لا للعنف في روما..
كان المساء..مزدحما بالجالسين على المقاعد هناك..مكتظا بالواقفين..متحركا بعمال خدمات النظافة..بالداخلين إلى دوريات المياه.. بالمتعانقين..بالعشاق والمتسولين..وعلى الجدار كانت الساعة تعلن دقتها الثامنة..رشقت المسافرة ساعة يدها برمشة سريعة وهي تقترب خطوة..خطوة.. من شباك التذاكر..مرق صوت القطار كمارد جبار ..مكتسحا هدوء اللحظة مزلزلا ..مرعدا..نافثا دخانه..متنفسا الصعداء..ملقيا بقدميه على بساط حديدي ..تحميه سماء مغلفة بالبلاستيك وضوء خافت يميل لظلمة المستشفيات في الردهات المخيفة..
كان الصوت الناعم الذي أعقب الضجة يرسل ذلك النداء بأنوثته ورقته المنتقاة..لقد اعتادت على سماعه .. تارة في داخل أجهزة الهواتف النقالة. . الثابتة.. في عمق صمت المطارات..وداخل أروقة الأسواق التجارية العظمى..
كان يعلن عن دخول القطار قادما من البندقية إلى محطته الأخيرة بروما..تحركت خطوة أخرى نحو الشباك..كان ما يزال أمامها قطع مسافة خطوتين ..وكان وراءها رجلا بملامح عربية علامة على ثقافة خاصة..ابتسمت وهي تنحرف عن نظام الصف ..ملتفتة إليه ..كان يقف خلفها..وقفة توحي برغبة ملحة في التعارف.. أرسل تلك الكلمات المألوفة عند أول لقاء مع كيان غريب..:" هل أنت عربية..؟
قالت وهي تجيب بائعة التذاكر: - إلى البندقية..
-غدا ..صباحا ..
- التاسعة..
غادرت الشباك متجهة نحو باب الخروج..لكنها توقفت للحظة.. تقرأ الشريط المتحرك لبرنامج الرحلات.. كان العربي قد لحق بها..فوقف بجانبها ينظر إلى نفس الاتجاه ..ثم كرر نفس الكلام..وقال مغيرا الحروف..: " من أي بلد أنت؟ أتنتظرين أحدا..؟
كانت من بلد عربي ..ولم تكن برفقة أحد..وحيدة ..كنبتة في رأس جبل أقرع..وكان المساء ..مساء روما العبق بأنفاس المافيا..وحرارة الحياة المشتعلة بعواطف سكان حوض البحر
الأبيض المتوسط..يوحي لامرأة عربية برهبة وخوف ..كما يوحي برغبة في اكتشاف روما في ليلها الصاخب المليء بالأسرار.
لم تتردد في قبول دعوته لمشاهدة حفل موسيقي يقام في الفضاء الطلق..كما قبلت بالانتقال إلى نفس فندقه..احتجزت به غرفة..وعند الساعة العاشرة مساء ..قبل الموعد المتفق عليه..جاء يطرق باب غرفتها..نظرت إليه مستغربة وهي تمسك بيدها فوطة مبللة..همت بإغلاق الباب في وجهه..لكنها تريثت قائلة بنبرة لا تخلو من تضايق:" لا يزال الوقت مبكرا..انتظرني بالأسفل ..سأنزل بعد نصف ساعة.."..شرعت تفكر في أمر هذا العربي ..في استباحته خرق الموعد المبرم..تساءلت:" رباه ..أيحسب أني امرأة.. ؟"..استلقت على السرير..كانت قد غطته ببعض من ثيابها . كانت تخشى أغطية الفنادق..لا تسمح لنفسها باستعمال لا فوطة ولا صابونه ..وحتى الكأس الذي كانت غالبا ما تجده على حاشية الحنفية.. كانت ترفض استخدامه لا في الشرب ولا لأغراض أخرى..
كانت امرأة عربية من تلك النماذج المؤهلة للإصابة بمرض الوساوس المتسلطة..لم تجد ما تفعله في تلك الغرفة ..فقط نشر الغسيل على عيدان حديدية للنافذة..كانت النافذة تشرف على بنايات عالية اختلط لون جدرانها الرمادي ببقع شبه سوداء في تلك المناطق التي لا تصل إليها أيدي الصباغ إلا بصعوبة..ترك الزمن بصماته عليها..ومع ذلك صمدت لسنين طويلة في وجه الريح والمطر..بل في وجه الحروب المتتالية..والحملات العسكرية القاسية..إنها موغلة في كآبة مجد قديم..أبراج عالية ..وديان يغمرها بريق أسود..يوحي بمياه متعفنة تطفو على وجه روما الجبروت والطغيان ..روما الحالمة المستبدة.. المحترقة بنار نيرون..غرفة كئيبة ..ضيقة كدرب في مدينة عتيقة..لا منفذ له..
والعربي برأسها يدور..جاءت إلى روما وحدها ..هذا ما عرفه عنها....لم يكن المطعم الذي جلسا يتحدثان فيه من تلك المطاعم الكثيفة الحركة..بارد كالساندويتش الذي تناولته وأدى ثمنه رغما عنها..هو مثلها ..يقتات مما يرخص ..لا يحمل خريطة ولا دليل سفر..الصدفة عكاز طريقه في ذلك الشارع الطويل الذي لا تتذكر تفاصيل مرورها به..انتهى بها السير فيه إلى قبول دعوته لمشاهدة فيلم بدل الحفل الموسيقى في الفضاء الطلق.. " لا للعنف.. "
« Non violencia »
وعلى الشاشة الكبيرة العائمة في حرارة ..رشاقة الضوء المتوهج ..الغارقة في بهجة الصوت الصاعد ..الحابس للأنفاس ..المكتسح الفضاء المتسع ..المليء بمشاهد التشويق والرعب..كانت الأنظار متوترة ..مأخوذة إلى عالم الصور المحبوكة الحركة..المتقنة ..المؤثرة.. كأنها حكاية تراثية تؤنس طفلا خائفا من الظلام..مشهد.. يتلوه مشهدا..امرأة ..أربعة رجال .. محطة بنزين..دراجة..بحيرة ..زورق ..أرجوحة مشدودة الخيوط إلى جذع شجرتين..حمام..هجوم..بكاء استغاثة..تشنج..قرف..أضعف من كلبة..وكيانات مسعورة..هائجة ..متلذذة ..مسرورة.. متواطئة..منشرحة بعدوانية غير مبررة..ويد تمتد خلسة في غفلة الضوء الخافت..لتقع متلمسة فخذ رفيقة العربي ..متجاوزة حدود الزمان والمكان..خلف ظهريهما جدار..لا أحد يراقبهما..ترتد اليد ..تعود خجولة من حيث انطلقت..ثم تكرر المحاولة مرة ..ثم مرة..تقف العربية صارخة.. لا..كفى..لا" للعنف في روما"..تخرج من القاعة..يلاحقها العربي متوسلا..قاطعا وعدا ..تعود ..وعلى الشاشة ..شاهدت المرأة تركب دراجتها..عائدة من محطة البنزين..يتبعها رجل من الرجال الأربع.. اتجهت نحو أرجوحتها..أسندت ظهرها إلى جذع الشجرة..اقترب منها .. كان لسانه يلهث ككلب جائع..
لم يكن العربي بأقل منه جوعا..مد يده مرة أخرى..فتلقى ضربة موجعة ..أثارت انتباه من كان في القاعة..كان المشهد مريعا..الجزء الأسفل من الجسد عار..سروال نازل إلى حد الركبة..الجثة تتأرجح عالقة متمسكة بغصن الشجرة..العربي متورط في تفاصيل المشهد يكرر المحاولة..والرعب القاسي.. يتكرر..الدم ينزف من عضو ذكورة، فصل عن الجسد.. يغرق في حمام من الدماء..البصر يتحاشى الرؤية.. تعاود النظر ..زورق..فأس..رأس يفصل عن الجسد..أبعدت يد العربي بغضب..واتجهت نحو باب الخروج..أوقفت سيارة أجرة ..وعادت أدراجها إلى الفندق.. وفي الصباح..وهي تستعد للخروج عثرت على رسالة ..وضعتها في حقيبة يدها وأسرعت نحو محطة القطار....
يتبع..أوقد لايتبع..