المحور التطبيقى
أولا : - الشعر
– 1 -
شعر الفصحى
أدباء الشرقية .............أ.د. عوض الغبارى
أستاذ الأدب المصرى – كلية الآداب – جامعة القاهرة
-2أدباء الشرقية
أ.د. عوض الغبارى
أستاذ الأدب المصرى – كلية الآداب – جامعة القاهرة
سعدت بمطالعة إبداع بعض شعراء مصر من ديرب نجم – محافظة الشرقية- ومنهم الشاعر محمد سليم الدسوقى شاعر المواجيد الذى أصدر ثمانية أعمال هى صلوات على زهرة الصبار، طقوس الليلة الممتدة، الحب فى زمن الرمادة، قطرات العشق الإلهى، شال القطيفة والبندقية، جلاجل الفرس وردية الإيقاع، تنهدات الريح، وازمان الوصل بالأندلس، مواجيدى، إلى جانب دراسة بعنوان : مسرح عنترة بين التأصيل والتأويل.
وعناوين الدواوين واضحة الدلالة على قصد الشاعر إلى التميز والابتكار، وديوان "مواجيدى" من بينها أوضح دلالة على شخصية الشاعر الذى غاص فى أعماق النفس الإنسانية فقّدم خلجات نفس شاعرة سابحة فى آفاق الدلالات الرحبة للمواجيد الصوفية فى محاولة تعبير أصحابها عن حب الذات الإلهية، يقول الشاعر تقديما لمواجيده :
كثيرة هى الأهازيج
وأطاريح الهوى
فى خافقى
لكن مواجيدى
وفرط رحابة الذات العلية
فى مرسمى أكثر
يتوحد الشاعر بحلى حضرة مواجيده فى دائرة صوفية تتردد فى قصيدة "مواجيدى" التى اتخذها الشاعر عنوانا لديوانه، بهذه الصورة :
مواجيدى حليات
حليات مواجيدى
وفى حلقات هذا الدائرة المنظومة فى الحب الإلهى تبرز وحدة الشهود الصوفية، فيهيم الشاعر عشقا لجمال الخلق الشاهد على جمال الخالق :
عشقت بداوة الغيد
وبحة لثغة المزما
وزفزاف العصافير
حنايا فى خميل الريـ
ورجفا فى تغاريدى
ر للصبّار للجيد
ورفراف العناقيد
ح فى التسبيح فى البيد
فكـم ختلى وتسهيدى
مـواجـيـدى حليات
حلـيـات مواجيدى
ويجعل الشاعر هذا المقطع (مواجيدى حليات / حليات مواجيدى) عمود القصيدة وينوع القوافى، مرددا هذا المقطع فى نهاية كل مقطوعة، متناصا مع البناء الفنى للموشحات، منبئا عن اتصال وثيق بالقيم الموسيقية الرائعة لتراث الأدب العربى، فضلا عن الإيحاءات التعبيرية الرامزة لأدب الصوفية، خاصة، إذ يعجز المقال عن وصف الحال، ويجد الشاعر أنَّ ما فى خياله ووجدانه (مرسمه) أكثر بكثير مما استطاع التعبير عنه.
وينتظم "الوجد" بمفارقته بين اللذة والألم، بالمفهوم الصوفى، ديوان الشاعر، وتسرى فى مفرداته المصطلحات الصوفية.
ويتجلى الوجد متلبسا بالغزل الذى يدور فى فلك المعانى الصوفية، مع أنه فى الحب البشرى :
فأنتِ بوجدكِ فن الحياة
هنا فى الحديقة حب وأنس
وبين الأزاهير فى الجنتيَن
فهل أنت فى وحدة الأنس نور
عشقتك رغم اغتراب المقام
ورغم الحقيقة رغم اصطراخ الـ
وفن الممات وفن الأمل
وعندك فوق الجبال الملل
نعيم مقيم ودنيا قُبَل
وهل صرت فى غربة النفس طل
ورغم اقتراب العنا والأجل
رياض، الحياض، ازدهاء الحلل
ثم يقول :
هنا واحة الله سر النشيد
وسر اخضرار الربى فى الطلل
فالوحدة، والأنس، والعشق، والحقيقة مصطلحات صوفية انسربت فى مواجيد الشاعر العاشق الذى يجعل الحب سر الحياة. ويتوحد كون الشاعر بعوالمه المختلفة مردّدا تسابيح الحمد لله مبدع الكون :
رأيت حلما جميلا بصدرى
يرش النعيم المقيم حلالا
ويأتى المساء ويمضى المساء
تبيت البلابل نشوى تغنى
وتحمدك الله فى كل لحظ
يزغرد أيان ينداح عمرى
على الخلد والخلد مشكاة صبرى
ويأوى الدعاء إلى مستقرى
تهلل لله مكنون سرى
ولفظ يجلجل ثغرا لثغر
فى قصيدة " أشياء فى خلدى" يحاول الشاعر أن يفهم أسرار الكون، ومفارقات الحياة، متسائلا:
من أكمل العمر فى مشوار موجدتى
وأجمل الجمر فى أسرار تكوينى
وتبدو قصيدة "طيوب من الوجد" امتدادا للقصيدة السابقة، ويفوح منها العبق الصوفى فى تعبيره الرامز؛ يلتبس فيه الحب البشرى بمعانى التوق إلى الحقيقة الصوفية والعشق الإلهى بمعراجه الدينى، يقول الشاعر من هذه القصيدة :
لتطلقى النفس من أغوار نشوتها
ظمئت للعشق، للأنوار أسكبها
ويشهد الله أنى لست ملتبسا
لكنه الحب فى محراب لذته
إلى الحقيقة / يا هيفاء / تُروينى
على جلال سجياتى وتضمينى
ولست فى حيرة من أمر تكوينى
وصولة الروح فى معراجها الدينى
وتستمر مفردات الوجد مُشَكلِّة عناصر البناء الفنى والروحى للديوان كما فى قصيدة "غيوب من الوجد"، وتتجلى فيها معانى الضراعة والحنين ولوعة العشاق يصورها الشاعر فى رومانسية جليلة يتطهر بها بنار الحب ولوعته :
وأضرع لله فى عِلتى
وفى مسغباتى حنين حنين
وكابن الفارض يجعل الشاعر الحب دينه :
جُثيى على لجة الضيمِ عشق
هُويِِّي إلى سجدة التَيم دين !
ويتجلى الوجد فى شهود جلال جمال الله فى خلقه فى قول الشاعر فى قصيدة "حاطبا ليل":
جلال الله فوق خما
ونور النور يعتقنى
ئل الأشياء منسكبا
لنشوى واجد لهِبا
وتبدو صور الشاعر فى هذا الديوان تسابيح وصلوات وأناشيد يناجى بها خالق الكون، ومبدع المخلوقات.
يمتاز شعر محمد سليم الدسوقى بالرصانة اللغوية التى تنبئ عن شاعر يمتلك أدواته اللغوية التى اكتسبها من ثقافة عربية أصيلة كما يتجلى فى قصيدة "موسيقى فى قبو الملكة" التى يوحِّد فيها – كذلك- بين الحب البشرى والتوحيد وشهود الجمال الإلهى بالمعنى الصوفى فى قوله :
كاشفتُك الأمر يا عرافة السّلف
وآية الله فى الآفاق بادية
ويا ترجمانة توحيدى ومُخْتَلفى
على رفيف السنا والحب والإلف
وتتردد فى جوانب الديوان ، كذلك، معانى النور تُجَلِّى الحبيبة فى إشراقها، متداخلة مع أنوار الحقيقة الإلهية وفيوضاتها الصوفية، وتجلياتها الروحية التى يجعلها الشاعر فوق نعيم الخلود فى قصيدة "مواجيد كم بثّها كونَه" إذ يقول :
هو الله فوق نعيم الخلود
وفوق الهُوِّى ومن كانه
ويلتقى الوجد بالشجو والتسابيح والتباريح والعشق والالتياع والهيام فى سياحة أشبه بسياحة الصوفية شوقا إلى التحقق بالذات الإلهية، والتملى بجمالها وجلالها، كما يقول الشاعر فى قصيدة "شققت الفجر والإصباح شقا" :
وأسبق فى جمال الله سبقا
وأسبق فى جلال الله توقا
وترتبط المواجيد بالتسهيد فى قول الشاعر من قصيدة "وحتى أنت يا ورد" :
فماذا فى المواجيد
وفى وخزات تسهيدى
وفى قصيدة "عشقت جمالك الله" تتجسد السمات الصوفية التى تميز ديوان الشاعر الذى يقول منها :
فراديس فراديس
وركعاتى التى خشعت
عشقت جمالك الله
فما فى نشوتى نجوى
فكل الكون تقديس
ورجفاتى نواميس
ورمت جلالك الله
ولا فى القلب إلا هو
عشقت جمالك الله
وهى قصيدة تبدو أغنية فى حب الله الذى انعكس جماله فى النهر والزهر، وعم نوره الكون كله.
وتتجلى المفردات الصوفية فى غزل الشاعر، كذلك، فى قصيدة : "كما أعشق الحب فيك" من مصطلحات وتعبيرات صوفية كسر السر، والصفو، والعشق والهوى وغيرها، تلك القصيدة التى يقول الشاعر فى مطلعها :
فيا سر سِرِّى ويا عَرف عودى
عرفتك فى باصرات الوجود
وفى قصيدة "عشقتك يا رب عينى وحينى" تتجلى الخصائص الصوفية فى وصف الجمال الإلهى، والنور الإلهى، بقول الشاعر فى مطلعها :
عشقتُك يا رب عينى وحينى
فنورك فى الخفق مصباح ذين
وفى تناص مع القرآن الكريم يمتح الشاعر من المعين العذب للقرآن فى قصيدة "وأرضيت فيك الليالى لترضى"، كما تناص مع البحترى وشوقى فى قصيدته "الجنازية" معبِّرا فى صور أخرى كثيرة من التناص – متمثلا خاصة فى لغته العربية الجزلة – عن اتصال وثيق بالثقافة العربية الإسلامية، وأجلاها فى شعره التصوف.
أما الشاعر رضا عطية فهو صوت شعرى متميز كما تجلى فى ديوانه "ندى ونوارة المستحيل"، وهو ديوانه الثالث الذى يضم أربعا وعشرين قصيدة تدل على شخصيته شاعراً أفاد من دراسته للغة العربية فى شعره، وفى المسابقات الأدبية والثقافية التى فاز بالعديد من جوائزها على مستوى الجمهورية.
وإيقاع شعر رضا عطية آسر جذاب، يدل على تمكنه من أدواته الفنية، وقصيدته "هل لى مكان بينكم؟" دالة على هذه الإيقاعية المتميزة، دلالتها على خياله القادر على رسم صور قصصية فى أبياته، على نحو قوله من هذه القصيدة :
طوبى لكم
يا أيها العشاق فى روض الهوى
أتغردون مع الطيور؟
تحلقون وتمرحون
تسابقون الريح بالأشواق بالبسمات
يا أيها العشاق يا من تلتقون على بساط من أمل
لا تسرعوا فلم العجل ؟
ويتخيل الشاعر نفسه محلقا فى سماء الكون يراقب الأرواح والطيور التى تسامر القمر، ويتحد مع هذا الوجود قائلا :
أنا لا أحس بأننى فى هذه الساحات ضيف
فأنا تحركنى الصبابة نحوكم ...
يا من تحيلون المشاعر باقة
أحس أنى فى رياضكُم ندى
وأحس أنى فى سمائكمُ سحاب
هذا الشاعر الطائر المغرد النَّدِّى يوشوش الطيور فى قصيدة "وشوشات"، ويغازل المطر، ويعكس على مظاهر الطبيعة آماله وآلامه، فيتوحد معها، محققا هذا الاتصال الوثيق بين الشاعر والطبيعة الذى هو كل عمل الشعر تقريبا.
يقول الشاعر :
لأننى أحب أن أوشوش الطيور
أن أسابق السحاب
أن أغازل المطر
ولم أزل أحس أن لاحد بينى
والبشر
فإننى أستطيع أن أمتص آلام
القدر
كذلك تبدو الحبيبة فى شعر رضا عطية فى هذا الديوان متجسدة فى الزهرة والشذى والشمس والنجوم، يقول فى قصيدة "صباح جديد" :
أيقظينى كل يوم بابتسامتك الشهية
لملمى سرب الأمانى التائهة
أخمدى نار الهموم
كل يوم أنت لى فيه النجوم
أنت لى فيه الشموس
أنت لى فيه الشذى
وهى الربيع :
والربيع الحلو فى فم كل زهرة
وهى الشعر الملهِم :
أنت يا شريان قافية القصيدة
أنت يا لغتى الجديدة
والشاعر حالم سابح فى فضاء رومانسى محّبب إلى النفس . وإلى "ندى" الأمل الذى راح، يهدى الشاعر ديوانه، وفى قصيدة بعنوان "ندى" التى جعلها فى مطلع عنوان ديوانه، يعبر عن شقاء الفراق قبل اللقاء، وعن الآمال التى بدّدها الردى قبل أن تبدو ندى، فيقول :
وافترقنا قبل أن نلتقى
منية القلب أنا القلب الشقى
حزمة الآمال شتتها الردى
فاختفت من قبل أن تبدو ندى
ويكاد القلب يدمى عندما يقول الشاعر فى هذه القصيدة :
كنت أحتاج لقبلة
من فم يشدو بوأوأة الصغار
كنت أحتاج لطبلة
كنت أحتاج سبوعا وشموعا وفشار
إنها لاذت بأجنحة الفرار
وكم هى دامية هذه المفارقة بين الفرحة بالمولودة، وبين الموت الذى خطفها بأجنحته، وخلّف وراءها الحزن الدفين.
وهذه المفارقة بين الموت والحياة يصورها الشاعر – على نحو أعم – فى قصيدة "رحلة" التى تذكرنا بالفيلسوف الذى تمنى أن يكون له ولد، وانتظر ذلك طويلا، فلما وُلِد وليده بكى وقال : الآن مات، لأن الحياة تحمل فى طياتها الممات، هذا ما نحس به فى قول الشاعر فى قصيدة "رحلة" :
حينما تم انتهى
قصة الأحياء من بدء الخليقة
أما أيقونة هذا الديوان فهى قصيدة "نوارة المستحيل" التى تجسد أسلوب الشاعر رضا عطية، وتدل على شخصيته الشعرية، ومنها يقول :
يتيم يتيم
وفى القلب تصحو جراحات حب قديم
فأشعر أن الحياة رماد
وتحت الرماد وقود عنيد
...
وقلبى الذى ما ملكت سواه
أراه يلملم أشلاءه
المترعات أسى وجمود
وفلسفة الشاعر بادية فى هذه القصيدة، ومتعانقة مع غيرها، وهى فلسفة حزينة تحمل فى إهابها ثورة وتمردا وتطلعا إلى الأفضل، كما فى قصيدة "هل تعكس مرآتى وجها؟!"، التى يقول الشاعر منها :
مرآتى ثائرة
ما عادت تبسم لى
ما عدت أرانى داخلها
هل تعكس وجه الموت الذل ؟ !
ووجه الطبلة والمزمار ؟
ولكن هذه النظرة المتشائمة تختفى عندما يغنى الشاعر للقاهرة أغنية حماسية تعيد الأمل والقوة إلى النفوس، إذ يقول من قصيدة "ثوب النداء" :
وتولد فى راحتينا الأمانى
ويُولد فى مقلتينا الضياء
ولكن هذه النظرة المتفائلة للوطن تتجادل مع بحث الشاعر عن وطن لا يشوب أبناءه العار، يتساءل الشاعر فى قصيدة "أشلاء" :
عن وطن فر لأن بنيه الحمقى
نَقَبوا تحت جدار الحب
فماتت أسئلة الشرفاء
عن وطن فر لينجو من عار الجبناء
ويدمى القلب قول الشاعر فى القدس السليبة من قصيدة : "قل لهم ما شئت عنا " :
أيها الأقصى تألم
لم يعد فينا الذى يبكى عليك
كيف يبكى من تلذذ بالدعة ؟
قل لهم ما شئت عنا
لا تقل إنا عرب
مسلمون
قل لهم مستسلمون
قل بأنا ميتون
ولا يخلو شعر رضا عطية من مسحة نزارية فى شعره العاطفى وفى شعره الوطنى، كما نجد أنه يجيد توزيع إيقاعاته العروضية على الأسطر الشعرية دون إخلال بعروض الخليل، مما ينبئ بحرصه على التحديث دون صدام مع تقاليد الشعر العربى.
أما الشاعر المخضرم "بدر بدير" فى ديوانه "دموع وابتسامات" فهو شاعر مصرى أصيل، أحس بغربته عن النقاد، وبغربتهم عنه، فأنشأ لديوانه مقدمة جميلة جليلة شكا فيها همه إلى ذاته على طريقة :
ما حك جلدك مثل ظفرك فتولّ أنت جميع أمرك
وقد أصدر الشاعر ديوانه مختارا من ثلاثة دواوين، جعل الأول منها للقصائد، والثانى للابتسامات، والثالث للحماريات، والأخير من أجمل شعره الذى يدل على هذه الروح المصرية التى تفيض سخرية ونكتة تبعث البهجة فى النفوس الصادية إلى الابتسام، والأمل إزاء ظلمات بعضها فوق بعض.
كما أن حماريات "بدر بدير" هى تعبير عن فلسفة الإنسان الذى يسخر من أخيه الإنسان يأسا منه، فيلجأ إلى الحمار يحادثه، ويبثه نجواه، ويصادقه كما صادقه "توفيق الحكيم"، وعكس فى حواراته معه فلسفته الفكرية، وأسلوبه الممتع.
والسلوكيات البشرية الغبية، كما يقول بدر بدير فى مقدمته لديوانه، هى هدفه الرمزى، وعالمه الفكرى الذى يعبر فيه عن رأيه فى الحياة والأحياء، وعن مواقفه النقدية التى يتناول بها بعض السلبيات الاجتماعية.
ويصوغ الشاعر حمارياته بأسلوب ساخر ساحر، يصل إلى القلب، ويثير الفكاهة التى تعد – بما تقدمه من صور هزلية – معادلا يخفف من صرامة وقسوة الحياة.
يقول فىإحدى حمارياته بعنوان "سُبّة" :
أمتعتُه أشبعتُه لكنه
فى غلظة بنابه أدمانى
ثم تولى غاضبا وناهقا
لأننى من أَلَمى شبهته
فى فعله بقسوة الإنسان
والمفارقة هى روح السخرية لأنها تقلب الميزان، فتصيب الإنسان بالضحك الذى هو أشبه بالبكاء لقسوة الإنسان على أخيه الإنسان.
أما المفارقة فى قصيدة "عرف حقيقته" فتتجلى فى قول الشاعر :
لكثرة الطعام والشراب صار
كتفه كجانب الجدار
وظن أنه الهزبر ذو الزئير
والهدير والمقام والقرار
وانفجرت أضلاعه بقوة
محمومة مشبوبة الأوار
وبينما يسير حول بركة
مياهها المرآة فى النهار
وفجأة بصَّ إلى الماء وإذ
به يرى فى العمق صورة الحمار
فهل يكون الحمار فى القصيدة السابقة هو الإنسان الغليظ، وهل يكون الإنسان المخدوع بقوته وجبروته فى هذه القصيدة هو الحمار؟ تلك هى الجدلية التى قد تثيرها مفارقات "بدر" فى حمارياته.
ويعجبنى فى هذا القصيدة الفعل "بص" لأنه يلعب دورا دلاليا جميلا فى مخاتلته بين استخدامه العامى وأصله الفصيح، وكأنه تعبير عن هذه المفارقة بين المغرور وبين تفاهته. وكذلك يلعب الفعل "شُفْتُ" بمعنى أبصرت هذا الدور نفسه فى قصيدة "هنا لا تُجب" التى يحكيها الشاعر فى أسلوب قصصى جذاب.
يقول فى حوار الحمار مع أنثاه ذات الدلال :
أرجحت ذيلها وقالت حبيبى
بعدما ذقتَ وارتويت بحبى
هل ترى فى الوجود أنثى كمثلى
تأسر القلب والعيون وتسبى
قال " ما شفت " فى جمالك أنثى
فى المراعى ولا رأيت بركبى
ويورد الشاعر قصة غرامية سابقة اعترف بها الحمار لأنثاه الجميلة تتضح فيها المفارقة بين الحب الذى ناله من هذه المغامرة، وبين السب الذى أصابه فى نهايتها بقول صاحبته السابقة له:
أنت جلف مغفل وابن كلب
وكذلك تتجلى مثل هذه المفارقة فى قصيدة : "هنا لا تجيبى"، إذ فى ذروة اعتراف الأنثى لحمارها بمغامرة عاطفية دامية ساخنة :
قال لها محبوبتى بعد الذى قد قُلتِه روحى وأنت طالقُ
وهذا يتجادل مع مطلع القصيدة المفارق :
بعد لقاء مشبع قال لها
بالله يا محبوبتى ألم يذق
قالت حبيبى مرة واحدة
حنينه قد شدنى وهزنى
فى لحظة النشوة أدمى كتفى
والقلب نبع رائق ودافقُ
شهدك قبلى ذات يوم ذائقُ
قد نالنى جحش شموس ناهقُ
بينا هو المخادع المنافقُ
هذا العنيف المستبد الأحمق
ويسقط الشاعر حكمته الإنسانية على الحمير فى قصيدة "يعرف قدره"، مبيِّنا وجوب تكافؤ الزواج، قائلا فى نهاية قصيدته القصصية هذه :
وساءلوه قال لا ياسادتى
ليس الحمار كفء مهرة أصيلة
أما حب الحمارة لصاحبها الحمار فكعلفة الفول بعد عناء سير طويل فى ليل العراء، تبوح الحمارة لأمها بحبها قائلة:
قالت أنا يا أم قد أحببته
كضفدع يبيت فى الطين إذا
كعلفة الفول صباحا بعد ما
كمنخر يحب دفقة الهواء
اشتدت عليه قسوة الشتاء
تمشين طول الليل فى العراء
فهل هناك تشبيهات فى فضاء الحب أجِمل من هذه التشبيهات؟! أما طبع اللئام عند إكرامهم فيتجلى فى قول الشاعر :
تساءل الجحش لماذا لا تسير
فى نشاط وحماس يا أبى ؟
عند ركوب ذلك الشيخ الخفيف
صاحب الطبع الكريم الطيب
قال الحمار لابنه يا ولدى
لأنه على القفا لم يضرب
ومثلما تجلت المفارقة فى هزل الحماريات، تجلت فى الدموع والابتسامات، متجاوبة مع قول الشاعر :
دموع دموع
إذا فرقتنا الليالى دموع
وعند لقاء الأحبة تهمى الدموع
عجبت لعينى
عجبت لقلبى الذى حار بين الضلوع
فدموع الشاعر وابتساماته – كما قال الشاعر بحق فى مقدمة ديوانه – يغلب عليها طابع التعبير الوجدانى الذى يتراوح بين الحزن والسرور.
وتكتمل مفارقات الشاعر فى ابتساماته الماكرة من مثل قصيدة "مجرد ظن" التى يقول منها:
ظن أن ابنه الذى ربّاه
سوف يغدو عند المشيب أباه
وغدا الابن بعد حين ملاكا
وأبا حانيا لطفل سواه
وعناوين الابتسامات ساحرة ماكرة؛ لها دلالتها على شخصية الشاعر الذى يقدم صورا قصصية قصيرة، يتغلغل بها فى عمق النفس الإنسانية فى لقطات ساخرة على حد تعبيره فى مقدمة ديوانه.
إن عالم بدر بدير الشعرى، خاصة فى مناجاته لله فى قصيدة "يارب"، وفى شعره الذى احتوى فيه العجز العربى الراهن، فى قصيدة "حوقلة" وعبّر فيه عن شهداء فلسطين، خاصة فى قصيدة "القمر الشهيد"، وعن غزو العراق فى قصيدة "بغداد"، وقوله فى آخر قصيدة "لولاك":
والحب بستاننا الدانى القطوف وما
كنا زرعناه – فى الأخرى- سنجنيه
إلى غير ذلك من شعر صادق عذب جميل نبيل يجعلنا نعتقد أن بدر بدير كان متواضعا عندما وصف نفسه بأنه شاعر هاو، بينما نراه شاعرا قديرا.
وحقا يبزغ أمل "بدر بدير" من أمله كما قال فيه الشاعر محمد بدير من قصيدة جميلة بعنوان : "ميلاد" :
وباسما تأخذنى إليك
وفاتحا تبحث فى مدائن الحب
عن الله... وفى عينيك
دافئة كل الأمانى الوارفة
....
تفتح أنت صدرك
للطير والغابات والهضاب
وتطعم الشموس بعض خبزك
وتبعث الرباب
من شجر الحزن
ومن جذب النفوس التالفة
وتمزج الصحراء بالوعد
فيفلت المدى من قبضة الأنواء منتصرا
وبعد :
فهل ترانى استطعت أن أسبر غور هؤلاء الشعراء الأعزاء فى هذه العجالة، إن دّينى لهم أكبر مما استطعت.