أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 16

الموضوع: بيب بيب - رواية قصيرة ساخرة، الجزء الأول

  1. #1
    الصورة الرمزية عدنان القماش أديب
    تاريخ التسجيل : May 2006
    المشاركات : 316
    المواضيع : 61
    الردود : 316
    المعدل اليومي : 0.05

    Talking بيب بيب - رواية قصيرة ساخرة، الجزء الأول


    -1-
    انتهي حفل افتتاح هذا المشروع الضخم الذي تم تنفيذه بنجاح أشاد به السادة الحضور من المسئولين والوفود الأجنبية. ركبت سيارتي، شرعت في قطع طريق كورنيش النيل، مرورا بميدان التحرير، في طريقي إلي مدينة نصر حيث أسكن.
    أنتابني شعور بالتعب والإرهاق، تزايدت معه رغبتي في النوم لقرنين من الزمان، لكن تذكري لنجاح المشروع، رفع عن كاهلي التعب.
    رغم أن الإحباط لم يفارقني، لكون مجهودي ذهب كالعادة إلي مديري،الذي نلقبه ب"المحظوظ". لكنى لا أرى الأمر حظا، بقدر أنه تخلف إداري ومحسوبية نعاني منها في أيامنا تلك. لم يفلح معها كوني من أسرة ذات نفوذ وعلاقات قوية، فدائما هناك من هو أقوى منك.
    أنقذتني الطبيعية من هذا الشعور، وكانت بي حفية، تألق النيل وقت الأصيل، يرسل النسيم العليل ليداعب وجهي، يحرك أوراق الأشجار لتتراقص فرحا. ازدادت لدي الرغبة في الاستمتاع بهذه الروعة التي لا تجدها في أي مكان آخر في الدنيا. وأين تجد نهرا كنهر النيل، يشبه في صفاته أنهار الجنة؟ (1). قدت بسرعة متوسطة، إلي أن وصلت إلي ميدان التحرير.
    أخذت أدور مع الميدان، أوقفتني إشارة ضوئية لتنظيم المرور. كنت أرقب كوبري السادس من أكتوبر، لأرى إن كان يعاني من اختناقات مرورية أم لا. حينها واتتني فكرة شراء هدية لزوجتي، فقد تغيبت عنها لمدة ليست بالقصيرة. لم أعلمها بانتهاء العمل في المشروع، وحصولي على عطلة، لأعد لها مفاجأة. أعرف متجرا تحب زوجتي الشراء منه كثيرا. عزمت أن أكمل دورتي، لأتوجه إليه.
    أكملت الدورة مع الميدان، أخذت أمد رأسي ناظرا ناحية اليمين، محاولا الانضمام إلي السيارات القادمة من تلك الجهة. أعتمدت على الزحام الشديد المعتاد في الميدان، ليساعدني على الانضمام بانسايبية إلي الطريق.
    يحتاج الأمر إلى عملية جراحية معقدة. يجب أن أقحم مقدمة السيارة جزءا جزءا، حتى احتل مكاني في الطريق. تسمى هذه العملية ب"البوز بيز" أو قاعدة فن احتلال الطريق بواسطة مقدمة السيارة. تحتاج هذه القاعدة إلي الكثير من التمرس والتركيز، حيث تشتمل على كل قواعد علم النفس والاجتماع، وهي اختراع مصري مئة بالمئة.
    تمكن المصريون عبر الزمان من إتقان هذه العملية، وتطوير قدراتهم على استقراء الشخصيات، وتوقع ردود أفعالهم. فمثلا، إذا كان السائق المنافس سائحا من دول الغرب، فسيظل باقيا في مكانه إلي يوم أن يبعث. أما إذا كان مصريا، يبدو على سيماه الاحترام، أو أنه غريبا عن القاهرة، فهذا لقمة سائغة. لكن إذا كان سائقا لسيارة أجرة، أو شابا من شباب هذا الجيل، فالعملية أصعب بكثير. وهنا ينتصر من يملك المستوي الأعلى من الجرأة والتحكم في الأعصاب. لم أحب وصف بعض أصدقائي لهذه العملية، بأنها عدم لباقة وقلة ذوق. فهي تمتاز بالكثير من المتعة والإثارة، وتزيد من قوة الشخصية.
    نتيجة لتركيزي الشديد، لم أنتبه لجندي المرور، الذي كان يشير لأتوقف، إلا عندما طرق زجاج سيارتي بشدة. أصابني إحباط شديد، حيث أن عدة سنتيمترات خالية قد ظهرت في الطريق، كانت تكفيني لاحتلال مكاني.
    فتحت زجاج النافذة، نظرت إليه متأملا. وجهه أبيض، مستدير مثل البطيخة، يحمل شاربا كبيرا، وعينين ضيقيتن، وربما يكون حجم أنفه الكبير هو الباعث على الشعور بضيق عينيه هكذا. يرتدى بذلة بيضاء - لا تمت بصلة إلي هذا اللون الناصع-، يقع حزامه أسفل كرشه المنتفخ، وهذه صفة مميزة لنا نحن المصريون، حيث أننا نحمل لقب أكبر دولة يملك رجالها كروشا في العالم. ولم أتمكن من استكشاف إذا كان يحمل النصف الآخر من ختم النسر المميز لجميع التعاملات الرسمية في مصر. أعنى بذلك صلعته، حيث حالت قبعته دون الكشف عن حقيقة وجودها.
    هززت رأسي في استنكار، كأني أسئله عن سر إزعاجه لي. ارتسمت على وجهه ابتسامة من وجد سائحا ساذجا - كما نظنهم دائما في مصر- ليبيع له تمثال أبا الهول، توقعت أنه سيقول لي، "سفنكس يا خواجة"، لكنه قال:
    - لقد كسرت الإشارة يا أستاذ.
    ارتسمت على وجهي علامات التعجب، نظرت عبر زجاج السيارة الأمامي، فلم أجد أعمدة، أو إشارات. أشرت بكلتا يديي، وأنا أقول معترضا:
    - أية إشارة؟ أين هي؟
    أشار بكل هدوء نحو مكان على الأرض خارج نطاق رؤيتي:
    - هذه الإشارة يا محترم.
    نزعت حزام الأمان، خرجت بنصف جسدي من النافذة، لأنظر حيث يشير. لم أرى شيئا، حدثته بلهجة صارخة:
    - أية إشارة تلك؟
    - ارجع قليلا إلي الوراء، وسوف تراها يا محترم.
    أرجعت السيارة إلي الخلف، ترجلت عنها غاضبا، لأرى تلك الإشارة. وجدت ما يشبه أثر مشوش، لما كان يمكن أن يسمى بطلاء منذ عدة عقود. نظرت نحو الجندي غاضبا:
    - ما هذا؟ هل كان هناك مسابقة لعب بالطباشير للأطفال؟
    - لا، يا أستاذ. أنا لا أسمح لك. هذه إشارة عمرها من عمر الميدان، ولا أسمح لك أن تستهزيء بها، هذه إشارة الخديوي إسماعيل.
    لم أستوعب عما يتحدث، رددت متسائلا:
    - خديوي، من؟
    أجاب متباهيا بمعلوماته التاريخية العظيمة:
    - الخديوي إسماعيل، من بنى هذا الميدان.
    - يا أخ، هل كانت السيارات في زمن هذا الخديوي، تحتاج إلي إشارات مرورية؟.
    - ليس لدي وقتا يا أستاذ. نحرر مخالفة، أم نقول كل سنة وأنت طيب؟.
    عرفت ما يرمى إليه، لكني لست من هذا النوع. أعلم أنه جندي مسكين يستحق المساعدة. فما هو إلا أحد أبناء النجوع والأقاليم البسطاء، لم يكمل تعليمه في غالب الظن. لكن لا يمكن أن أساعده على فعلته أبدا. قلت وأنا أستدير مبتعدا:
    - كل سنة وأنت طيب.
    كرر السؤال بصوت غاضب. ألتفت نحوه، أخبرته أني لن أدفع رشوة أبدا، وأن هذا مخالف للدين والأخلاق والقوانين. بدت عليه علامات الاضطراب، يبدو أنه لم يقابل أحدا ألقى عليه مثل هذه المحاضرة الأخلاقية من قبل.
    أخذ ينظر حوله كمن يستغيث. اقترب منا أمين شرطة، وجهه أشبه بخيارة، مرسوم عليها شارب رفيع، يكاد زيه أن يسقط من فوق جسده النحيل. ارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء، وهو يسأل رفيقه:
    - ما المشكلة يا خضر؟
    بكل براءة:
    - لا شيء، الأستاذ كسر إشارة الخديوي إسماعيل، ولا يريد أن أحرر له مخالفة.
    ازدادت ابتسامة هذه الخيارة، التي نبت من أطرافها إنسان. أمسك يدي، تنحى بي جانبا، قام بدور من يخلصني من ورطة كبيرة:
    - يا أستاذ، لا داعي لتحرير مخالفات، خصوصا بعد تطبيق القانون الجديد.
    يبدو أن المشروع الذي أنشغلت به في الفترة الماضية، قطعني عن الحياة تماما. بدت على وجهي علامات التعجب، التي قرأها السيد خيارة. استرسل قائلا في همس، كمن يفضي لي بأسرار حربية:
    - وقد تم تشديد الغرامات وتغليظ العقوبات. مخالفة مثل كسر هذه الإشارة قد تدفع فيها آلاف الجنيهات. وقد تحبس أيضا لمدة عام أو أثنين.
    غمز بعينه قائلا:
    - وكل سنة وأنت طيب.
    أذهلني ما قاله، لكن من عاداتي أني لا أرضخ بسهولة، هذه خبرة أكتسبتها من الزواج. صرخت فيه:
    - وهل تسمى هذه إشارة؟
    شعر أنه لا رجاء مني، غمز لرفيقه، ليحرر لي مخالفة. انطلق خضر ينفذ الأمر. طلب مني رخصة القيادة، وأوراق ملكية السيارة، ليحرر المخالفة. كنت سأصرخ مهددا بأني وأني......
    لكن قاطعنا قائد السيارة التي تقف إلي جوارنا منذ مدة، ولم ننتبه لوجودها. يقودها رجل ريفي سمين، يبدو عليه أثر النعمة، ذو كرش عظيم، وجهه ممتلئ، يعلوه شارب كبير، يرتدي جلبابا تعلوه عباءة سوداء، تكسو رأسه عمامة منسقة. كان محشورا خلف عجلة قيادة سيارته الفارهة. تجلس زوجته في الكرسي المجاور، ترتدي جلبابا أسودا، وطرحة سوداء، والكثير من المصوغات الذهبية.
    خرج برأسه من نافذة السيارة، أشار إلي لأقترب منه، تركت خضر منتظرا بكرشه وبذلته التي فقدت لونها الأبيض، أنحنيت نحو السائق الريفي، سألني:
    - لو سمحت يا أستاذ، من أين يذهبون إلي الملاهي المائية؟
    نظرت داخل السيارة لعلى أجد أحفاده، فربما جاء لينزههم، لكنى لم أجد أحدا. كدت أن أنفجر في وجه صارخا فهذا ليس وقتا مناسبا، لكني وجدتها فرصة سانحة لتجاهل خضر، الذي لم يتركنا في حالنا، ودفعه الفضول ليقترب منا. وما أن مرت ثواني معدودة، حتى اشترك معنا في الحوار، وقاطعني ليقوم بوصف الطريق ل"حضرة العمدة"، على حد تعبيره.
    تطلبت العملية جهدا جهيدا، ليس لغباء حضرة العمدة لا سمح الله، ولا لقصور في وصف خضر، الذي لم يبخل بشرح أدق التفاصيل. حتى أنه لم يترك مطبا أو حفرة، قد تساعد حضرة العمدة في بلوغ هدفه، دون أن يأتي على ذكرها. لكن المشكلة تكمن في أن الطرق في مصر، مثلها مثل جحر كبير، تسكنه الثعابين الضخمة فارهة الطول، التي لا تعرف لها أول من آخر. لمن ينتمي هذا الذيل؟ أو لمن تنتمي هذه الرأس؟. لا توجد علامات إرشادية تهديك السبيل؟.
    في معظم الأحوال، لا تملك إلا أن تردد النشيد الوطني للتائهين "المحلة منين، يا سمنودي؟"
    بينما نقوم بعملية الشرح هذه، قاطعتنا آلة تنبيه ارتفع صوتها بشدة، أطلقها شخص نفد صبره،،،
    جاري تشحيم وتزييت الجزء التالي، يرجى الانتظار،،،،،

    (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفعت إلى السدرة ، فإذا أربعة أنهار : نهران ظاهران ونهران باطنان ، فأما الظاهران: النيل والفرات"
    - جزء من حديث صحيح.
    الراوي: أنس بن مالك، المحدث: البخاري، المصدر: الجامع الصحيح. الصفحة أو الرقم: 5610.

    بقلم: عدنان القماش.
    29 يوليو 2008.
    المنصورة، جمهورية مصر العربية.
    ------------------------------
    تنبية هام: جميع الشخصيات والهيئات والأحداث والمركبات من وحي خيال الكاتب. ولا تمت بصلة من قريب أو بعيد لشخص أو هيئة أو مكان أو مركبة. ولو وجدت علاقة، فهي على سبيل الصدفة المحضة.


  2. #2
    الصورة الرمزية دكتور محمد فؤاد أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2007
    المشاركات : 128
    المواضيع : 16
    الردود : 128
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    أخي العزيز عدنان القماش
    نص رائع وحبكة قصصية ممتعة ونص خفيف الظل لحد الوجع .. فقد صار هؤلاء يفرحون بتشديد القوانين لابغية احترامها وإنما بغية زيادة الإتاوة المفروضة .. استمتعت بمصاحبتك وسأرابط هنا لأتلقف الجزء الثاني ,,
    تحياتي.
    د. محمد فؤاد منصور

  3. #3
    الصورة الرمزية عدنان القماش أديب
    تاريخ التسجيل : May 2006
    المشاركات : 316
    المواضيع : 61
    الردود : 316
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة دكتور محمد فؤاد مشاهدة المشاركة
    أخي العزيز عدنان القماش
    نص رائع وحبكة قصصية ممتعة ونص خفيف الظل لحد الوجع .. فقد صار هؤلاء يفرحون بتشديد القوانين لابغية احترامها وإنما بغية زيادة الإتاوة المفروضة .. استمتعت بمصاحبتك وسأرابط هنا لأتلقف الجزء الثاني ,,
    تحياتي.
    د. محمد فؤاد منصور
    بسم الله
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    أخي الكريم الدكتور محمد فؤاد،،،
    أسعدني كثيرا مرورك الطيب، وقراءتك الواعية التي كشفت ما وراء الضحكة.
    ويشرفني متابعتك لباقي الأجزاء، إن شاء الله،،،

    وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

  4. #4
    الصورة الرمزية عدنان القماش أديب
    تاريخ التسجيل : May 2006
    المشاركات : 316
    المواضيع : 61
    الردود : 316
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    بسم الله
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    الإخوة المشرفون، أرجو تغيير الجملة التالية
    "وأين تجد نهرا كنهر النيل، يحمل صفات أنهار الجنة؟"
    إلي
    "وأين تجد نهرا كنهر النيل، يشبه في صفاته أنهار الجنة؟"

    وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

  5. #5
    الصورة الرمزية حسام القاضي أديب قاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+الكويت
    العمر : 63
    المشاركات : 2,213
    المواضيع : 78
    الردود : 2213
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي

    أخي الفاضل الأديب / عدنان القماش
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بيب ..بيب
    أجدت في وصف شوارعنا وبعض مآسينا فيها..
    المطبات الأسفلتية ، و.. المطبات البشرية
    أعجبني مصطلح ""البوز بيز" " وتحليلك لما
    هو مرتبط به !!
    أنتظر الجزء القادم بعد..
    التزييت والتشحيم



    تقبل تقديري واحترامي
    حسام القاضي
    أديب .. أحياناً

  6. #6
    الصورة الرمزية عدنان القماش أديب
    تاريخ التسجيل : May 2006
    المشاركات : 316
    المواضيع : 61
    الردود : 316
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حسام القاضي مشاهدة المشاركة
    أخي الفاضل الأديب / عدنان القماش
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بيب ..بيب
    أجدت في وصف شوارعنا وبعض مآسينا فيها..
    المطبات الأسفلتية ، و.. المطبات البشرية
    أعجبني مصطلح ""البوز بيز" " وتحليلك لما
    هو مرتبط به !!
    أنتظر الجزء القادم بعد..
    التزييت والتشحيم
    تقبل تقديري واحترامي
    بسم الله
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    أخي الكريم وأستاذي الأديب حسام القاضي،،،
    يسعدني مرورك دائما، وأنت تعلم أن رأيك يهمني كثيرا.
    وأسعدني تشجيعك وكلماتك الطيبة، ونتمنى دوام التوفيق.

    مصطلح "البوز بيز" هو مصطلح مصري، لم أفعل غير أني وضعته في الرواية.
    وأنت تعلم أن المصريين مؤلفين بفطرتهم.

    وأشكرك للقيام بالتعديل المطلوب.

    وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

  7. #7
    الصورة الرمزية د. مصطفى عراقي شاعر
    في ذمة الله

    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : محارة شوق
    العمر : 64
    المشاركات : 3,523
    المواضيع : 160
    الردود : 3523
    المعدل اليومي : 0.54

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عدنان القماش مشاهدة المشاركة

    -1-
    انتهي حفل افتتاح هذا المشروع الضخم الذي تم تنفيذه بنجاح أشاد به السادة الحضور من المسئولين والوفود الأجنبية. ركبت سيارتي، شرعت في قطع طريق كورنيش النيل، مرورا بميدان التحرير، في طريقي إلي مدينة نصر حيث أسكن.
    أنتابني شعور بالتعب والإرهاق، تزايدت معه رغبتي في النوم لقرنين من الزمان، لكن تذكري لنجاح المشروع، رفع عن كاهلي التعب.
    رغم أن الإحباط لم يفارقني، لكون مجهودي ذهب كالعادة إلي مديري،الذي نلقبه ب"المحظوظ". لكنى لا أرى الأمر حظا، بقدر أنه تخلف إداري ومحسوبية نعاني منها في أيامنا تلك. لم يفلح معها كوني من أسرة ذات نفوذ وعلاقات قوية، فدائما هناك من هو أقوى منك.
    أنقذتني الطبيعية من هذا الشعور، وكانت بي حفية، تألق النيل وقت الأصيل، يرسل النسيم العليل ليداعب وجهي، يحرك أوراق الأشجار لتتراقص فرحا. ازدادت لدي الرغبة في الاستمتاع بهذه الروعة التي لا تجدها في أي مكان آخر في الدنيا. وأين تجد نهرا كنهر النيل، يشبه في صفاته أنهار الجنة؟ (1). قدت بسرعة متوسطة، إلي أن وصلت إلي ميدان التحرير.
    أخذت أدور مع الميدان، أوقفتني إشارة ضوئية لتنظيم المرور. كنت أرقب كوبري السادس من أكتوبر، لأرى إن كان يعاني من اختناقات مرورية أم لا. حينها واتتني فكرة شراء هدية لزوجتي، فقد تغيبت عنها لمدة ليست بالقصيرة. لم أعلمها بانتهاء العمل في المشروع، وحصولي على عطلة، لأعد لها مفاجأة. أعرف متجرا تحب زوجتي الشراء منه كثيرا. عزمت أن أكمل دورتي، لأتوجه إليه.
    أكملت الدورة مع الميدان، أخذت أمد رأسي ناظرا ناحية اليمين، محاولا الانضمام إلي السيارات القادمة من تلك الجهة. أعتمدت على الزحام الشديد المعتاد في الميدان، ليساعدني على الانضمام بانسايبية إلي الطريق.
    يحتاج الأمر إلى عملية جراحية معقدة. يجب أن أقحم مقدمة السيارة جزءا جزءا، حتى احتل مكاني في الطريق. تسمى هذه العملية ب"البوز بيز" أو قاعدة فن احتلال الطريق بواسطة مقدمة السيارة. تحتاج هذه القاعدة إلي الكثير من التمرس والتركيز، حيث تشتمل على كل قواعد علم النفس والاجتماع، وهي اختراع مصري مئة بالمئة.
    تمكن المصريون عبر الزمان من إتقان هذه العملية، وتطوير قدراتهم على استقراء الشخصيات، وتوقع ردود أفعالهم. فمثلا، إذا كان السائق المنافس سائحا من دول الغرب، فسيظل باقيا في مكانه إلي يوم أن يبعث. أما إذا كان مصريا، يبدو على سيماه الاحترام، أو أنه غريبا عن القاهرة، فهذا لقمة سائغة. لكن إذا كان سائقا لسيارة أجرة، أو شابا من شباب هذا الجيل، فالعملية أصعب بكثير. وهنا ينتصر من يملك المستوي الأعلى من الجرأة والتحكم في الأعصاب. لم أحب وصف بعض أصدقائي لهذه العملية، بأنها عدم لباقة وقلة ذوق. فهي تمتاز بالكثير من المتعة والإثارة، وتزيد من قوة الشخصية.
    نتيجة لتركيزي الشديد، لم أنتبه لجندي المرور، الذي كان يشير لأتوقف، إلا عندما طرق زجاج سيارتي بشدة. أصابني إحباط شديد، حيث أن عدة سنتيمترات خالية قد ظهرت في الطريق، كانت تكفيني لاحتلال مكاني.
    فتحت زجاج النافذة، نظرت إليه متأملا. وجهه أبيض، مستدير مثل البطيخة، يحمل شاربا كبيرا، وعينين ضيقيتن، وربما يكون حجم أنفه الكبير هو الباعث على الشعور بضيق عينيه هكذا. يرتدى بذلة بيضاء - لا تمت بصلة إلي هذا اللون الناصع-، يقع حزامه أسفل كرشه المنتفخ، وهذه صفة مميزة لنا نحن المصريون، حيث أننا نحمل لقب أكبر دولة يملك رجالها كروشا في العالم. ولم أتمكن من استكشاف إذا كان يحمل النصف الآخر من ختم النسر المميز لجميع التعاملات الرسمية في مصر. أعنى بذلك صلعته، حيث حالت قبعته دون الكشف عن حقيقة وجودها.
    هززت رأسي في استنكار، كأني أسئله عن سر إزعاجه لي. ارتسمت على وجهه ابتسامة من وجد سائحا ساذجا - كما نظنهم دائما في مصر- ليبيع له تمثال أبا الهول، توقعت أنه سيقول لي، "سفنكس يا خواجة"، لكنه قال:
    - لقد كسرت الإشارة يا أستاذ.
    ارتسمت على وجهي علامات التعجب، نظرت عبر زجاج السيارة الأمامي، فلم أجد أعمدة، أو إشارات. أشرت بكلتا يديي، وأنا أقول معترضا:
    - أية إشارة؟ أين هي؟
    أشار بكل هدوء نحو مكان على الأرض خارج نطاق رؤيتي:
    - هذه الإشارة يا محترم.
    نزعت حزام الأمان، خرجت بنصف جسدي من النافذة، لأنظر حيث يشير. لم أرى شيئا، حدثته بلهجة صارخة:
    - أية إشارة تلك؟
    - ارجع قليلا إلي الوراء، وسوف تراها يا محترم.
    أرجعت السيارة إلي الخلف، ترجلت عنها غاضبا، لأرى تلك الإشارة. وجدت ما يشبه أثر مشوش، لما كان يمكن أن يسمى بطلاء منذ عدة عقود. نظرت نحو الجندي غاضبا:
    - ما هذا؟ هل كان هناك مسابقة لعب بالطباشير للأطفال؟
    - لا، يا أستاذ. أنا لا أسمح لك. هذه إشارة عمرها من عمر الميدان، ولا أسمح لك أن تستهزيء بها، هذه إشارة الخديوي إسماعيل.
    لم أستوعب عما يتحدث، رددت متسائلا:
    - خديوي، من؟
    أجاب متباهيا بمعلوماته التاريخية العظيمة:
    - الخديوي إسماعيل، من بنى هذا الميدان.
    - يا أخ، هل كانت السيارات في زمن هذا الخديوي، تحتاج إلي إشارات مرورية؟.
    - ليس لدي وقتا يا أستاذ. نحرر مخالفة، أم نقول كل سنة وأنت طيب؟.
    عرفت ما يرمى إليه، لكني لست من هذا النوع. أعلم أنه جندي مسكين يستحق المساعدة. فما هو إلا أحد أبناء النجوع والأقاليم البسطاء، لم يكمل تعليمه في غالب الظن. لكن لا يمكن أن أساعده على فعلته أبدا. قلت وأنا أستدير مبتعدا:
    - كل سنة وأنت طيب.
    كرر السؤال بصوت غاضب. ألتفت نحوه، أخبرته أني لن أدفع رشوة أبدا، وأن هذا مخالف للدين والأخلاق والقوانين. بدت عليه علامات الاضطراب، يبدو أنه لم يقابل أحدا ألقى عليه مثل هذه المحاضرة الأخلاقية من قبل.
    أخذ ينظر حوله كمن يستغيث. اقترب منا أمين شرطة، وجهه أشبه بخيارة، مرسوم عليها شارب رفيع، يكاد زيه أن يسقط من فوق جسده النحيل. ارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء، وهو يسأل رفيقه:
    - ما المشكلة يا خضر؟
    بكل براءة:
    - لا شيء، الأستاذ كسر إشارة الخديوي إسماعيل، ولا يريد أن أحرر له مخالفة.
    ازدادت ابتسامة هذه الخيارة، التي نبت من أطرافها إنسان. أمسك يدي، تنحى بي جانبا، قام بدور من يخلصني من ورطة كبيرة:
    - يا أستاذ، لا داعي لتحرير مخالفات، خصوصا بعد تطبيق القانون الجديد.
    يبدو أن المشروع الذي أنشغلت به في الفترة الماضية، قطعني عن الحياة تماما. بدت على وجهي علامات التعجب، التي قرأها السيد خيارة. استرسل قائلا في همس، كمن يفضي لي بأسرار حربية:
    - وقد تم تشديد الغرامات وتغليظ العقوبات. مخالفة مثل كسر هذه الإشارة قد تدفع فيها آلاف الجنيهات. وقد تحبس أيضا لمدة عام أو أثنين.
    غمز بعينه قائلا:
    - وكل سنة وأنت طيب.
    أذهلني ما قاله، لكن من عاداتي أني لا أرضخ بسهولة، هذه خبرة أكتسبتها من الزواج. صرخت فيه:
    - وهل تسمى هذه إشارة؟
    شعر أنه لا رجاء مني، غمز لرفيقه، ليحرر لي مخالفة. انطلق خضر ينفذ الأمر. طلب مني رخصة القيادة، وأوراق ملكية السيارة، ليحرر المخالفة. كنت سأصرخ مهددا بأني وأني......
    لكن قاطعنا قائد السيارة التي تقف إلي جوارنا منذ مدة، ولم ننتبه لوجودها. يقودها رجل ريفي سمين، يبدو عليه أثر النعمة، ذو كرش عظيم، وجهه ممتلئ، يعلوه شارب كبير، يرتدي جلبابا تعلوه عباءة سوداء، تكسو رأسه عمامة منسقة. كان محشورا خلف عجلة قيادة سيارته الفارهة. تجلس زوجته في الكرسي المجاور، ترتدي جلبابا أسودا، وطرحة سوداء، والكثير من المصوغات الذهبية.
    خرج برأسه من نافذة السيارة، أشار إلي لأقترب منه، تركت خضر منتظرا بكرشه وبذلته التي فقدت لونها الأبيض، أنحنيت نحو السائق الريفي، سألني:
    - لو سمحت يا أستاذ، من أين يذهبون إلي الملاهي المائية؟
    نظرت داخل السيارة لعلى أجد أحفاده، فربما جاء لينزههم، لكنى لم أجد أحدا. كدت أن أنفجر في وجه صارخا فهذا ليس وقتا مناسبا، لكني وجدتها فرصة سانحة لتجاهل خضر، الذي لم يتركنا في حالنا، ودفعه الفضول ليقترب منا. وما أن مرت ثواني معدودة، حتى اشترك معنا في الحوار، وقاطعني ليقوم بوصف الطريق ل"حضرة العمدة"، على حد تعبيره.
    تطلبت العملية جهدا جهيدا، ليس لغباء حضرة العمدة لا سمح الله، ولا لقصور في وصف خضر، الذي لم يبخل بشرح أدق التفاصيل. حتى أنه لم يترك مطبا أو حفرة، قد تساعد حضرة العمدة في بلوغ هدفه، دون أن يأتي على ذكرها. لكن المشكلة تكمن في أن الطرق في مصر، مثلها مثل جحر كبير، تسكنه الثعابين الضخمة فارهة الطول، التي لا تعرف لها أول من آخر. لمن ينتمي هذا الذيل؟ أو لمن تنتمي هذه الرأس؟. لا توجد علامات إرشادية تهديك السبيل؟.
    في معظم الأحوال، لا تملك إلا أن تردد النشيد الوطني للتائهين "المحلة منين، يا سمنودي؟"
    بينما نقوم بعملية الشرح هذه، قاطعتنا آلة تنبيه ارتفع صوتها بشدة، أطلقها شخص نفد صبره،،،
    جاري تشحيم وتزييت الجزء التالي، يرجى الانتظار،،،،،

    (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفعت إلى السدرة ، فإذا أربعة أنهار : نهران ظاهران ونهران باطنان ، فأما الظاهران: النيل والفرات"
    - جزء من حديث صحيح.
    الراوي: أنس بن مالك، المحدث: البخاري، المصدر: الجامع الصحيح. الصفحة أو الرقم: 5610.

    بقلم: عدنان القماش.
    29 يوليو 2008.
    المنصورة، جمهورية مصر العربية.
    ------------------------------
    تنبية هام: جميع الشخصيات والهيئات والأحداث والمركبات من وحي خيال الكاتب. ولا تمت بصلة من قريب أو بعيد لشخص أو هيئة أو مكان أو مركبة. ولو وجدت علاقة، فهي على سبيل الصدفة المحضة.

    أخي الكريم الأديب المبدع الأستاذ عدنان القماش
    تحية زاهرة عاطرة لهذا الأسلوب القصصي المعبر المصور عن الشخوص والزمان والمكان بسلاسة وتمكن واقتدار وكأنك أخذتنا والقيت بنا في غمار هذه المعمعة المرورية والأخلاقية والإنسانية لا لنتابعها فقط بل لنحياها مع نماذج بشرية حقيقية رغم التصوير الكاريكاتوري المميز الذي اتبعته في رسم بعض الشخصيات السلبية ، والمواقف العجيبة.
    شوقتنا أيها الروائي المتمكن لاستكمال الرحلة بين ضجيج آلات التنبيه المزعجة ، و النفوس المريضة!

    ولك أطيب التحيات
    وأصدق الدعوات
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي ولريشة الغالية أهداب الشكر الجميل

  8. #8
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    القماش المبدع...
    عشت الحدث معك من البداية للنهاية وبغض النظر عن ماهية المضمون ، فاني لامست في النص بناءً محكما ، وتسلسلا منطقيا للحدث ، وترابطا رائعا بينها ، والشخوص ظهرت بمستوى عالي من التناسق والانسجام مع الحدث والفكرة المراد ايصالها للمتلقي.
    دم بالف خير
    محبتي
    جوتيار

  9. #9
    الصورة الرمزية عدنان القماش أديب
    تاريخ التسجيل : May 2006
    المشاركات : 316
    المواضيع : 61
    الردود : 316
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جوتيار تمر مشاهدة المشاركة
    القماش المبدع...
    عشت الحدث معك من البداية للنهاية وبغض النظر عن ماهية المضمون ، فاني لامست في النص بناءً محكما ، وتسلسلا منطقيا للحدث ، وترابطا رائعا بينها ، والشخوص ظهرت بمستوى عالي من التناسق والانسجام مع الحدث والفكرة المراد ايصالها للمتلقي.
    دم بالف خير
    محبتي
    جوتيار
    بسم الله
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أخي الحبيب الأديب والناقد المتميز جوتيار،،،
    يسعدني دائما مرورك الكريم ونقدك المتألق الذي يسبر أغوار النص.
    تسعدني متابعتك،،،
    وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

  10. #10
    الصورة الرمزية عدنان القماش أديب
    تاريخ التسجيل : May 2006
    المشاركات : 316
    المواضيع : 61
    الردود : 316
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. مصطفى عراقي مشاهدة المشاركة
    أخي الكريم الأديب المبدع الأستاذ عدنان القماش
    تحية زاهرة عاطرة لهذا الأسلوب القصصي المعبر المصور عن الشخوص والزمان والمكان بسلاسة وتمكن واقتدار وكأنك أخذتنا والقيت بنا في غمار هذه المعمعة المرورية والأخلاقية والإنسانية لا لنتابعها فقط بل لنحياها مع نماذج بشرية حقيقية رغم التصوير الكاريكاتوري المميز الذي اتبعته في رسم بعض الشخصيات السلبية ، والمواقف العجيبة.
    شوقتنا أيها الروائي المتمكن لاستكمال الرحلة بين ضجيج آلات التنبيه المزعجة ، و النفوس المريضة!
    ولك أطيب التحيات
    وأصدق الدعوات

    بسم الله
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    أستاذنا الكبير الدكتور مصطفى عراقي،،،
    أعتذر لعدم إنتباهي لتعليقك قبل تعليق الأخ جوتيار.

    ولكم أسعدني هذا التعليق الجميل وتشجيعك وإطراءك.
    وبالطبع قراءتك الواعية التي سبرت أغوار النص.

    شرفتني أستاذي بزيارة نصى البسيط وأتمنى دوام متابعتك.
    وما زلت أنتظر تكملتك لمسودة روايتك الجميلة،،،

    وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. بيب بيب - رواية قصيرة ساخرة، الجزء الثاني
    بواسطة عدنان القماش في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 08-05-2016, 11:05 PM
  2. بيب بيب - رواية قصيرة ساخرة، الجزء الثالث
    بواسطة عدنان القماش في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 29-01-2015, 01:39 AM
  3. الفصل الأول من رواية : وصلنا للواحة
    بواسطة عبده حقي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 08-07-2014, 06:14 PM
  4. الكف تناطح المخرز - رواية بقلم : د . محمد أيوب / من الفصل الأول إلى الفصل الخامس عشر
    بواسطة د . محمد أيوب في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 26
    آخر مشاركة: 27-08-2006, 03:29 PM