الطاقة في العمل التشكيلي
في أحدى المعارض التشكيلية وعند المرور على المعروضات لاحظت وجود أكثر من عمل تشكيلي على قدر كبير من الجودة التقنية والفنية من حيث قوة التصميم وتوافر القيم التشكيلية العالية والحضور الموضوعي ومناسبة الألوان للموضوع وغيرها من عناصر فنية وتقنية وموضوعية متناسقة, وباختصار كانت جميع مقومات العمل التشكيلي الناجح تقريباً موجودة بها إلا أن هناك نوع من الصدود والابتعاد عن هذه الأعمال وعدم الرضاء إلى حد ما عنها , وهذا ما استوقفني طويلاً عند عملين منها بالتحديد , ورحت أرصد بعض آراء المتلقين بشكل عام والمختصين والنقاد على وجه الخصوص ,حول هذين العملين, ومن خلال تقديراتهم للقيم التشكيلية والجوانب التقنية والموضوعية لهما ,لاحظت شبه إجماع على أن هناك تميز في جميع الجوانب السابقة إلا أن هذين العملين لم تجذبهم, وبعد حوار واستقراء لجميع آراء الموجودين تقريباً, خلصت إلى أن أحد العملين يعطي انطباعا للمتلقي بعد الرضاء والتقبل والآخر يعطي انطباعا للمتلقي بالإرهاق والإجهاد,فعلى الفور استحضرت شخصية الفنانين منفذي العملين (والتي تربطني بهما علاقة لصيقة ), فكان أحدهما دائم الشكوى من جميع الظروف والمحيطات وكان على الدوم يبعث رسائل سلبية لذاته وللمحيطين به , وهو الذي حمل عموم أعماله وهذا العمل بالذات بالطاقة السلبية فرغم القيم التشكيلية والفكرية العالية التي تحويها أعماله إلا أن سلبية الطاقة المنبعثة من العمل كانت كفيلة ببعث الصدود وعدم التقبل لعمله هذا ولعموم أعماله , أما الآخر فإجهاده وتشتيته الدائم لمحاولته الحثيثة على التواصل مع أكثر من عمل في أكثر من مجال في وقتٍ واحد, وحضور هذا التشتت الفكري والنفسي معه حتى في مرسمه وقت تنفيذ أعماله , حمّل أعماله بطاقة مرهقة ومجهده رغم نضوج أعماله تقنياً وفنياً وحتى فكرياً إلا أن هذه الطاقة المرهقة المشتتة هي التي تسيطر على مجمل أعماله .
والمستعرض لتاريخ الفنون التشكيلية يجد كثير من النماذج التي كانت صادقة في أعمالها وفي شحنها بالطاقة التي تستحق أن تصل إلى المتلقي دون تكلف أو إدعاء ولعل أبرز هذه النماذج ,الفنان فان جوخ في عمله آكلوا البطاطس والذي قال عنه :" لقد أردت أن أثير الإحساس بنمط من الحياة جد مختلف عن ذلك الذين يحياه أهل المدينة لهذا فلست مهتماً على الإطلاق بان تلقى لوحتي استحسان الجميع وإعجابهم حالاً .
على أن من الخطأ في اعتقادي أن نضفي على لوحة ريفية النعومة التقليدية لو فاحت لوحة قروية بدخان الخبيز والبخار المتصاعد من قدر البطاطس حسنناً لن يكون في ذلك أي عوار وإذا فاحت من مذود للبهائم نتانة الروث , حسناً إن هذا من مقتضيات المذود وإذا كان للحقل رائحة القمح الناضج والبطاطس أو السماد فهذا أمر صحي وبخاصة بالنسبة لأناس في المدن "
والواقع بتأمل هذه اللوحة نجد أننا نصل إلى إحساس الفنان, وبمزيد من التمعن والقراءة البصرية للعمل نجد أن طاقة الفنان وشحناته التي حملها عمله هذا تصل ألينا بشكل جلي ومن هذا يتضح أن الفنان قد نجح في أن يجعلنا نعيش الأجواء التي كان قد عاشها , وأن نشعر بالمعاناة التي مر بها أثناء معايشته للفلاحين وأثناء تأديته عمله الصادق بل ونقل لنا تعبيرات حية أصدق من خلال طاقته المحملة بالعمل .
فيصل الخديدي
ملحق الأربعاء بجريدة المدينة 29/1/1429هـ