحضر لنا الشاي.
لم ينطق بأي كلمة, وذهب إلى داخل الكوخ. فناداه الرجل:
أين تذهب؟ تعال إلى هنا.
عاد أحمد وسأله:
ألم تقل ...؟
تابع الرجل :
كيف حالك يا بني, ومن هذا الذي معك ؟
هو صديقي فارس, جاء معي ليتعرف عليك.
ادخل أنت ... ومادام هو صديقك فأهلاً به .
قام الرجل من مكانه, وذهب إلى حيث فارس ومد يده مصافحاً ثم قال:
تفضل اجلس, أما أنا فسآتي بمقعد آخر.
خرج أحمد من الكوخ وهو يحمل الشاي, وكان الرجل يلف لفافة تبغ. ورأى فارساً ينظر إليه وإلى المكان ويتملكه الحياء والحرج, ينتظر قدوم صديقه بفارغ الصبر حتى يكسر ذلك الحاجز من عدم القدرة على البوح أمام الرجل, فهو يملك تقاطيع قاسية نوعا ما, وعدم اكتراث لما حول لفافة التبغ.
هو لم يكن يعرف, أيسأله عن أحواله؟ أم عن ماذا كان يفعل بتلك الأخشاب؟, أم يصف حالة الطقس. كان إحساس بالارتباك , فكل ما سينطق به لا يناسب القبعة الغريبة, ولا تلك التقاطيع التي تعاند الكهولة. وضع أحمد الشاي أمامهم, وأخذ كأساً ثم جلس على أول درجة من تلك الدرجات الحجرية.
التفت إليه الرجل وقال :
كيف والدتك؟, هل هي بخير ؟
بخير ولا تزال نشيطة كعادتها, ولقد أرسلت لك بعض الكعك, فهي تذكر بأنك قد أحببته حين كنت تزورنا.
شكرا لها, كم هي امرأة طيبة وقلائل اللواتي مثلها هذه الأيام. ولكن قبل الكعك, هل أحضرت لي بعض ما تكتب؟, فمنذ زمن لم اقرأ لك شيئاً جديداً؟. أتعلم بأن الأوراق التي عندي قد قرأتها عدة مرات, حتى أني أحياناً كنت اقرأها للأشجار, ومنها تلك الشجرة الأم .
استغرب فارس من كلماته وقال :
أية شجرة هي الأم, ولماذا؟
أجاب الرجل :
تلك هي أكبر الأشجار هنا وأوفرها ظلالاً, ودائما يجلس تحتها الصيادون وتقبل بهم, رغم أنهم يسرقون الفرح من الغابة, تلك التي لها عطاء دون تمييز, كما الطبيعة وكما الأم.
ضحك أحمد وقال:
أعلم أنك تفعل ذلك, وأعلمك كم تصبح وحيداً حين يأتيك أحد, أذكر كم حدثتني عن الصداقات بينك وبين الشجر والمطر, والقمر أيضا, وأتذكر كم كنت تتحدث للريح بموال حزين عن الذكريات وعن الربيع.
كان فارس يقف بين منطق الحديث وجنون المنطق في كلام الاثنين, لكنه بقي يفضل الصمت, فلعل للحديث ملامح أخرى تكون أكثر وضوحاً.
أخرج أحمد الأوراق, وكراسة يذكرها فارس جيداً عندما زاره في غرفته. تناول الرجل الأوراق والكراسة وقرأ على الغلاف "أيام وكلمات" ثم ابتسم, ولأول مرة يرى فارس تلك الابتسامة وهي تغير معنى التقاطيع القاسية, وتحول الرجل إلى حركة توحي بالارتياح.
التفت الرجل اليه وقال :
أعرف أحمد منذ زمن طويل حين رأيته في القرية, فقد كنت أجلس في المقهى لأرتاح من تعب الطريق, رأيته يجلس وحده ويكتب. تأملته وهو بكل قلق وعصبية ينثر حروفا على الأوراق, ومنذ ذلك اليوم دخلت إلى عالمه, فأصبح يأتيني إلى هذا المكان كي نتحدث عن الحياة. كان يحمل هموماً اكبر من أن تعنيه, فهو لازال شاباً صغيرا.ً وجدت فيه التائه عن الحياة وسط الحياة, فعلمته الكثير من حصاد السنين الماضية, ومن هذه الغابة أراه قد تعلم أكثر .
استدار إلى أحمد وقال:
هيا اقرأ لي آخر ما كتبت.
حسن سأقرأ لك, ولكن عن ذاك الصمت القابع في عزلة المكان, فانا أحياناً أكون كما تقول.
أخذ الأوراق من الرجل وتناول إحداها ثم بدأ يقرأ:
عن صمت في الطرقات
وحديث يزرعه الآخرون في الثنايا
وآخر لا يدري
فهو يرسم على التلال أغرب التساؤلات
وحين يعود مبتسماً, تلقاه الغفلة
لا موقع للغفلة في وعي الآخر
هو يعلم متى يكون أو لا يكون
لأنه زائر يهوى العودة للبحر كنقطة ماء
ولا يهاب النهايات
كل أغانيه تبدأ هناك
وتراتيل تعلمها في الصغر, يخبئها لهناك
مرسوم على الجدار القديم عشق وسفر
لذلك يستعير جسده من بقايا الأرض
لكنه سيخرج يوماً, حراً طليقا
تحلق معه النوارس إلى أفق خلف أفق, وخلف زيارة قصيرة
كم كان يحلم أن يأخذ معه الأميرة
فهناك عند الصمت
تطل نسائم, ويحتفل بالقادمين
لذلك هو يأتي ويذهب كما يشاء
ويرسم على التلال أغرب التساؤلات.
عندما أنهى قراءته كان الرجل ينظر إلى الشجرة الأم, ثم أخذ يلف لفافة تبغ, وطلب منه أن يعيد عليه ما قرأ, فعاد أحمد يقرأ من جديد. وخلال قراءته بدأ فارس يشعر بأن للحديث بين الاثنين مسافات أعمق وأوسع, وأحس بأنه لم يعد يملك الحق في أن يدخل أكثر في تلك العلاقة الرائعة بينهما, فقام عن مقعده وقال :
اعذراني يجب أن أذهب قبل المساء, سيأتي إلي زوار من هناك, أقصد من مدينتي كنت قد أوصيتهم على بعض الأغراض .
وتابع يقول لأحمد :
بإمكانك أن تبقى هنا إن أحببت فأنا أعرف الطريق, وأرى أن تلك التلة هناك هي على أطراف القرية.
قال الرجل :
ولماذا لا تبقى معنا؟, فهو سيبقى هنا الليلة, غداً هو يوم عطلة أيضاً, أليس كذلك؟.
أحس أحمد بالحرج, فهو يحب أن يبقى ولكن, كيف سيترك صديقه يغادر وحده.
قال فارس :
سأذهب الآن فأنا أحب أن أسير وحدي قليلاً بين الحقول,
صافح الرجل مودعاً ثم قال لصديقه:
أبق أنت وسأخبر والدتك بأنك تنوي البقاء هنا, وداعاً.
ثم أخذ يسير باتجاه القرية, ووقف أحمد تحت تلك الشجرة يتابعه وهو يبتعد, حينها عاد الرجل من جديد لعمله في تلك الأخشاب, وبقي أحمد يراقب فارساً حتى اختفى خلف التلة المقابلة, ثم عاد إلى حيث كان يجلس, وأخذ الشاي والأوراق إلى داخل الكوخ.
خاطبه الرجل من الخارج وقال :
هناك بعض الحساء بجانب الموقد, ضعه على النار. أظنك جائع مثلي, أليس كذلك؟
وضع الوعاء على النار ثم أخذ ينظر حوله, وكأنه الاشتياق إلى المكان, فهناك السرير الكبير من خشب الغابة, وبجانبه على الطاولة ذلك القنديل النحاسي القديم, فلم تكن هناك كهرباء تصل المكان. أخذ يتأمل الموقد المبني من الطوب الأحمر, وعليه فتحات مغطاة بأغطية معدنية دائرية توضع عليها الأواني للطهي, وبالأسفل مكان لوضع الحطب له باب صغير, وعليه نقوش غريبة الشكل. وبجانب السرير من الجهة الأخرى, وتحت النافذة الصغيرة المطلة على تلك الشجرة, يوجد صندوق خشبي كبير, يضع به الرجل تلك الأشياء التي يحتاج أن يغلق عليها, ليس لقيمتها بل لخصوصيتها. وبجانب النافذة مكان لتعليق الثياب, كانت تغطي أرض الكوخ سجادة قديمة, فكل شيء هنا قديم ولا ينتمي إلى هذا الزمن, لكنه يتناسب مع المكان المنعزل بعيداً عن عيون الحكايات وعن الضجيج.
بعد أن تناولا الطعام خرج أحمد ليشعل النار أمام الكوخ, فلقد بدأ الليل يلتف حول بقايا الضوء, وكانت النسمات الربيعية باردة بعض الشيء, لكنها تحمل معها عبق الطبيعة.
تصاعد اللهب عالياً, وبدأت تتراقص الألسنة كالحوريات وهي تشق ظلام الليل لتؤنس وحشة المكان. خرج الرجل وجلس على مقعده الكبير, ثم بدأ يلف لفافة تبغ وهو ينظر إلى النار, فلقد كان هناك حديث آخر ينتظر المساء.
سأله أحمد:
ماذا تريد أن تفعل بتلك الأخشاب؟
أريد أن أعمل أرجوحة وأضعها هناك بجانب الدرجات, فلقد مللت هذا المقعد الهرم. أحيانا أحب الاسترخاء قليلاً وأنا أنظر إلى السماء, وهذه ستكون أرجوحة مريحة وسترى.
أظنها الشيخوخة بدأت تسري في هذا الجسد, مع أني لا أراه كذلك.
ضحك الرجل وقال :
أجل أظنني بدأت أحس بالتعب أكثر من السابق, فلست بأفضل من تلك الأشجار, هي أيضاً تصاب بالتعب والهرم. أسمعها أحياناً وهي تغني بأغصانها مع الريح أغنية حزينة عن الذكريات, ويأتي الربيع لكنه لا يغني لها, فهناك شجيرات اصغر حول المكان تتمايل أغصانها بكل رشاقة وفرح. هيا يا أحمد أخبرني ماذا يدور في عقلك ألم تفكر بعد بأن تجد تلك الفتاة؟, كم أتمنى لقلب أمك أن يهدأ ولقلبي أيضا, ألست الأب الروحي كما تقول دائماً؟, أنا لا أكلمك بأسلوب من لا يعرف ما في أعماقك, ولكني أريدك أن تأتي بقرار, فلم تعد صغيراً, أليس كذلك؟
نظر أحمد إلى اللهب أمامه وكأنه يختبئ من ذلك السؤال بين ثنايا الظلال, فهو يعود بوعيه نحو أعماقه التي تحمل القلق و الانتظار لشيء لا يعلم ما هو, ولم يتبين بعد أي الدروب سيحمل له بدايات الرؤى, وإلى متى وهذا الضباب على السفوح وعلى الأمل. خرج من بين الأشباح المتراقصة على أطراف المكان, كانت ظلالاً وأضواء, وكأنها الأصداء لتلك النار المشتعلة أمامه وفي أعماقه. ألقى بنظراته المتسائلة على مسامع الرجل وقال:
كم أحس بك وبتواجدك على دربي, واستأنس بك مع كل غربتي, ولكني لا أقتنع بالانتقاء. أعلم أنه أسلوب الزواج في القرية, ولكن عيوني لم تقع على فتاة أحس بها, وبتلك النظرة التي تلامس غشاء الروح.
أنت تعلم كم أنا بحاجة إلى الحب, وإلى تلك السكينة حين أجد توأم الروح, فأنا كما قلت لا أحب الانتقاء. ولست أبحث عن زوجة بمقاييس, ولا عن أم لأولاد بشروط أصل ونسب, ولا امرأة قوية قادرة على العمل في الحقل. تعلمني أعف عن حاجات جسدي إذا لم تكن تتبع رغبات الروح أولاً.
أخذ الرجل عودا من الخشب ووضعه في النار وأشعل لفافة التبغ, نظر إلى أحمد وقال:
أعلم ما تقوله يا بني, فما للروح ستبحث عنه الروح. أحياناً يأتي حين نحب, وأحيانا يأتي مع الانتقاء دون قصد, وأحياناً لا يأتي طول العمر.
يا بني, ما تبحث عنه أنت هو العشق, والعشق لقاء روح, وهو ارتقاء لمعنى الاقتران والعشرة. ولكن مع تجربتي أؤكد لك, بأن لقاء الروح بالروح تعانده الطبيعة ويصبح داء مستمراً. وإن حصل فهو العشق ونادراً ما يحصل لقاء بأرض. وإن حصل يكون حلماً جميلاً وساحراً تباركه السماء.
ما تبحث عنه يا بني, هو أمر يأتي من مكان آخر ومن فضاء آخر, لن تدلك عيونك على دربه ولا حتى أسراب الطيور, فاغمض عينيك تأتيك الرؤى. ولكن ما تبحث عنه والدتك وما أطلبه منك, للأسف هو في آخر دربك هذا. لماذا يا بني لا ترضى برغبات نفسك والجسد؟, ستأخذ حياتك شكلاً آخر إن سرت على نصيحة والدتك, فهي تتمنى لك السعادة قبل أن تغادر هذه الحياة, وهي لن تدوم لك طويلا. أنا أيضا سأفارق هذا المكان إلى بلدي بعد أن أنهي عملي في تلك المحطة, فأنت تعلم أن ابنتي قد تزوجت, ولي أحفاد صغار هناك, سأذهب لأكمل ما بقي من الأيام بينهم, فأنا عما قريب سأحتاج للرعاية أيضا. فكر يا بني بأبسط أساليب الحياة, واعلم أن الروح لن تهدأ أبداً ولكن للجسد عليك حق.
قاطعه أحمد وسأله:
لماذا لا أقدر على أبسط أساليب الحياة؟ ولماذا بعد أن أصبحت أعرف أكثر, تصعب علي الأمور أكثر؟ ولماذا لا أقدر أن أختار أي شيء, رغم أني أعرف كل شيء ؟. أنا فقط أمارس الحياة وبكل الرضا, ولكل ما تتطلبه مني أمورها الموروثة والمفروضة. وأين أنا مما يجب أن يكون عليه قراري والمصير؟.
أخذ يلقي بأحجار صغيرة وسط النار, ليتطاير الشرر في فضاء المكان, وكأنها الحيرة وسط ارتياح الآخرين, أو الصحوة وسط غفلة تدور في أرجاء الزمن.
كان الرجل مطرق الرأس, ويعلم جيداً معنى خروج القطار عن السكة الحديدية, حينها يصبح القطار سائراً بلا هدى, وسرعان ما تغوص عجلاته الحديدية في التراب, ويبقى كذلك حتى يصبح غير قادر على أن يرسم الدرب الجديد. فالوعي كما العجلات يغوص حتى يتوه في أبسط أساليب الحياة.
رفع رأسه ونظر إلى وجه أحمد, ذاك الوجه الغائر في ثورة الرماد والشرر وقال:
أتعلم يا بني, عندما كنت شاباً صغيراً, لم أكن أعي من الأمور أكثر من حاجات ذلك الشاب الصغير. أنهيت الدراسة, وبدأت أساعد والدي في دكانه الصغير, أملك حماس الشباب ولكني لم أكن أفكر بأبعد مما حولي, أخرج مع أصدقائي وأعبث, أجلس عند باب الدكان أراقب المارة, تلك جميلة, وذاك جارنا فلان, وتلك السيدة التي تسكن في ذاك البيت الكبير أنيقة وقبيحة. وانتظر دائما ذلك المجنون حين يأتي في يوم محدد من كل أسبوع إلى السوق, ليطلب قرشاً واحداً فقط, هكذا كان يقول لأي شخص في السوق, ثم يختفي ليعود في نفس الموعد من الأسبوع المقبل, ولم أكن أعلم لما هذا التوقيت؟.
أعود في المساء إلى البيت لأسمعهم يقولون, لقد كبر الولد ويجب أن نفرح به, وهكذا وبأبسط ما عندي تزوجت. كان انتقاء والدتي, تزوجت تلك الفتاة وعشت معها, كانت عادية طيبة وخجولة قليلاً, كان بقاؤها مع والدتي أكثر من بقائي معها, فأنا آتي في المساء فقط , أما هي فتمضي كل يومها معهم في البيت. مضت السنون ورزقنا بابنة جميلة أسميتها سلمى, كنت أحب أن أعود إلى البيت لأداعب سلمى, حتى كبرت وتزوجت. حينها كنت قد تركت الدكان بعد وفاة والدي وعملت في السكك الحديدية. أمضيت مع زوجتي عمراً كاملاً, ثلاثين سنة, ثم توفيت وشعرت بالحزن والوحدة, فلقد كانت رفيقة عمر. ولا أذكر من تلك الحياة معها سوى الخير والأمور الحسنة.
انتقلت بعد ذلك إلى هذه المحطة القريبة من هنا, كنا ثلاثة أشخاص نعمل على شكل دوريات واخترت أنا دورة الليل. حتى عملي هنا كان بسيطاً جداً مجرد مفتاح, أتعرف معنى مفتاح؟, كنت أحول السكك عند قدوم قطار أو ذهاب آخر, ولكن بعد أن أغلق المنجم في الشمال من هذه المنطقة, لم يعد هناك أية حركة على السكك, سوى قطار واحد ينقل بعض العمال أو الساكنين في تلك المناطق, يمر من هنا مرة وأحيانا مرتين في الأسبوع, أعني أنه لم يعد لنا عمل كثير ولا قليل, وكأن إدارة السكك الحديدة قد نسيتنا في هذا المكان.
كنت دائماً أراقب السكك التي تمتد بلا حراك وأراقب المطر, فهو غزير في ليالي الشتاء هنا, وأرقب القطار حين يأتي وأحس بصفق العجلات على السكك, فيزداد الضجيج وتعم الحياة في المكان. وفجأة تتباعد الأصوات كما الحركة, ويعود البرد من جديد, ليصبح المكان وحيداً بارداً وبلا حياة.
دهشت من كل ما حولي, وصرت أناقش زمني وذكرياتي, أحلام كانت تغفو مهملة في خزائن عقلي أقلقت تلك الروح النائمة في داخلي, فاستفاقت روحي على خريف العمر, ماذا أريد؟, ولماذا أكمل المشوار بالملل والتكرار؟. من هنا بدأت أبحث عن معنى التواجد, فأنا لم أعد أبحث عن حب ولا عن تطلعات لمستقبل واعد, ولم يعد هناك في آخر الدرب سوى خزائن ذكريات غطاها التراب, بعضها مقفل والبعض الآخر تهترئ به الذكريات. عندها فهمت ذلك المجنون , فهو لم يكن بلا عقل فقط , بل كان أيضا بلا أمنيات , كان يملك وضوح الرؤيا مع القناعة تلك التي تحققها البساطة.
بدأت أفتقد الأشجار والمطر, والقمر أيضا, صرت أحب أن التصق بالتراب أكثر, وكأني مللت السكك والأسواق والوجوه, وحتى السفر بين بلدتي ومحطة بلا قطار. صعدت إلى هذه الغابة, وسرت خلال دروبها, أحسست بذاك الحب المتناغم بين العفوية والقدرة, وبين العذرية والعطاء, فعشقت الطبيعة ورأيت الكوخ وأعجبني. سألت عن أصحابه, لكنه لم يكن ملك احد, فلقد كان يخص الحامية وذاك المقر في الزمن القديم .
وها أنت يا بني, لو أعرف متى أقلقت تلك الروح في داخلك, أليس من الأفضل لو بقيت على غفوتها؟, وكل هذا الوعي, أتدري ما فعل بك؟. لقد جعلك تطفو, كي تنظر بعينيك نحو آفاق وأمواج, وأسراب طيور قادمة وأخرى مهاجرة, ومراكب تعود وأشرعة تنشر لسفر آخر, وتبقى وتلك الرؤى, دون قدرة على الإبحار, فقدماك تغوصان في القاع, وتبقى أنت تمارس وعي الماء, دون أن تقدر على الغوص أو التنفس كالأسماك .