الإنسان .. العقل .. الروح
ثلاث تساؤلات ، يمكن أن تأتي خاضعة لمنهج مغاير لمنهج ، ولأسلوب مغاير لأسلوب ، يمكن أن تكون متوافقة في المؤدى ، ويمكن ألا تكون كذلك ، لكن حين تداهمك الكلمات ذاتها بسؤال قادم من الأخت وفاء شوكت خضر ، تعليقا على قصة قصيرة حاولت أن تضع مجموعة من التساؤلات على محك العقل والروح والإنسان ، بصورة تنساب بين مكون الزمن والمكان ، لتلتحم بغامض كل ما يتصل بالزمن المتغير المتنقل بطريقة قسرية تتحكم فيها مكونات تسارع الوقت ، المتصلة بالمكان الأول على الطرف الشرقي للكرة الأرضية ، والطرف الغربي للأرض ذاتها ، عندها لا بد من الوقوف لإعادة السؤال مرة أخرى .
" قد رأيت مأمون أحمد مصطفى هنا بثلاث أرواح ..
ترى كيف يفكر مأمون أحمد مصطفى هذه الأيام ؟؟
مأمون الآنسان ومأمون العقل ومأمون الروح !!
أم هو مأمون الذي يبحث عن امتداد جديد لنفسه مثل جذور شجرة التين ؟؟ "
بماذا علي أن أجيب ؟
الأخت وفاء أشارت لتقارب روحي بينها وبين الكلمات التي اكتب ، أكثر من مرة ، وقد أوقفتني هذه الإشارة أمام المفردات التي استخدم بين مرة وأخرى ، وتعاظم هذا الإحساس وكبر ، حين تلقيت بالبريد الالكتروني فيضا من الرسائل التي تنحو إلى نفس المعنى ، وكنت كلما قرأت رسالة من تلك الرسائل ، تحسست انسياب الروح الساكنة بين المفردات وبين الإنسان ، رغم بعد المسافة المؤطرة بالمكان ، وغور البعد المتخفي في طيات الزمان ، وما زاد من لوعة الفكرة وتعاظمها ، مكالمة هاتفية وصلتني من ابنة أخي دانه ، التي تقيم بالأردن ، فيها من العتب واللوم والتمني الكثير ، قالت : قرأت قصة ورم ، لقد كتبت فيها عن الجميع ، لكنك لم تكتب عني .
هو عتاب في محله ، يتوسط بؤرة العقل والروح ، فما يربطني بابنة أخي الشابة اليافعة ، لا يتوقف عند حدود الدم والوراثة ، بل يمتد إلى عمق الإحساس ، ليصبح مكونا كاملا من مكونات وجودي وشخصيتي ، فانا أستطيع من مكان إقامتي في النرويج أن أتنسم رائحة عبقها ، الموغلة بالزمن إلى رائحة أمي وأبي ، بل وأستطيع أن اشعر بأناتها حين تكون في حالة حزن ، وبسعادتها حين تسيطر عليها الفرحة ، لكن لماذا لم تكن حاضرة في عفوية اندفاع فيض تفاصيل قصة " ورم " التي كتبت بجلسة واحدة وخلال نصف ساعة فقط ؟
بماذا علي أن أجيب ؟
هل ابحث عن جذوري حقا ؟ لا ادري ! ربما يكون الأمر كذلك ، إن اتفقنا أصلا على معنى الجذور ، فشجرة التين في قصة " جذور ألم " لها شكلها المادي المتكون بعوامل الطبيعة والوجود ، يمكن لمسها ، يمكن سحقها ، ويمكن نثرها على أوتار الزمن والمكان ، لكن ، هل حقا يمكن لجذوري ، إن كنت أتقنت معنى الجذور ، أن تلمس ؟ بعض الأصدقاء قال إن ما اكتب هو جذوري ، ولكني كعادتي رفضت ذلك ، وقلت ، لم لا تكون الكلمات هي الثمار ، فسألوا ، حسنا فأين الجذور ؟ قلت : لا اعلم .
لكني اعلم أن هناك قوى خفية ، تتحرك وتجول بأعماق القلب والعقل والروح ، بصورة لا يمكن وصفها ، أو حتى شرح الطريقة التي تتجول فيها بخفايا النفس والروح ، لها ارتباط بالزمن ، ولها ارتباط بالمكان ، والفرق بين ما أحس ، وبين ما يتلاطم بنواة الإحساس ، كالفرق بين الوجود وبين العدم ، بين الحياة وبين الفناء ، بين ما هو ممكن وما هو مستحيل ، بين الألم وبين نواة الألم وحقيقته .
نعم ، ليس من الممكن أبدا أن نأتي لنطلب من شخص ما أن يصف لنا العدم المطلق ، حيث لا وجود للإنسان والحيوان ، لا وجود للمكان والزمان ، لا وجود للوعي الذي نحمله حول ما نشأنا فيه ، فكوناه ، وتكونا بفعله .
لكن ، أستطيع أن أقول ، أننا عشنا عمرنا كله نبحث في الإنسان ، بما يملك من مكونات ، ظاهرة وباطنة ، تعمقنا بذلك ، وافسحنا امتدادت جديدة للمفردات والكلمات والعبارات ، من اجل أن نبقى على تواصل مع ما عرفنا وخبرنا ، ومع ما اكتشفنا وارتدنا ، لكننا ، رغم الكم الهائل الذي لا يحد ، من مجهود وعمل متواصل للأجيال ، لم نستطع ، ولن نستطيع أن نمنع جوع طفل في العالم الذي ندعي أننا نعمل فيه من اجل الإنسان .
قد يرى البعض فيما أقول هرطقة فارغة ، بل سيرى الكثير من القراء ذلك ، وهذا ما يجعلني فعلا أقف أمام سؤال الأخت وفاء هذا الموقف ، بطريقة تثير الجنون ، وتصطبغ بالغباء ، ولكن أليس كل من يرى بمشكلة الطفل الجائع مأساة يمكن التعامل معها بصورة قدرية ، اقل قدرة على التأثر بالألم والحزن والوجع ؟ وأكثر التصاقا بالغباء المدمر للروح التي تحوم في فضاء العذاب بحثا عن رغيف تساوى وجوده مع فاصل الوجود والعدم ؟ أليس من يغفل شهقات الأم المترنحة تحت وطأة خروج الروح من جسد عين كبدها بتؤدة حلزونية ، اقل قيمة واقل شانا من أن يفهم لغة القوى الخفية التي تتكاتف لتدثر الروح بهلام المجهول الضارب باعمق مساحات الروح والعقل ؟
وإذا ما أردت أن ارسم جنوني وانهياري ، فلماذا علي ألا اسأل عن إحساسنا بالأشياء ، ألانها لا تتحدث ؟ لا تنطق ؟ لماذا علي أن أؤمن بان ذاتي هي المكون الرئيسي للوجود ؟ رغم بطلان هذا دون الحاجة إلى دليل ، يكفي نظرة واحدة لأي حدث على الأرض لنعرف أن الإنسان ، استطاع بغروره أن يتعامل مع الأشياء بعبودية خالصة ، تماما كما تعامل مع ذاته الإنسان بعبودية حين سنحت له الظروف بذلك ، وما زال كذلك ، ولكن بصورة أتقن العقل البشري " الذكي " أن يخلق لها مفردات جديدة ، تتناسب مع معطيات العصر الذكي .
لنعد لفكرتي عن الأشياء ، عن المكان والزمان ، أنا الآن اجلس على كرسي دوار ، وأمامي طاولة ، عليها جهاز الحاسب ، ومجموعة من الأوراق ، طابعة ليزر وأخرى ملونه ، كلها فوق بقعة من الأرض المدفأة ، وبين كل هذه المكونات يربض الزمن المتحرك إلى الأمام ، بطريقة لا تملك خطا للعودة ، تتلاحم كل هذه المكونات مع الفكرة التي اكتب ، وتشارك فيها ، فلوحة المفاتيح ترسم الكلمات فوق الصفحة ، والقرص الصلب يتعهد بحفظها ، يرن الهاتف ، يقطع فكرتي ويمزقها ، أخرسه بغضب عارم ، يتحرك الزمن للامام ، لو لم يرن الهاتف ، ربما كانت المفردات التي يقراها القارىء الآن مختلفة تماما ، يتحرك الزمن ، ربما كانت المفردات ذاتها ، من يعلم ؟
الأشياء هي شريكتي بكل شيء ، بكل حرف ، بكل خفقة ، هي تستحق مني أن اكتب عنها ، أن أعيش معها ، أن تحتل حيزا دائما في العقل والروح ، لأنني بدونها ، لا اعرف كيف سيكون شكل العالم ، شكل تفكيري ووجودي .
في قصة " ورم " تعاطف الكثير مع مأساتي ، لكنهم لم يدركوا ، بأنني لم أكن سأحظى بهذا التعاطف وتلك الدموع ، ومئات الرسائل الالكترونية ، لولا الأشياء ، لولا المكان ، لولا الزمن الذي تجمد داخل أرواح الأمكنة والأشياء .
إذا كان هناك من يستحق المديح ، فانا الكل ، أنا المنغمس بالأشياء ، وليس أنا المجرد ، شجرة الجوافة ، مكنة بيارة" أبو حمد الله "، منزل " أبو طاحون " و " أبو جاموس " مدرسة الوكالة ، الشارع ، حارة الربايعة ، مسجد الفردوس بدرجاته ، مسجد المخيم ، الأصمعي ، الميضأة ، ماء الوضوء ، كل هذه وغيرها ، شاركت بصياغة قصة ورم ، وكانت قبل ذلك مشاركة بتكويني الذي استطاع أن يعقد هدنة محددة مع حركة الزمن لينتج تلك القصة .
شجرة التين ، الصخرة ، والناس ، التحموا مع حركة الزمن ، اندمج المكان بالزمان ، برؤية ، أنتجت جذور ألم ، ولولا الأشياء ، التي منحتني روحها ، لما استطعت أن اكتب ما كتبت .
عبد الرحمن منيف – رحمه الله – وهو بالنسبة لي أفضل ما أنتج العرب قديما وحديثا من روائيين ، استطاع وبقدرة مذهلة أن يكتشف هذا الأمر ، فاحيا المكان ، جعله بشكل فائق الروعة يشارك الشخصيات رغباتها وطموحاتها ، وبخبرة روائي متفرد بمعرفة التاريخ المتحرك بين الأشياء والإنسان والزمان ، ولج بقدرة سيعجز العرب عن الحصول على مثلها قريبا عالم مدن الملح ، والأشجار واغتيال مرزوق ، والأشجار تموت واقفة ، فانفرد بقدرته على تحديث ومحادثة المكان والزمان على أنهما مكونات تعيش في الرواية ، بنفس العمق والتأثير التي عاشته الشخصية الإنسانية في تلك الروايات .
هل كان يعرف ذلك ؟ لا أستطيع الجزم الآن ، ولكني قد أستطيع الجزم يوما ما ، وسواء عرف ذلك أم لم يعرف ، فانه استطاع أن يقف على سقف الكون الروائي ليطل على من شغلوا أنفسهم بفقاعات الوهم المسحوب من السراب ، وهو يتلظى حرقة وشفقة على قارىء يبحث عن متعة السرد ، دون أن يبحث عن متعة البحث .
هل حقا ابحث عن مأمون الإنسان ، أم مأمون العقل ، أم مأمون الروح ، أم عن جذور للثلاثة معا ؟ لا اعلم ، ولكني على يقين مطلق ، أنني ابحث عن حميمة مع الأشياء أكثر من بحثي عن حميمة الإنسان ، وانزلق في بؤر الدهشة ، ونواة الحيرة ، فاشعر بعذوبة الألم والانهيار ، وأنا أتلظى قهرا ووجعا أمام ذاك الطفل المسكون برغيف المستحيل .
قد أعود يوما ، لأشرح التلاصق بين كل ما ذكرت ، فانا أفي بوعودي في حياتي العملية ، ولكني لا أفي بوعودي الأدبية ، لان الحيرة التي ابحث عنها وأواصل المسير خلفها ركضا ولهثا ، تسيرني نحو وجهات لا خيار لي فيها ولا اختيار .
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 20 – 10 - 2008