حين يتحول الشاعرالمُغتَرب حسن رحيم الخرساني إلى ديوان شعر محسوس من الداخل والخارج وبأبعاده اللامحدودة، ومع ( صمتي جميلٌ يحب الكلام) يصبح صمته كلمات مشتعلة بالرؤى المستقبلية والأحلام والأساطير والأعراس والجنائز.. والدماء . لأنّ العراق سرّ القصيدة وسرّ معظم قصائد هذا الديوان . ولأن نصّه يعيد صياغة العالم ، ليبث من خلاله كل شروخ الروح والمنفى وشروخ الوطن. نقرأ نصوصه جملةً وتفصيلاً ونقع في شَرَك المعنى وفي شرَك جزئيات الصور الشعرية المحمَّلة بالبعد الانساني الحارِق. و تياراتها السوريالية الشفافة، لاتمنعنا من استقراء مجرى المشاعر الدخلي العميق للشاعر.
المسافةُ تعبتْ
والطريقُ يُناشدُني بالرجوع
لكنّ أمي التي زرعتْ شمسَها
لا تجوع.. لهذا سنمضي ..
أنا والدموع لنكتبَ سرَّ المطر
ونطبعَ فوقَ جبينَ العراق
نجومَ الفراتين
والأغنيات...
تستقطبك أدوات الشاعر ورموزه الشفافة في نصوصه مع صمته المُباح الجميل ، صمته، صوته الذي يخرج من أعماق روحه التي تشتعل فيها كمائن النور ليقطفها لنا ثماراً ناضجة إلى حد الجنون .. إلى حدّ الألفة المباغِتة- المدهشة التي تبرز بجموح يعرف كيف يلين أمام القصيدة وأمام الألم لتنبسط ضياءً يحطم بقايا السواد اللئيم:

النخلةُ بلا رأس ـ النخلةُ أمي ـ
دخلَ الفاتحونَ ثوبَها
وأطلقوا على عيوننا وصايا القبور..!
ثمة توحُّد بين ( الأنا) و(الأنتم) . ضمير الأنا يحتفي بجمعيته ، ويخزن كل شيء: الوطن ، الناس ، المقابر، والنخلة التي بلا رأس، رمز الوطن المذبوح:
جاءني الفراتُ
يزحفُ فوقَ جثثٍ
تُشكلُ رأسي
وأُخرى
نزفتْ
نزفتْ
حتى أدركني الغرق

وحين يخرج الشاعر من بوتقة المجموع ( الأنا = النحن والأنتم ) . ينفصل ليصبح ضميراً شعرياً وانسانياً قادماً من حوافّ الغربة بكل فَرادته وانتمائه للنخلة التي بلا رأس:

ادخلوا نجومَكم ايَّها العراقيون
لا تُحطمنّكم تلكَ الكراسي العمياء
أنا العاطلُ عن الذوبان
عمامتي من التمر
أعترفُ لأمواجي بالحب
أذبحُ لها الكلمات
قربانا لشعاع عطلي
متيمٌ أنا بتموز
لكنّ القنابلَ
أورثتْ أجسادنَا رياح النوم
ورغم تورطي المستمر
أربط ُ السوادَ بالعزلة
وأصيحُ بـ) ابي ذر ) 3*
منفيونَ
لكننا نحملُ هواءَ العراق ببقايا الروح
ويستمر الشاعر في لهجته الجمعية كي يكسر حاجز الانكسار في قلب الحضارة، واللغة التي هي شحنة كل الأسماء والأفعال:

نحملُ تلكَ النخلةَ ـ والتي بلا راس ـ
منفيونَ
لكنّ لنا لغةٌ تحطمُ الحجر
ثمة شغف لدى الشاعر بتحريك السواكِن والأشياء والأشخاص ، بتفعيل دورهم ، بل أكثر من ذلك، بتفعيل دوره معهم. و الحالات الجَّمالية لاتعني له الكثير عندما تكون بروح ( الصمت الأبيض)، لأنه يبحث عن الصوت، عن الحركة، عن اللون ، عن إثارة جَدل ما في عتمة السكون. وحين يتابع تحركات الأنثى التي يصفها بـ ( الزجاج البارد) ، يبحث عن مخرجٍ ما أشدّ حيوية واقتراباً لشخصيته وتجربته ومعاناته:
إنها لا شئ .. سوى
تلكَ الضحكة التي تغيب
حالما يُعاكسُها النهر..
إنها الطريقُ المتيمُ بالعابرين
سأرسمُ لها قلبا من رصاص
ربما
يُحيلُها الى ساحةٍ للقتال
أوساحةٍ
للحب..

و هو مهندس ديكور للحلم، يرسمه ويتخيله بخصب مشاعره كما يتصور وجوده الأمثل. ولايريد البشر أن يكونوا نائمين بلاصوت وبلاحركة . وهو قادرٌ دائماً على الابتكار وخلق حالات جديدة ديناميكية عميقة الوجود:
اليومُ أدخلُ مُسرعا للموت
أسرقُ ثوبَهُ
وأطوفُ في كلِ المقابر
مثل صمت الشمس..أدخلُ مسرعا
وأعودُ من حيثُ ألتقيتُ الموتَ
أرسمُ شارعاً
يمتدُ من قلبي .. إلى بلدي
أحطُ عليهِ دجلةَ ..وردةً
وبقايا حلمٍ في يديهِ قصائدي
حتى في رثائه نَفَسٌ جامحاً جموح الثوّار الذين يصنعون قواميساً أخرى للحياة من لغتهم الحية وقداسة قصائدهم:
اليومُ أرسُمنُي على كفنِ العيونِ
قداحةٌ تهدي نشيدَ جمالِها
عطراً.. ومرآة ً تُطيلُ تأمُلي
فأنا حديقةُ أمة ٍ ثكلى .. وتذبحُني
و هذا الخراب الذي يراه ولربما يسعى إلى تغييره بقامته . ولأنّ الرسم حالة ابداع ولانتوقع من المبدع أن يرسم صور الخراب كما هي، لابد وأن يُحدِث تغييراً ما هو أقوى من الخراب!
اليومُ أفتحُ قامتي جسرا ً
وأرسمُ
كل َّ أنواع الخرابْ
والمسافات بين الجرح والرقص في قصائد الشاعر حسن رحيم الخرساني تتلاشى ...
ورغم تورطي بالضياع
أمزجُ نشيدَ التوهج بروح ثيابي
وأرقصُ .. أرقصُ .. أرقصُ
ينهضُ من جمجمتي طقسُ المقابر
تنهضُ جثثٌ تكسرُ كلَّ المرايا
لأنه متصالحٌ مع ذاته والعالم، ولكن بعينين صقريتين تبصِران النزف والوجع ولاتئنّان بل تلفان الكون برؤياهما الغنية بجوهر الأحرف الراعشة حباً لبقايا تاريخٍ منهوب ، جنوناً بامرأةٍ مختبئة تحت جدار الغَرابة ، تفانياً مع لغةٍ تعني له حالة عشقٍ لاتهدأ لتصل إلى حدِّ التماهي طالما تتكون حروف روحه من نسيجها الساحِر:
أنا لغةٌ أعرفُها .. تعرفُني لغتي
أدخلُها من جسدٍ آخر
تكرهُ لغةَ الحرب..
تبكي .. وتنام!!
لغةٌ تمشي .. وتفكرُ في الضوء
أعرفُها قبلَ الموت.
تهمسُ للنهر كطفلٍ يتوحد
تركضُ أحيانا مثل الحلم..
تنسى ... تتذكرُ
تستيقظُ قبلَ الشمس
تمنحُني أسراراً
وتغيب!!
يثقب الحقيقة بجنون المغتَرِب العاشق الباحث عن الألم اللذيد حين يختفي تحت لحاف الوطن مهما اشتد هذيانه وغثيانه، مهما تنافرت أبعاد أحلامه وتناثرت جمهوريات التاريخ بأبعادها الجغرافية والملحميّة ، يأبى الشاعر أن يستسلم فقط للخسارات:
لماذا ـ أيَّها العظيم كلكامش ـ
زرعتَ في سواحلي صوتَكَ الخالد
ثم تركتني بينَ القردة ؟؟
جعلتَ أنكيدو حقلَ تجارب ..؟؟
لماذا ـ أيَّها العظيم ـ
ينزلُ الفراتُ عن عرشهِ
ودجلةُ أرملة ٌ بلا وطن ..؟؟
في ذاته نبضٌ شعريٌّ صاخبٌ ، صارخٌ مدوٍّ ولكنه رزين عفوّي حد الدهشة وحارٌّ إلى حد الاحتراق!
تحت شمس العراق
كتبوا ديمقراطياتهـم
ثم سرقوا الشمس..!!
وتتكرر الجمل الشعرية لتؤكد حالات ما ، تشبه صدى الحروب ، تشبه أنفاس العاشق الموجوع. إنها إيقاع الشاعر الذي يتسم بالحزن الشفيف المغلف بضوء القصيدة. تتكرر العبارات الشعرية لتعطي للشعر مضموناً آخر أكبر من الكلمات ، مضموناً يشبه قوة الفعل. لعلها تراتيل أو ابتهالات تأخذنا إلى أماكن أكثر أمناً من ذواتنا ! لِمَ لا والقصيدة ملجأ الخروج من الألم تشبه هي الأخرى النزف الحارّ والجميل لصانع الحروف المبدعة.
والأمثلة كثيرة في الديوان. نذكر منها:
من قصيدة لاأحد باتجاه أحد نرصد العبارات:

(جاءتْ إلي نخلةٌ ـ بلا رأس)، (النخلةُ بلا رأس وأنا مازالتُ واقفاً)، (النخلةُ بلا رأس ـ النخلةُ أمي) ، (سأجعلُ جذعَكِ أيتُها النخلةُ ـ والتي بلا رأس ـ موجةً لطفولتي)،( نحملُ تلكَ النخلةَ ـ والتي بلا رأس)

ومن قصيدة( بين أعشابها تصلّي النجوم)

تتكرر عبارة:
(أسمـُها لا يـُرى ـ تملك ُ المعـنى بصوت ِ الياسمين)

ثماني مرّات ويختم بها قصيدته
للمرة التاسعة بنكهة أخرى قائلاً:

أسمـُها المعـنى
بصوت ِ الياسمين .

تتكرر العبارات هذه لكأنها تراتيل أو ابتهالات على حافة نزيف لايتوقف!!!

لم تنته خربشاتي بعد، لكنني بحاجة لعشرات الصفحات لاستقراء كل شيء هنا. البقية ستأتي مع قارئٍ غيري..وأكثر !!
بقي أن نقول بأن ديوان الشاعر حسن رحيم الخرساني ( صمتي جميلٌ يحب الكلام) يقع في 57 صفحة من القطع المتوسط. وحائز على جائزة ناجي نعمان الأدبية
( جائزة الاستحقاق) لعام 2007 .