أحدث المشاركات

مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» @ تَعَاويــذ فراشَــةٍ عَاشِقـَـة @» بقلم دوريس سمعان » آخر مشاركة: دوريس سمعان »»»»»

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 17

الموضوع: نزيف القناديل *رواية*

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Nov 2007
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 77
    المواضيع : 17
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي نزيف القناديل *رواية*

    نزيف القناديل (رواية)
    يسرني أن أضع بين يدي أعضاء الواحة وزوارها الكرام أولى تمرات إبداعي الروائي (نزيف القناديل) المنشورة في كتاب ورقي عن إحدى دور النشر بالمملكة المغربية.. يتناول المتن الروائي مرحلة عصيبة من تاريخ المغرب على عهد الحماية الفرنسية، وسوف أحرص بإذن الله على نشرها متجزئة في شكل ردود، وأمل أن تروقكم وتنال رضاكم..
    محمد غالمي


    الرواية:
    دب العياء في جسم الفتى وألح عليه النوم الذي ظل يداعب أجفانه منذ وطأت قدماه درج الحافلة. استوى على المقعد الخلفي جهة اليمين مما يلي النافذة، ودس رأسه بين ذراعيه المتشابكتين معتمدا على ظهر المقعد أمامه. بدا وكأنه في سبات عميق من دون أن يأبه لأزيز المحرك المتواصل ولا لهذه الحرارة المفرطة التي تكاد تخنق الأنفاس، أنفاس كتل من البشر أضناهم طول الرحلة فأخذ منهم التعب كل مأخذ، وغسل صبيب العرق وجوههم وأعناقهم. ساد المكان صمت رهيب كصمت المقابر كسره صوت محتد ندَ عن رضيع في حضن امرأة، ما فتئت رغم سطوة الحر تهدهده في رفق وتلقمه حلمة ثديها محاولة تهدئته وإجبار خاطره. لم يجد ذلك فتيلا، توالى صياح الرضيع دون انقطاع حتى ضج منه شيخ قابع في مقعد خلف المرأة يسار الحافلة. بدا الانزعاج مرسوما على جبهته المربدة، انتفض من مكانه مستشيطا غضبا معتمدا على كتف شاب يجاوره فسدد إلى ظهر المرأة لكزة مدوية ثم طفق يلوح بيمناه في عصبية لاغطا بلهجة مغربية ملتوية: "أطبقي بكفك على فمه أو القي به من النافذة فتريحينا من صخبه المزعج!" كذلك قصف المرأة بنيران لسانه البغيض واستوي على مقعده وفرائصه ترتجف من هرم لائكا بصوت مبحوح: "الويل لهذا المغرب السائب.. سبع وثلاثون سنة من عمر هذه الحضارة التي ما فتئت تطرق أبوابهم بلا جدوى.. وحوش قذرون.." طن هذا القذف في أذن الفتى طنينا كاد يمزق طبلتها ويخترق جدارها. كان في ذروة أحلامه محلقا في أجواء تلك الربوع التي ودعها بجسمه دون روحه، وكيف لا وقد نسج على بساطها أحلى لياليه، وفضاؤها الذي يعبق بأريج الذكريات لا يزال يداعب خواطره ويستفز جوارحه. فمن معين تلك الربوع نهل ومن زلال منابعها ابتلت عروقه، ولم تكن المتاعب التي تقاذفته رياحها الهوجاء لتثنيه عن عزمه أو تفل من شعاع ضميره، بل ظل صامدا قوي الشكيمة جلدا صلب العزيمة. ما يزال يجتر ذكرياته بتلذذ لولا زعيق هذا الخنزير الأجلف الذي آذى منه السمع على حين غرة لينكأ بتوجهه العنصري البغيض جراحا لم تندمل. لقد فطن لمصدر الصوت وصاحبه وأدرك بما جبل عليه من سرعة بديهة وسلامة حس ما يرمي إليه ذلك الشيخ الناقم الذي حقن المرأة بسم لسانه. رفع الفتى رأسه من بين ذراعيه وأداره يسرة صوب الرجل فرمقه بنظرات وشت بما يعتمل في صدره من حيرة وغضب. طرق خاطره فصل من حديث الذكريات مع ميسيو ريز أستاذ الرياضيات بثانوية المولى إدريس حيث درس الفتى . وعلى الرغم من سلاطة لسان المدرس لم يكن الفتى الوسيم يتوانى في استفزازه بشجاعة استفزازا جر عليه جملة من متاعب.. راح يجتر جانبا من هذه الخواطر بقلب حسير ونفس جريحة وعيناه الطافحتان بشرارة الغضب لم تبرحا الشيخ الغاضب ولا لسانه كف عن تأنيبه في صمت: "أنت وميسيو ريز من فصيلة واحدة.. كلاكما فرع من شجرة خبيثة، ولئن شق اجتثاثها من تحت الأرض فمناشيرنا جاهزة في درب صفيفح بفاس وحومة سيدي بوكيل بقصبة تادلة لفصلها من الساق" ثم التفت صوب أم الرضيع: لا عليك أيتها المسكينة، فلن تغفر وداعتك وضعفك لهذا الوحش جبروته وركوب رأسه" ثم ابتلع ريقه ومدد رأسه إلى خلف متنهدا في أسف عميق. كان الشاب الجالس يمين الشيخ يتابع حركات الفتى ويتفرس في عينيه الشاخصتين بكثير من الاهتمام وكأنه يستطلع ما تنطق به حالهما من انفعال يتأجج في النفس كاللظى. لقد ظل يساير أطوار الحادث الذي استهدف المرأة ولم يحرك ساكنا ولا أبدى امتعاضا حين رأى الحمامة تذل وتهان بغير جريرة. كان جل همه أن يجيل بصره بين المرأة المنكل بها وبين الفتى يتجرع زعاف ما عاين وسمع، وأكثر ما هاله من أمره ذلك التنهد الصاعد من الأعماق كحمم بركان، وسرعان ما افتر فوه عن ابتسامة تحمل أكثر من معنى حين رآه يستسلم لغفوة ألمت به. وبعد هنيهة انفرجت عينا الفتى على إيقاع يد تربت على كتفه فارتسم على وجهه بعض الانفعال وهو يحملق في الرجل المنتصب أمامه كالسارية، وكانت الحافلة قد توقفت عند مشارف مدينة خنيفرة لطارئ. قال الرجل وقد اعتمد بيمناه على ركيزة من حديد:
    ـ معذرة سيدي إذا كنت قد عكرت عليك الصفو بالإجهاز على أحلامك وإيقاف لذيذ نومك..
    يتبع..

  2. #2
    الصورة الرمزية سحر الليالي أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    الدولة : الحبيبة كــويت
    العمر : 38
    المشاركات : 10,147
    المواضيع : 309
    الردود : 10147
    المعدل اليومي : 1.50

    افتراضي

    الاستاذ الفاضل [ محمد غالمي ]
    :
    وإني هنا من المتابعين ...
    سلمت ودام قلمك
    تقبل خالص تقديري وتراتيل ورد

  3. #3
    الصورة الرمزية حسام القاضي أديب قاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+الكويت
    العمر : 63
    المشاركات : 2,213
    المواضيع : 78
    الردود : 2213
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي

    أخي الفاضل الأديب / محمد غالمي
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بداية طيبة تشد القاريء وتجبره على متابعة القادم
    وصف قريب من النحت لشخوص ربما يكون لأحدها
    دور البطولة فيما بعد
    انتظر الآتي بشوق
    تقبل تقديري واحترامي
    حسام القاضي
    أديب .. أحياناً

  4. #4

  5. #5
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Nov 2007
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 77
    المواضيع : 17
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سحر الليالي مشاهدة المشاركة
    الاستاذ الفاضل [ محمد غالمي ]
    :
    وإني هنا من المتابعين ...
    سلمت ودام قلمك
    تقبل خالص تقديري وتراتيل ورد
    سحر الليالي.. مساء الخير.. أحييك على المرور الكريم وأقدر حرصك واهتمامك على المتابعة.. نأمل بإذن الله أن نوفق لما فيه مصلحة هذا المنتدى النبيل..
    تحياتي
    محمد غالمي

  6. #6
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Nov 2007
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 77
    المواضيع : 17
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حسام القاضي مشاهدة المشاركة
    أخي الفاضل الأديب / محمد غالمي
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بداية طيبة تشد القاريء وتجبره على متابعة القادم
    وصف قريب من النحت لشخوص ربما يكون لأحدها
    دور البطولة فيما بعد
    انتظر الآتي بشوق
    تقبل تقديري واحترامي
    أخي الكريم حسام القاضي.. طاب وقتك.. شرفني انطباعك المحفز ومرورك الجميل..
    مع أصدق عبارات التقدير..
    محمد غالمي

  7. #7
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Nov 2007
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 77
    المواضيع : 17
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شريفة السيد مشاهدة المشاركة
    جميلة سطورك يا عزيزي
    في انتظار الحلقة القادمة
    مودتي
    الفاضلة شريفة السيد.. حياك المولى..
    كفاني أن تشرفت بأولى ارتساماتك المقتضبة والمشجعة في ذات الآن..
    كل الود لك
    محمد غالمي

  8. #8
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Nov 2007
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 77
    المواضيع : 17
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    لم يطمئن الفتى للرجل يختال في بزة زرقاء ازدانت بأزرار ونياشين نحاسية، ومن حزامه الجلدي يتدلى مسدس لف في غشاء. كان في حدود الثلاثين من عمره، طويل في غير إفراط، ذا جسم ضامر تضيء في وجهه عينان خضراوان. لم يعرف الفتى أي تيار جارف ألقى به في غياهب عالم من الأوهام، ولكن سرعان ما جنح بخياله هاتكا حجب تلك الأوهام، محلقا في أجواء أنفس الذكريات، فراح يستعيد أطوار آخر نشاط له في جامع القرويين توج به زادا نفيسا ما يزال مختزنا في وجدانه، تذكر مشاركته بالأمس في التجمع الاحتجاجي الذي نظمه أساتذة القرويين وطلبتهم إحياء للذكرى السادسة لإبعاد ثلة من رموز الوطنية وإجلائهم عن وطنهم. وتذكر كيف كان في مقدمة السيل العارم مرفوعا على سواعد المحتجين الذين ارتفعت حناجرهم بالتهليل والتكبير. والحق إن اليوم كان مشهودا جسد فيه حضوره كل مقومات الشخصية الفذة التي صقلت مواهبها في رحاب ثانوية مولى إدريس وجامعة القرويين. انتابه هاجس سرى في جسمه كالتيار لما استحضر جملة من الشعارات المناوئة لسلطة الحماية القائمة، وكان لا يتورع في ترديدها غير مبال بالعيون المنبثة هنالك، بيد أن ما جبل عليه من جرأة وتحد وما عهد فيه من رباطة جأش، كل ذلك أملى عليه أن يتمالك نفسه في مثل هذه الظروف الحساسة. نفض عن كاهله غبار الأوهام وما أوحت به من معاناة في الأقبية المعتمة ومكاتب الاستنطاق، واستبعد أن يكون مستهدفا فرد على موقظه ومزعج أحلامه:
    ـ كيف يتسنى للنوم أن يطيب والأحلام أن تلذ داخل هذا الحمام الساخن؟ أما أحرجك العرق يغسل وجهك وسائر بدنك؟
    صدرت عن الرجل ابتسامة تمج سخرية وتقطر استعلاء، إذ لمس في كلام الفتى بعض التحدي لسلطته والتطاول على شخصه، لكنه لم يجد من عزاء يعيد إليه اعتباره سوى أن رد في لهجة مستخفة تضمر سخطا وتبرما:
    ـ على أي فهذه بلادكم وأنت مواليها.. حرارة ملهبة صيفا وبرد قارص شتاء..
    تعمد الفتى أن يجاريه فأجاب على التو مصعدا من لهجته:
    ـ ومن أرغمكم على البقاء فيها يا هذا؟ نحن هنا وأنتم هنالك فيما وراء البحر! أليس البحر يحجز بيننا وبينكم؟
    لم يستطب الضابط هذه الجرأة الموسومة بالتحدي لأنها روعت نفسه كالصاعقة، ورام التظاهر بشيء من الهدوء تخالطه استهانة فطلب منه ما يثبت هويته من وثائق...
    كان الفتى في شغل شاغل غير عابئ بالضابط يتفحص الوثيقتين، إذ سرعان ما سرح ببصره عبر زجاج النافذة يتملى في رحاب هذا العالم الرحب الذي لا تحده العين؛ فهذه النجود تجللها أشجار البلوط ونبات الحلفاء والسدر، وهذه الوهاد المحصنة بعواتي الصخور انبثت فيها الآجام التي اتخذت منها الأسد عرانين تأوي إليها، وجعلت منها الذئاب والثعالب جحورا تهرع إليها. سكنت الحركة وساد منطق الهدوء حتى الطيور التي كانت تصدح في أول النهار احتمت في أوكارها اتقاء حمَارة القيظ، ولم يعد يسمع من الأصوات إلا أزيز بعض الحشرات الذي يزداد حدة كلما احتد الهجير. ظل الفتى في أوج التملي بروعة ها المشهد يغمر سائر وجدانه حين بادر الضابط مستفسرا عما يعنيه الاسم المثبت على ظهر بطاقة التعريف! أدار الفتى رأسه على مهل صوب الرجل في استهانة دلت عليها حركات عينيه الشاخصتين المستفسرتين في رزانة كأنما يقول له: لم أفهم قصدك! ثم خاطبه متسائلا:
    ـ لم تجشم نفسك عناء البحث عن طبيعة الاسم؟
    أجاب ساخرا
    ـ لأنه بدا لي غريبا وغير مألوف في أوساطكم كأحمد والعربي!
    أبدى الفتى انشراحا ورد مستنكرا:
    ـ وما وجه الغرابة في "بدر" ألا يعني ذلك الكوكب الذي يشع بنوره في هذه الأرجاء فيبدد ظلمات الليالي الداجية؟ (وهو يشير ببنانه إلى ما وراء النافذة)
    يتبع..

  9. #9

  10. #10
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Nov 2007
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 77
    المواضيع : 17
    الردود : 77
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    قال الدركي وهو يلامس شاربه الكث:
    ـ اسمك يعني القمر إذن؟ (ثم واصل وعيناه تجوسان في الوثيقة الثانية) لو تفضلت بفك هذه الرموز المستعصية!
    أجاب بدر من دون مبالاة بالرجل يعيد إليه الوثيقة:
    ـ إنها شهادة تقدير من إدارة القرويين!
    ندت عن الضابط ابتسامة باهتة لم تنفرج لها شفتاه وقال:
    ـ وما شأنك أنت والقرويين؟ ألست طالبا بثانوية مولاي إدريس كما هو مثبت على ظهر بطاقتك؟ على أي لم تتعب نفسك وتحملها ما لا يطاق؟
    ـ كيف ينال مني التعب في تلك الأجواء التي تسخو وتجود؟
    وتساءل الضابط باستغراب:
    ـ تسخو وتجود؟ بماذا؟
    ـ بما تمدنا به من الطاقة! إن بدرا ليستمد نوره من فضاء تلك الأعتاب التي يجد فيها الجريح ما يضمد جروحه ويخفف أوصابه ومتاعبه..
    عاد الوسواس يدغدغ ما بين جوانحه حين حلق بخياله إلى الوراء، فذكر كيف كان يناوش بعض زملائه التلاميذ من الفرنسيين أو بعضا من الأطر الإدارية العاملة في المؤسسة، فتراه يلح في استفزاز مشاعرهم وإثارة حفيظتهم بدعاباته المشربة بسخرية لاذعة، قال لأحدهم مرة: " لم تركتم بلادكم ونزلتم في أرضنا كالجراد؟ كيف سيكون موقفكم لو داهمنا نحن بيوتكم وصرنا أوصياء على مأكلكم ومشربكم وضابطين حركاتكم وسكناتكم؟ فهل يرضيك هذا يا سليل الغرباء؟" وذكر كيف أثار هذا الاستفزاز عواصف من الاعتراض والتنديد حركت في نفوس بعض المندسين في صفوف الطلبة كل نوازع الشر، فكانت السعاية وتعاقبت المتاعب باحتداد الفتنة، سواء في مكتب المدير عين الحاكم والكومسير أوفي مخفر البوليس. تساءل بدر في خاطره وهو شارد يختلس النظر إلى الضابط: هل يروم هذا المخلوق إيذائي ؟ وإلا فما شأنه بالقرويين؟ وإلى ماذا يرمي بسؤاله هذا الذي يعدم براءة "لم تتعب نفسك وتحملها ما لا يطاق؟" لا لا أعتقد أنه يضمر لي مكروها أو يبيت شرا، ولو كان الأمر كذلك لما توانى في الانقضاض علي وإخراجي مهانا مقرنا في الأصفاد. والحق إن بدرا لم يكن في غفلة عن تبعات مواقفه، إذ كان ذلك الهاجس يروع فؤاده ولا يبرح عقله أينما حل وارتحل، ولكن أخوف ما يخافه أن يؤذي أمه في مشاعرها إذا ما وقعت الواقعة، فيؤنبه آنئذ ضميره على ما استهان به من وصاياها الثلاث، تلك التي كانت تشيعه بها كلما حزم حقيبته وتأهب للسفر ميمما شطر عاصمة المغرب العلمية: (احذر الانزلاق في مهاوي الرذيلة والسير في مسالك الموت!.. اهتم بدروسك وجانب رفقة السوء ..) وسرعان ما انقشعت غيوم الأوهام وعاد إلى الذهن صفاؤه وإلى النفس انشراحها، فاستطرد قائلا وهو الذي أخذ على نفسه وعدا بألا يندحر أمام هذه النماذج البشرية:
    ـ وهل الانتماء إلى القرويين والنهل من منابعه جريمة؟ اللهمَ إن كان ذلك بندا من بنود شريعتكم!
    ندت عن الرجل ابتسامة افتر لها فوه واقترب من الفتى كأنما يريد أن يسر له أمرا فقال بصوت خفيض "كفاك منابع مولاي إدريس التي تسقيك الماء الزلال وأرح نفسك من منابع البلادة وبؤر الدجل!" في هذه الأثناء تراجع الضابط إلى الوراء بعد أن سلم الفتى وثيقتيه، وجعل يلوح بسبابته فيما يشبه التحذير "رد بالك يا قمر! ثم نكص على عقبيه. مافتئ بدر يشيع الرجل بنظراته احتقارا، وحاول أن يهضم ما لهج به ولم ينهضم فاكتفى بأن مقته في نفسه ثم أسند رأسه إلى خلف وهو كظيم. وقبل أن يغمض عينيه تفاجأ بالشاب الذي كان جالسا يسار الشيخ الأحدب ينتقل إلى المقعد الشاغر بجنبه ويملأه بدون استئذان مخاطبا إياه:
    ـ كيف اختارك القدر وسلط عليك ببغاوين نغصا عليك الرحلة؟
    اتسعت عينا بدر دهشة ولاح فيهما انزعاج مشوب بإنكار كأنما يقول للشاب المتطفل "خلت أنني انتهيت من أمر ببغاوين فحط بجانبي ببغاء ثالث.. لعنة الله عليكم جميعا أبناء عيسى المتمردين!
    بات بدر مترددا في أن يبقي الباب موصدا في وجه محدثه تلافيا لعواقب محتملة وإراحة للضمير أو يفسح له المجال ليصول كسابقيه؟ راح يسائل نفسه وعيناه شاخصتان في سقف الحافلة: وما أدرانا في أمر هذا الشاب الذي آثر الجلوس إلى جانبي؟ ومن عساه يكون؟ ثعبان؟! فليكن.. ولساني ميزاني نزولا عند رغبة أمي.. فكلما طاب الحديث وتشنج رسمت له حدودا ما أجدر ألا يجنح وراءها، واللبيب من عرف قدره... جزاك الله خيرا ـ سيدي أحمد الفاسي ـ لقد علمتنا أصول الحكمة والتعقل وغرست في نفوسنا فلسفة الحذر، أنت الذي لا تفتأ تردد على مسامعنا قول الشاعر:
    من استنام إلى الأشرار نام وفي ** قميصه منهم صل وثعبــــــان
    ثم التفت جهة محدثه واستفسر فيما يشبه الاستنكار:
    ـ هل أشفى الببغاء الأول غليلك؟
    تنفس الشاب الصعداء بعد أن بلغ قصده في استدراج الفتى إلى الحديث فرد كمن فكت عقدة لسانه بعد خرس:
    ـ صراحة لم ترضني شطحاته.. لقد حز في نفسي تصرفه الأرعن في حق امرأة مسالمة! ثم استطرد كالمتسائل: ولكن ما العمل؟ الرجل طاعن في السن ولا يتمالك نفسه من ارتعاش.. (قال ذلك وهم بفتح كتاب وضعه على ركبتيه)

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. أَضْوَاءُ القَنَادِيلِ
    بواسطة فتحي علي المنيصير في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 02-11-2020, 01:16 AM
  2. بكاء القناديل
    بواسطة على درويش في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 19-09-2004, 02:54 AM
  3. دمع القناديل
    بواسطة الاسطورة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 18-09-2004, 04:52 PM
  4. نور القناديل
    بواسطة بن عمر غاني في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 14-09-2004, 04:44 PM
  5. عري القناديل
    بواسطة عبدالكريم الكيلاني في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-09-2004, 11:11 AM