لعبة الزمن
[
align=justify]السماء مضببة ، وقطرات تشبه الندى تتساقط تصفع وجه كل مار والرعود تهـب كبركات تائر، ووريقات الشجر تتساقط هنا وهناك، وصوت الأغصـان وجذوع النخـل تسمـع أصواتا كالأنين، وتغريد العصافير لا يسمع له حـس ، والبرد يصارع المـارة في شـارع "ابي سفيان"
... ها هي " أمينة " بنت "الحاج علي" تتقدم الشارع تتمايل ، فـتسقط مرة علر ركبتها وتارة تقف، والجوع يأكل في أحشاشها ، وقدميها الحافيتـين سوداء بالأوسـاخ فتجوالها عبر الشوارع ترك قصتها تحضر في كل مجمع ، والطرق تعبت من وطآت قدميها التي تعاقبها عروق كجدور الشجر، وجرح يتوسط ظفر رجلـها الأيمن ينزف دما والذباب يتبعها من كل ناحية ، وشعرهـا الطويل المخبل يملئ محياها المستدير وعيناها العسليتان وجسمها النحيل لا تخفيه سـوى أسمال وكل من ينظر إليها في شارع "أبي سفيان" إما يسخر من حالها، وإما ينـدم على الزمن ولعبـته المخيفة، فهواة "ضما" و " الكارطـة " ساهون لحالها والنادل "مصطفـى" واقف بصينية "أتـاي" متراص في موضعه ينظر إليها قائلا : "واش هدي هي أمينة، الي كانت ترضي العينين وتسهيها وكلمة منها تديك الخيال، آه من الزمان آه " ومولاي عبد الجـبار على كرسيه أمام دكانه يقول: "فينك الحاج علي تشوف بنتك حالها حالة ، واش هدي دنيا ألا مقبرة مابقا أمان مابقات شفـقة "
هذه الفتاة البالغة من العمر ستة وعشرون سنة ضاقت المرارة في حياتـها، بعد أن عرفـت حلاوة النشوة والفرحة في صغرها في حضن أبويـها، فبعد وفاة والدتها انقلبت حياتها إلى جحيم فأمها كانت الزوجة الثانية لدى "الحاج علي" بعد أن أنجب ولدا إسمه إبراهيم مع "الحاجة فاطمة " الزوجة الأولى فكان إبراهيم يكن الحقد والكره لأمينة ، رافضا منذ البدايـة زوجة أبيه، فكانـت ولادة أمينة يوم شؤم وعار على عاتقه ، فقد كان حاجزا أسمنتيا أمامها في كل شيء رغم حـب أبيه لها فكان حب هذا الأخير بمتابة إقصاء له، فعرف بانطوائه على نفسه منذ صغره ، ليكـون مرض "الحاج علي" نقطة تحول جدري في حياة "أمينة " وبعد أن أنهت سنوات الإعدادية لتلتحق بالثانوية، ولينتقل "إبراهيم" إلى شغل منصب أبيه في الدكـان والتجارة ، فأخد "الحـاج علي" لا يفارق غرفته .
تعرفت أمينة على "خالد" الفتى الذي كان يعاكسها منذ سنوات الإعدادي رغم صغـرها وبدأ يتولد في صدرهما شعور قوي يقرب ويجمع بعضهما البعض. فتوطدت العلاقة وبدأ الحلم يكبر، وهذا ما لم يعجب "إبراهيم" بعدما عرف بالأمر، فكان دوما يهددها بإخبـار الوالد، مرت الأيـام ومرت الشهور، ففي أحد الأيام تعود "أمينة" من الثانوية على إيقاع مفاجأة، لم تكن سارة فتفاجأت واستغربت للناس المتوافدين والخارجـين من منزلهم فمنهم من يندم ومنهم من يبكي... فألقـت عليها "عائشة بنت للارقية " قائلة: "الله إرحموا ووسع عليه" فلم تتمالـك نفسها، فألقت بركبتيـها على الأرض وبدأت في البكاء والحسرة والرثاء على أبيها ، فضمتها عائشة إلى صدرها تواسيها وتخفف عنها " كلنا لها ، كلنا لها " .
إستولى الحزن على شارع "أبي سفيان" وكان موكب جثمان "الحاج علي" يحيط بالشارع كله، بعد صلاة العصر باتجاه "مقبرة المسيرة " المقر الوحيد والأوحد له، بعد مراسم الجنازة والدفـن عادت الجموع وكل وحديثه عن "الحاج علي" وأعماله ، فهناك من يتحدث عن مزاياه وهناك من يتحدث عن مساويه ... بعد أيام وبعد أن كان منزل "الحاج علي" لا يخلو من الجيران لتعزيتهـم واللذان بقيا وحيدين يصارعان لعبة الزمن القاسية، فلو كان شقيقين حميمين لكانت الحياة تنحـو منحا آخر غير هذا المنحى المتكهرب بالحقد والكره ، لكن نعود ونقول أن الحياة واقعية ومجردة ومفرحة ومحزنة، وساخية في العطاء وقاسية في الأخد... إنه وقت الغذاء و "أمينة" جالسة مـع صديقاتها وجارتها "عائشة " يتغذيان فدخل "إبراهيم" مكشر الوجه عابس الخدين، قائلا: " أهذا ما تريدانه أنت وأمك يا أحقر ما رأت عيناي، أنزلكما الله ألهب نيرانـه..." فخرج ولم ترد بكلمـة تذكر، فأخدت الجمر الملتهب في دواخلها بنظرات عابرة ولم تتمالك أنثويتها المشهد وأخدت في البكاء فضمتها "عائشة" بحرارة وفي مواساة، لكن إلى متى هذا كله... إستأنفت "أمينة" الدراسـة ولم تتوارى في النجاح، فقد تصدرت المراتب الأولى في جميع الأقسام ، واستطاعت الحصـول على الباكالوريا بامتيـاز، فكان "لخـالد" الفضل الكبير في كل شيء فهو يمدها بالعون والحـب والحنان الذي كانت تفتـقده، فكان ذلك أساسيا لجعلها تتخطـى المتاعب وتتصلق صهوة الأمل والرقي إلى الأفضل فخولت لهما الباكالوريا بامتياز الدخول لكلية الطب ، ولم يقف الأمر في هذا الحد فنجاح يتبعه نجاح حتى تخرجا طبيبين متخصصين ففرحا بهذا النجاح ليتوجه "خالد " بطلب يدها، ففي أحد الأيام المشمسة الجميلة ، طلبها لمرافقته بعد إنتهاء العمل إلى مقصف المستشفـى واتجها إلى طاولة بأقصى اليمين للمقصف حيث كانت نافذة تطل على قاعة الإجتماعات بجانبها شجرة وارقة الظلال بها عصافير تغرد، تعم الجو ألحانا وشدى متواصل الغناء كانت متفقة مـع المشهد المعبر، تقدم "خالـد" فأخد من جيبه علبة في شكل قلب أحمر فتحها لتنبثق منها أضـواء إمتزجت باشراقة الشمس المخترقة للنافذة، لتشكل خاتما ماسيا ساطعا فوضعه في إبهامها قائـلا: "أتقبلين بي كطرف ثاني في حياتك، يا أغلى ويا أجمل ما حصل في حياتي " لتخترق دمعة باردة مقلة "أمينة" معبرة على سعادة خارقة وبسمة متفنتة فردت عليه : " عليـك أولا أن تقابل أخـي" حينئذ تكتمل الفرحة ، فكان الموعد الغـد التالي صباحا . في الصباح الباكـر من اليوم الثانـي إستيقظت "أمينة" على نغمات "أم كلثـوم" ' خليني جنبك خليني بحضن ألبك، خليني ...' لتهيـئ الصفرة مع صديقتها "عائشة" التي كانت معها منذ الأمس وهاهو "إبراهيم" الأخ المتغطرس اللئيم الحاقد ينزل السلم، بوجهه المعهود وعيناه المنتفختان ووجنتيه الحمراوان الدالتـان على سكـره الليلة الماضية وككل مرة، بعد أن باع المتجر وفلس، ليلتقي نزوله مع دقات على الباب بدت لديه كدقات الطبول، ليسب ويشتم في الطارق فنهضت "أمينة" لتفتح فكان الطارق "خالد" فأدخلته ، فما أن رآه حتى بدى يصرخ بأعلى صوته قائلا: "أو... إنه العاشق الولهان، أتى ليأخد ليلى إلى أبعد مدى ليعيشا في كنف الحب والهيام" وبصرخة قوية... وغضب كبير... هاتـفا هيا يا هذا الحقير أخرج...!! ولا تعتب أبدا عتبة هذه الدار، ولا عتبة هذا الشارع إنساه وإنسى أمينة . فلن تكـون لك ولن تكون لها إلا على جثتي، حتى يبقى كل مار من الشارع "أبي سفيان" يستمع لهذا الحديث المصوت في كل الأركان فلم يهمس "خالد " بأي كلمة فطأطـأ رأسه مختـرقا الباب والجمـوع الحاشدة أمام المنزل ونظرات تعبر وجنتيه متدفقة مغادرا شارع "أبي سفيان"
منذ ذلك اليوم لم تفارق "أمينة" غرفتها رغم أن "عائشة" لا تفارقها لكن من سيقف أمام لعـبة الزمـن فهل تترك دارها وجيرانها وتسير مع الحبيب إلى مالا نهاية أم تتقاعس أمام موجة الأخ الحاقد؟ تساؤلات تلاعب حركات تفكيرها ولا من مجيب وتحملت ككل مرة ومن هناك إلـى أن إستأنـفت العمل بعد غيـاب دام أسبوعيـن وما لم يكن في الحسبان قد حصـل فما إن دخلـت المستشفـى حتى التقت بالفاجعة الكبرى!! الفاجعة التي حلت على المستشفى كله . إن الطبيـب المتفاني في عمله ولحسن الخلق المحبوب عند الكل بأخلاقه وإحترامـه لقي حذفـه فلم تتدارك "أمينة" الموقف فأغمي عليها في الحال و نقلت إلى غـرفة المستعجلات فتحمل الصدمـة كـان مستحيلا، أخالد من يموت وفي هذه اللحظة بذات التي هي في حاجة ماسة إليه. أخالد من يموت وهو أملها الوحيد في الحياة ، طبعا مات بـعد أن إسطدم بسيارة وهو عائد إلى منزله بعد ذلـك اللقاء الذي حول كل شيء إلـى كابوس فما العمل وحركية الزمان تدور على هواها ولا أحـد يستطيع تغيير ولو هنيهة فيها لتبقى لكل بداية نهاية ولكل نهاية بداية لتستمر حركية الزمان مـع تغيير المكان .
باتت "أمينة" لأسبوع في غيبوبة متخيلة أن ما وقع مجرد كابوس زائل ووجدته حقيقة لا مفر منها فتحت عيناها لتلتقي بعبرات وجه متحصر ومتندم على حالها، إنها " عائشة " التي حاولـت التخفيف ككل مرة فكيف سيجد التخفيف مجراه إلى فؤاد قد قلع من مكانه وبقية مكانـه جمـرة ملتهبة وسط صدر كبركان ثائر لتبقى على هذا الحـال أزيد من شهر وهي لا تفـارق غرفـة المستشفى، فغادرتها بعد أن ظهـر عليها بعض التحسن فرافقتها "عائشة" إلى دارها علها تجـد الراحة والإسترخاء ونسـيان الفاجـعة وما العمل لرياح تجري بما لا تشته السفـن فقـد بـاع المتغطرس الدار بما فيها وأضاع المال في تجواله من حالة إلى حالة حتى وجد مقتولا في أحـد بيوت الدعارة وقنينة الخمر حوله كأنها تزين لخده لتجد وعيها غائبا وحركتـها جنونية وتلفـظ بكلمات المعتوهين ومرت الأيام والأسابيع والشهور على هذه الحالـة فلم ينفعها علاج الأطـباء النفسانيين ولا بقائها في مستشفى الأمراض النفسية ولم تتحمل الصديقة والأخت " عائشة " حالتها زيادة على حالتها الإجتماعية المزرية لتتركها للزمان تنتقل من شارع إلى شارع بدون مأوى ولا ملجأ فمن يقوى إذن على لعبة الزمن ومن يستطيع ندا للند ضده ، إتها لعبة الزمن [/align]