هذا الحلم....
هذا الحلم يراودها باستمرار ..تراه كما يرى اليقظان دوائر من نور تسبح كفقاعات الصابون تطلقها يد صبي لعوب..يتجلى حلمها كساق سرير سكنه التسوس..أهو كابوس .. ؟ نذير شؤم ..؟ حاولت إحداث علاقة بينه وبين الم الظهر الذي لا يفارقها كما الموت الحياة..ما يزال الوقت مبكرا لينحني ظهرها ..ما يزال أمامها بضع سنوات لينطوي كما ينطوي نبات الطماطم حين تثقل الثمار كاهله.. لقد أثقلت السنوات الخمسون كاهلها ..تتراءى لها كشريط سينمائي قصير جدا لاتتذكر تفاصيله.. عنوانه :" انتظار الموت"..هي الآن وحيدة..في البداية لم تكن تطيق ظلها إلا إذا رافقته ظلال هؤلاء الذين مرت السنين ولم تعد تتذكر وجوههم..كانوا بالمئات ..لا تخلو الغرفة من شهقات الضحك حين يقبلون ولا تتوقف رنات الهاتف حين يدبرون..الآن فهي بالكاد تطيق هذا الجسد المحمول على قدمين كأنهما عجلات سيارة متكائلة من فرط السير الذي يعد بكم البنزين المشحون لتحريكها..كم يحسب بسنوات عمرها الخمسين..خمسون سنة مرت وأربع تضاف إلى الحساب ..وهذا الأفق يحمل نعش انتظارها ..تراه على ظهر أربع أكتاف محمولا كما تحمل عروس في هودج بحومة عتيقة..
غريبة هذه الحياة ..وهي غريبة فقط حين يفقد فيها المرء حلاوة انتظار أن يحمل على الأكتاف..غريب أصبح مصير الإنسان ..ومصيرها مثل مصيره..بالأمس القريب كانت بلدتها تستقبل الموت تماما كما تستقبل الحياة..حتى أن الخشب الذي يصنع منه التابوت هو نفسه الذي كانت تراه يستخدم في صناعة الهودج..والعين هي نفس العين التي كانت تتساقط منها حبات الدمع إما فرحا باللقاء أو حزنا على الفراق..أربعون يوما.. بعد مرور الأربعين يوما كانت وفود لم الشمل تحتفل وكأن بين الميلاد والموت مجرد أربعينية مميزة ..هي نفس الأربعينية ..تحتفل بها الحامل بعد الخلاص من حملها.. يحتفل بها أهل الميت.. تظل الحامل ملازمة البيت ولا يستقبلها الحمام البلدي إلا بعد قضاء الأربعين يوما بالتمام والكمال ..وهي لا ترى القاذورات التي تكون قد تراكمت طيلة هذه المدة إلا حين تضعها "الغسالة" فوق فخذها كأنها عجين " السباغيتي " المفتول..قد تمرر الماء الدافئ على جسدها خلال الأيام ما قبل الأربعينية لكنها مياه لا ترقى إلى مستوى بخار الحمام التقليدي ..بخار ساحر يحول الكآبة إلى مرح ..يمدد الدم في العروق ..يجعله برشاقة البنزين المتحرك في كيان سيارة هرمة..هنا في هذا البخار بذلك الحمام التقليدي كانت الحياة تغادر الموت على شكل وجنة محمرة كأنها تفاح حديقة مدللة..أو نبتة مخضرة ارتفعت عن التربة بزهو لتستقبل النور وتتفتح كالزهور في وجه الشمس المشرقة..هذا ما يفعله فيها سحر البخار .. يرفعها إلى عوالم شبيهة بعوالم العهد القديم ..بينها وبينه ما بين بلادة الحواس وذكاء العقل..في هذا العهد القديم كان لموتها معنى كما لحياتها ..وهي بينهما كانت كالمقدس الذي تقام في شأنه صلوات العبادة الخمس .. يصوم من أجله اللسان وتصوم البطن وكذلك يسير الفرج على نهجهما..ويحرص الليل على أن يقوم ويقعد بالغناء والنشيد وزقزقة العصافير عند طلوع الفجر ..ولا يحلو فيه النوم لمن يدرك أن الحياة قصيرة قصر لذة الشهوات..كانت البلدة تحتفل بالموت احتفالها بالمقدس ..وتجد هي في تذكر تفاصيل هذا الماضي ما يربطها بالشعر والإيمان ..إنه ماض تجد أن الأحلام فيه كانت تستحق أن ينام المرء ليعيشها ويستيقظ ليتذكرها ..فما الذي بقي لها من تلك الأحلام سوى فقاعات الصابون التي تتلاشى بنفس السرعة التي تظهر بها ..تموت لترى جثتها محمولة في سيارة الموتى ..تنقل داخل تابوت بسرعة كبيرة وكأنهم يريدون التخلص منها كما يتم التخلص من الإسهال..دون تهاليل ..بلا ضجيج الصوامع..بلا لطيف ولا لطف ..بدون تحية شرطي المرور ..تموت لترى جثتها تنقل إلى أبعد نقطة من البلدة التي تنازلت عن حقولها الخضراء لفائدة تلك البنايات الشاهقة التي تحجب الأنفاس كما تحجب الغابة الكثيفة النور ..تحيا لتجد جسدها يستحم في حمام منزلي منطو معزول ضيق ضيق أفق الحلم الذي تراه يراودها باستمرار كساق سرير سكنه التسوس ..تولد بمستشفى بدون طقوس الاحتفال ..بلا فرحة الجيران ولا زيارة المولدة التي كانت تقوم مقام الجدة في العناية بالأولاد..أليس غريب مصيرها الآن؟..