انطوائية الروح و تفتق الذات العاشقة
قراءة في نص ( إسراء ) للشاعرة بهيجة مصري إدلبي
الدارسان : حسين علي الهنداوي – حاتم قاسم
إسراء
من لي إذا الداء مني بي سرى الداء
و هم بالقلب عشق فيه إغواء
أخفيت بي ما سرى بالغيب فانكشفت
نوافذ الروح لي و الكشف إخفاء
كأنما أسطر ما خطها قلم
فاضت من اللوح و الألواح خرساء
حملت ما لو بدا للناس حل بهم
من الصبابة أشياء و أشياء
فالعشق إن شاء يخفي سر نشوته
و السر لا ينجلي كشفاً لمن شاؤوا
نفنى كما النهر يفنى في عذوبته
إن الفناء به فيض و إفضاء
حملته فارتدت روحي مسافتها
و غبت عني وما للروح ميناء
حل الهوى في دمي سراً ليقتلني
فحل لي منه بعد القتل إحياء
يا غائباً قد بدا في غيبه شغفي
و في الخفاء مرايا غبها الماء
وما بدا من هوى مني بلا صفة ٍ
فاق الذي قد بدا و الروح عمياء
نزلت في منزل حفته عتمته
و العتم في معجم الأرواح إبداء
فماد بي شغفي حين استوى بصري
ورحت أبصر و الأشياء أسماء
حارت بك الروح و الأشواق منزلة
فضمها للرؤى في الليل إسراء
كأنني و المدى حرف أذوب به
و الوجد من نوره وحي و إيماء
أطاوع الشوق يعمى حين أبصره
و تنطوي في مدار الروح آلاء
في القرب يمنحني بعداً يقربني
و البعد في العشق إدناءُ و إغراء
ورددت أضلعي و الحال في وله
ما قض صحوتها و الصمت إعياء
مشتاقة فاضت الأشواق من ولهي
و فجوة الآه في الأعماق ظلماء
وذلني ولهي فيمن ولهت به
إن الأعزّا إذا اشتاقوا أذلاء
الدراسة النقدية :
إن الروح الإنسانية حين تدلف في عالم الصمت بحثاً عن نظيرها تتخطى حدود المعقول و تسري بين تناغم السحب لتقول كلمتها في أعماق الفضاء اللامتناهي 0
تلك هي صورة الإسراء الإنساني المنطلق بخطى وئيدة بحثاً عن الذات و كأن لرجع صدى أصوات الصراخ المخنوق نغمات شجية تبعث في النفس الحزن و الانطواء و تعمر خريطة الفضاء بآفاق إنسانية جديدة 0
ليس جديداً علينا أن تسبح الروح الشاعرية بعيداً عن عالم الأجساد لترسم صورتها الملائكية في عالم الأرواح ذلك أن هذه الأرواح جنود مجندة تتوافق حينما تجد مرآة ذاتها ترسم صورة الآخرين عليها و الشعر العربي زاخر بانطلاقة الروح في فضاء الخيال و الشعراء كما هو معروف وحدهم من يسبح في أودية الخيال اللامتناهية و قد عبر عن ذلك القرآن الكريم حينما يقول : ( ألم تر أنهم أنهم في كل واد ٍيهيمون ) و يشارك الشعراء في هذه الخاصية شطحات الصوفيين التي تحمل الروح إلى آفاق ليست بالمنظورة 0
إذاً هناك قناة اتصال بين الشاعرية و الصوفية فكلاهما يهيم بالروح في عالم يصنعه الخيال البشري بحثاً عن الخلود 0
و النص الذي بين أيدينا هو شطحة من شطحات الصوفية أو قل الخيال الشعري الصوفي الذي أسس له ابن الفارض و السهروردي و ابن عربي حين انطلقوا في رسم عالم آخر لا تعيش فيه إلا الأرواح كيف لا و هذه الأرواح تخط بأقلامها الشفافة على الألواح الخرساء كما تقول الشاعرة حيث الكشف إخفاء و حيث تبدو نوافذ الروح مشرعة آفاقها في وادي الخيال الإنساني :
أخفيت بي ما سرى بالغيب فانكشفت
نوافذ الروح لي و الكشـــف إخفـــاء
كأنمـــا أســـــطر ما خطهـــــا قلـــم
فاضت من اللوح و الألواح خرساء
و كأنما الشاعرة تريد ان تعبر عن حالة الوجد الروحي الذي تعيشه في داخلها فهي تشف دون أن تصف و هي على حد قول المتنبي الذي صرح بذلك معلناً عن وجده الداخلي :
القلب أعلــــم يا عـــذول بـــدائه ......... و أحق منك بجفنه و بمائه
فومن أحب لأعصينك في الهوى ......... قسماً به و بحسنه و بهائه
أو على حد قول ابن الفارض :
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل............. فما اختاره مضنــى به ولـــه عقل
فمن لم يمــــت في حبه ولم يعــــش به ............ ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
و كأنما أسرارها الخفية تفضي إلى كلمتها الندية أشواقها الحارة التي أحرقت أضلعها من شدة الوله الذي تعيشه :
ورددت أضلعــي و الحال في وله
ما قض صحوتها و الصمت إعياء
إذاً نحن أمام حالة صوفية جديدة ترسم حالة حب إنساني و تتدفق من خلالها حالة الوجد الإنساني الذي يمثل (لا وعي) الشاعرة الذي ما فتئ أن صرح بالحالة الاستثنائية التي قذفها وعي الكلمات في ذيل القصيدة :
( اشتياق – وله – حب – سبر للأعماق – ظلماء مدلهمة – تسقط فيها الشاعرة أمام ذل ولهها ) و كأنها تريد أن تصرخ من أعماقها فتخونها حنجرتها لتقذف ذاكرتها بجمر الشوق الإنساني :
مشتاقة فاضت الأشواق من ولهي
و فجوة الآه في الأعماق ظلمــــاء
وذلني ولهــــــي فيمن ولهـــت به
إن الأعـــــزّا إذا اشــــتاقوا أذلاء
و يبدو أن الشاعرة تتناظر مع حالة إسقاط نفسي على الذات التي تلبس رداء العشق الصوفي فتتوقد جمرته توهجاً من نوافذ الروح و تكشف ببوحها عن مكنونات الذات الشاعرية بأفقها الذي يتعدى الأسطر و الكلمات حيث تركب جواد عشقها سابحة في أفاق الغيوم لتبوح لنا بسرها الذي يفيض كما النهر في أنينه عذوبته :
فالعشق إن شاء يخفي سر نشوته
و السر لا ينجلي كشفاً لمن شاؤوا
نفنى كما النهر يفنى في عذوبته
إن الفناء به فيض و إفضـــــــــاء
و قبل أن نغادر ميناء النص المتوسطي المناخ و نشير إن مرايا الروح عند الشاعرة وقد غبها ماء الصبابة :
يا غائباً قد بدا في غيبه شغفي
و في الخفاء مرايا غبها الماء
لا بد أن نهمس بكلمات تفتق مفردة النص الذي بين أيدينا فمفردات الشاعرة تبدو عرائس بحر تسبح في فضاء واسع الامتداد و هي مفردات فضفاضة يمكن لها أن تسير باتجاهين : اتجاه الحب الإلهي و اتجاه الحب البشري و لا يمكن لنا أن ندرك البعد الحقيقي لهذا العشق الروحي الذي يبدو (لا وعياً ) أحياناً و مجسداً للوعي أحياناً أخرى و إذا ما تجاوزنا الحشو المفرداتي في بعض الأبيات لإقامة الوزن أحياناً و لاختلاس المعنى أحياناً أخرى فإننا في المحصلة نبحر في ميناء الصبابة و لكننا لا نجد الشاطئ الذي ترسو به فينة الأرواح و كأننا أمام خيال انطوائي يريد أن يقول و يريد ألا يقول و هو على استحياء من الذات و الآخر ربما لأن الروح على حد قولها عمياء و هذا ما لا يمكن أن يتصوره الشعر :
من لي إذا الداء مني (بي )سـرى الداء
و هم بالقلب عشـــــق فيه إغـــــواء
أخفيت( بي) ما سرى بالغيب فانكشفت
نوافذ الروح( لي )و الكشــــــف إخفاء
ففي هذين البيتين تبدو ألفاظ ( بي – بي – لي ) التي استعملتها الشاعرة حشواً لإقامة الوزن و كأنها لم تدقق في أن هذه الكلمات الثلاثة جعلت مفردات هذين البيتين عرائس حب تتعثر بثياب الزفاف الواعد 0
نص متسامق في عالم الأرواح يحتاج إلى قراءة أكثر إبحاراً في بحر الشاعرة ربما لأن الشعر الصوفي يلتقي في دلالات مفرداته مع الشعر الحديث الذي يفتق أحياناً معاني جديدة و ينم أحياناً عن غموض مستغلق يحتاج إلى مسبار نقدي عميق يكشف عن أبعاده