تداخل الأنواع الأدبية في رواية (عكا والملوك)
دراسة للمشاركة في مؤتمر النقد الثاني عشر
في كلية الآداب – جامعة اليرموك 22- 24 7\ 2008
د. عمر عبد الهادي عتيق
مشرف أكاديمي في جامعة القدس المفتوحة
فلسطين جنين
ملخص الدراسة
تعالج رواية عكا والملوك للروائي أحمد رفيق عوض إشكالية المواجهة الحضارية بين الشرق والغرب ، وتؤسس في حنايا أحداثها فضاء ثقافيا للحوار الحضاري ، وتتوزع أحداثها على تسعة فصول موسومة بأسماء شخصيات تاريخية منتخبة ؛ ابن جبير، وقراقوش، وابن شداد، وجوانا، وسيف الدين علي بن احمد المشطوب، وعمر الزين، وراشد الدين سنان، والملك ريتشارد، ومتجددات القاضي الفاضل.
وتهدف الدراسة إلى رصد عشرة أنواع أدبية تداخلت في الخطاب السردي وهي السيرة الغيرية والشعر وأدب الرحلات وأدب البحر وأدب الحرب والأدب الصوفي والأدب المقارن والخطابة والمناظرة وملامح من الأدب الاجتماعي .
وترصد الدراسة السيرة الغيرية لشخصية صلاح الدين الأيوبي وفق أربعة مستويات سردية وهي المستوى السردي التشكيكي واليقيني والتعليلي والغيري . ولشخصية قراقوش وفق أربع صور ؛ الأسطورية والكاريكاتورية والبطولية والنفسية . وتتأمل الدراسة الشعر في سياق اللهو والمجون والشعر في سياق الهجاء السياسي . وتتلمس ملامح من أدب الرحلات من خلال ثلاثة مشاهد تصويرية . وتقف على مفاصل رئيسة في أدب البحر ممثلة بالثقافة البحرية وعلوم البحر وأناشيد البحارة . وتكشف الدراسة عن مقومات أدب الحرب من خلال ثلاثة محاور ؛ الآلات والوسائل الحربية والمحاربين وأناشيد الحماسة . وتشير إلى بعض الرؤى الصوفية ذات العلاقة بالتفكر بالوجود والتوحد واليقين . وتضيء الدراسة محورين من محاور الأدب المقارن وهما المثاقفة وثقافة الأنا والآخر . وتعالج فن الخطابة الدينية والسياسية . وترصد فن المناظرة من خلال محوري الخلافات السياسية وأخلاق الحرب . وتنتهي الدراسة بملامح من الأدب الاجتماعي كعبادة الشيطان والأساطير والخرافات والمعتقدات الشعبية ولمسات فلكلورية .
رؤية في الإطار النظري لتداخل الأنواع الأدبية
لا يخفى أن تداخل الأنواع الأدبية ليس جديدا على المستويين الإبداعي والنقدي ، فالقصة الشعرية تملك حضورا مائزا في التراث الشعري العربي ، والمقامات والسير الشعبية وقصة ألف ليلة وليلة وغيرها تجمع بين تقنية السرد والشعر . ولا تقتصر إشكالية التداخل على حشد أنواع أدبية في فضاء أدبي مركب ، وإنما تمتد الإشكالية إلى تشظي النوع الواحد إلى أنواع متجانسة متناغمة في جيناتها في كتاب واحد ، نحو تشظي القصة القصيرة إلى قصة قصيرة وقصة قصيرة جدا وأقصوصة ... ، وتشظي الشعر إلى القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وقصيدة التوقيعة في ديوان واحد ، مما يضع إشكالية التداخل في مسارين ؛ مسار خارجي يشمل تداخل أنواع أدبية مختلفة ، ومسار داخلي يشمل تداخل أنواع أدبية متجانسة .
وأزعم أن التداخل بحد ذاته لا يشكل تحديا للخطاب الثقافي إذا توافرت حزمة من المواصفات في الإبداع والتلقي ؛ وذلك أن المبدع الذي يخترق حدود الأنواع الأدبية في عمله الإبداعي مطالب بالحفاظ على هوية العمل الأدبي منعا للتفكك في البناء الفني ، إذ ينبغي أن يسخر الأنواع الأدبية الأخرى في نضوج المعمار الفني لعمله الإبداعي . كما ينبغي أن يضمن تداخل الأنواع شفافية في التلقي بهدف تحقيق الأثر الجمالي والثقافي للعمل الإبداعي .
ولعل الرواية أكثر الأنواع الأدبية قابلية لامتصاص الأنواع الأدبية الأخرى بسبب مساحة الحرية المتوافرة في تقنية السرد ، وتفاعل عناصر البناء الفني للرواية مع الخصائص الفنية للأنواع الأدبية الأخرى . وقد يكون الخطاب النقدي – اليوم – قادرا على رصد تجليات إشكالية تداخل الأنواع الأدبية في الرواية ما دامت الرواية كتابا مطبوعا مقيدا بمواصفات الطباعة وإمكاناتها وطاقاتها الفنية ، ولكن حينما تصبح الرواية التي تتداخل فيها الأنواع الأدبية كتابا الكترونيا مصحوبا بالوسائط المساندة التي تمنح النص الروائي مؤثرات صوتية أو تسجيلا صوتيا وصورا صامتة وناطقة بل قد يصل الأمر إلى مقاطع مرئية ( فيديو ) وغيرها من الوسائط المساندة ؛ فإن الخطاب النقدي سيواجه تحديا حقيقيا لإشكالية تداخل الأنواع الأدبية .
أولا: السيرة الغيرية
منتخبات من السيرة الغيرية لصلاح الدين الأيوبي
يعرض النص السردي السيرة الغيرية لصلاح الدين الأيوبي وفق أربعة مستويات سردية وذلك على النحو الآتي :
1 - المستوى السردي التشكيكي
وهو مستمد من الأخبار والروايات التي يستهلها بالفعل المبني للمجهول ( قيل ) ولا يخفى أن اختياره لهذا الفعل يثير الشك في مصداقية الخبر والتقليل من إمكانية حدوثه ، ويمنح المتلقي فضاء لإعادة صياغة الخبر ، كما أن هذا المستوى يسجل حيادية الراوي وموضوعية سرده . ولعل تكرار الفعل ( قيل ) في هذا المستوى يحمل في حناياه أخبارا وأحداثا لا يرضى عنها الراوي ، فلنتأمل نصا من هذا المستوى : ((قيل هنا إن صلاح الدين لا يحارب إلا يوم الجمعة، وقيل إنه ابتسم للمرة الأولى بعد أن غسل قبة الصخرة بيديه بماء الورد، وقيل إنه ـ رغم ذلك ـ يصانع الفرنجة وخاصة نساءهم البيضاوات، وقيل إنه سنيّ متعصب، وقيل إنه يميل إلى التصوف، وقيل إنه يحب الدنيا ولكن خواصّه جعلت منه ناسكاً وزاهداً أمام العامة، وقيل إنه اغتصب ملك ولي نعمته نور الدين وأنه تزوج أرملته حتى يرثه تماماً، وقيل إنه يحب العلم والجهاد، وقيل... الخ.)) ( عكا والملوك ص 12 )
تحقق النسيج التوافقي للأخبار والروايات التي يسهل التشكيك بها أو تكذيبها ، إذ ليس من المعقول أن تقتصر حرب صلاح الدين على يوم الجمعة ، ولا نستطيع التسليم بأنه ابتسم أول مرة حينما غسل قبة الصخرة ، فالابتسام طبيعة إنسانية ، وكذلك تحقق البناء التوافقي في جل الأخبار التي وردت في المستوى السردي التشكيكي لأنها لا تتوافق مع مناقب صلاح الدين وسجاياه ، ولكن عبارة واحدة (وقيل إنه يحب العلم والجهاد ) كان ينبغي أن ترد في المستوى السردي اليقيني
2 - المستوى السردي اليقيني
يأتي السرد في هذا المستوى بوساطة الجمل الخبرية إذ يغيب الفعل المبني للمجهول ( قيل ) مما يمنح النص المروي مصداقية وموضوعية مطلقة من خلال الجمل التقريرية المثبتة والإكثار من أسلوب النفي بهدف إبطال أخبار تناقلتها بعض الروايات ، والمراوحة بين الزمن الماضي والحاضر ليخلق جسرا من التواصل الزمني بين زمن الحادثة وزمن التلقي ومما يمثل هذا المستوى قول السارد : (( مولاي صلاح الدين لـه هيبة ما بعدها هيبة، وهو سلطان ابن سلطان، لا يلهو ولا يلعب، لا يهذر ولا يهزر، لا يتخذ المعازف ولا القيان، ولم تسحره الحسان أو تغرقه الدنان، رجل زاهد، اختار ظهور الخيل والخيام التي ينصبها في السهول والتلال،.... فيه انحراف مزاج دائم، وجفاف باطني. كثير الصلاة، كثير الاستغفار... الخ))( عكا والملوك ص 68 )
تتوافر في النص السابق حزمة من الخصائص الفنية والأسلوبية نحو السجع والترادف وتوازن العبارات وقصرها وغيرها من السمات مما يجعل النص قطعة أدبية تجسد النثر الفني في العصر المملوكي وهو أمر يوفر ارتدادا زمنيا وأدبيا لعملية التلقي التي تتناغم مع السمات الفنية لذلك العصر .
3 - المستوى السردي التعليلي
يتخلى الراوي في هذا المستوى عن حياديته ويعلن انتصاره المطلق للشخصية ، فيعمد إلى التبرير والتعليل والتسويغ بهدف دعوة المتلقي إلى إعادة قراءة الشخصية المنتخبة من جديد ، فالراوي في هذا المستوى يبدو ناقدا ومحللا تاريخيا أكثر من كونه ساردا أو راصدا لمحطات محددة لشخصية منتخبة وبخاصة في قوله : (( ولهذا أرى ـ وأرجو من الله أن أكون صائباً ـ أن استيلاء سيدي ومولاي على ملك نور الدين زنكي ـ رحمه الله ـ ما كان إلا لـهذا السبب، أي توحيد الأمة، وجمع الصف المصري والشامي لطرد الفرنجة من البلاد الإسلامية، وتخليصها من شرهم وفسادهم ودنسهم. إن ما قيل عن طمع سيدي ومولاي في ملك نور الدين ـ رحمه الله ـ ومحاربته لورثته لم يكن إلاَّ لأن سيدي ومولاي تزوج من أرملة نور الدين، وأكرمها، وأقطعها، وأحسن إليها، ليس إلا ليقول لكل الناس إنه أحق الناس بكل ما تركه نور الدين من فرض الجهاد، وصون الأمة والذود عن كل الحرمات.))( عكا والملوك ص 71 )
لا يخفى أن التعليل والتسويغ ينبعان من مصدرين ؛ الأول : إعجاب السارد بشخصية صلاح الدين وهو ما تبدى بتكرار عبارة (سيدي ومولاي )، والثاني : انتماء السارد للوسط الثقافي العربي الإسلامي وهو ما تبدى بالتأكيد على وحدة الأمة الإسلامية ورعاية مصالحها
4 - المستوى السردي الغيري :
يتمسك السارد في هذا المستوى بحياديته المطلقة ، ويسمح لرؤية الآخر بالتجلي والظهور دون أدنى تدخل ، فهو شاهد عيان يسجل ما سمع من الطائفة الباطنية – أعداء صلاح الدين –، ومن أبرز ما يمثل المستوى السردي الغيري ما رواه السارد : (( فقال هؤلاء إن صلاح الدين هو عدو كبير ويستحق الموت ذلك أنه هدم خلافة الأئمة من نسل فاطمة الزهراء في مصر، وأنه ألغى دعوتهم وحرق كتبهم وسجن ذكورهم في ناحية وإناثهم في ناحية حتى لا يتناسلوا من بعد، وأنه سمح لحاشيته أن تنهب دار الحكمة التي تضم مئات آلاف من كتب الدعوة الباطنية وأن تحرقها أيضاً..... الخ )) ( عكا والملوك 185)
ولأن السارد سمع رؤية الآخر من أشخاص عاش بينهم مدة من الزمن مخفيا عقيدته عنهم فقد جاء فعل السرد ( قال أو ذكر ) بهدف توثيق رؤية الآخر ( الباطنية ) لصلاح الدين بخلاف فعل السرد في المستوى الأول ( قيل ) الذي لا يهدف إلى التوثيق وإنما يرمي إلى التشكيك والتكذيب .
منتخبات من السيرة الذاتية للأمير بهاء الدين قراقوش
تقوم السيرة الغيرية للأمير بهاء الدين قراقوش على ثنائية تصويرية موزعة على مسارين زمنيين وإطارين مكانيين ، وتنهض سيرته على قراءة نفسية تسبر أغوار ذلك المملوك الرومي الذي تحول إلى أمير له بصمات حضارية في مصر وجولات و صولات في ميدان الحرب ، ومثل هذه الشخصية التي سجلت تحولا لافتا تستحق أن تتجلى قسماتها في حنايا الرواية وهو ما حرص عليه السارد في غير موضع ، ويمكن رصد تجليات شخصية قراقوش المثيرة من خلال أربع صور سردية على النحو الآتي :
1- الصورة الأسطورية
استقر في ذهن المصريين أن قراقوش شخصية خارقة للعادة ، تتجاوز طاقات البشر ، وقد وصل بهم الأمر إلى ربط قراقوش بالجن بسبب ديمومة العمل وتسارعه في بناء الأسوار و القلاع ، فهو الذي بنى سور القاهرة وقلعة الجبل والقناطر الخيرية (( فقد قيل عنه إنه على صلة بالجن الذي بنى لسليمان ملكه؛ ذلك أن هذا الرومي استطاع في فترة وجيزة أن يبنى بأمر من صلاح الدين قلعة مهولة ظاهر القاهرة على جبل المقطم، وأن يبني أسوار المدينة في غمضة عين، وقذف به صلاح الدين إلى الإسكندرية ليمنع عنها أساطيل الروم والفرنجة عموماً، ففعل قراقوش الفعل ذاته وفي الوقت ذاته. إنه يحكم الجن)) ( عكا والملوك ص 40 ) ولا يخفى أن استخدام الفعل ( قيل ) في النص الروائي يكشف عن رفض السارد للأفكار التي روجها المصريون عن قراقوش في ذلك العصر ، وقد نفى عنه المصريون الطبيعة الإنسانية والغرائز الآدمية ((فهو لا ينام الليل، ولا يأكل ولا يشرب، ولا يضحك، ولم يتزوج )) (عكا والملوك ص 40 )
2- الصورة الكاريكاتورية
أوحى السارد الى الصورة الهزلية الكاريكاتورية التي شاعت عن أحكام قراقوش وقراراته دون تفصيل ، تلك الصورة التي كان العوام وبعض الخواص يتناقلونها ويتندرون بها فقد ((رأى المصريون ما لم يروه من قبل، ولأنهم أصحاب نكتة، وأرواحهم مرحة ويميلون إلى الصبر، فقد حولوا هذا الرومي إلى ضحكة طويلة، ساخرة وحادة ومؤلمة، وقد وصل صدى هذه الضحكة إلى كل بلاد الإسلام حتى مجلس الخليفة العباسي المستضيء، إذ تبرع أحد ندماء الخليفة بسرد نوادر قراقوش وحكاياته، فضحك الخليفة حتى بانت نواجذه. ))( عكا والملوك ص 45 ) ، وقد وضع أحد معاصري قراقوش وهو أسعد بن مماتي كتابا أسماه ( الفاشوش في أحكام قراقوش ) ، ولم يشر السارد إلى هذا الكتاب الذي يعد سببا في تشويه صورة قراقوش ، ولكن السارد أسهب في إيراد أحكام قراقوش التي تتصل بحرصه على سرعة البناء والعمل وهي أحكام في مجملها مثيره للعجب والجدل ، ومنها أنه ((كان يستغرب ميل الفعلة والبنائين إلى الكسل، وطلب الراحة أيام الأعياد، وهي كثيرة لدى المصريين، اضطر معها قراقوش إلى إلغاء جميع الأعياد إلا العيدين فقط، حتى يوم الجمعة، أمر بأن تكون الراحة فيه وقت الصلاة ليس إلا، ولما رأى أن النهار طويل في أيام الصيف، قسم الفعلة والبنائين إلى ثلاثة أقسام، بحيث يعملون طيلة النهار والليل، ولما رأى أن أحجار المقطم لا تكفي، طلب إلى الناس أن يقدموا أحجاراً بعدد أولادهم أو خدمهم، ولما لم يكف ذلك، طلب إليهم البحث عن آثار وخرائب الأمم السابقة، ونقل حجارتها إلى الأسوار، ولما رأى أن الفعلة والبنائين ينفقون وقتاً طويلاً في تناول الأكل ثلاث مرات في اليوم، فرق عليهم وجبة واحدة يقدمها عسكره لـهم....)) ( عكا والملوك ) ص 55
3 - الصورة البطولية
يسعى السارد جاهدا إلى إنصاف قراقوش تاريخيا ؛ من خلال استبعاد الروايات الهزلية التي ألصقت به ، فحرص على التركيز على العلاقة الحميمة بينه وبين صلاح الدين الذي اختاره واليا على مصر واستخلفه على عكا قبل سقوطها فقد ((انتقل إلى خدمة السلطان الناصر صلاح الدين، عندما انفض من حوله الأمراء الذين والوا نور الدين زنكي ـ قدس الله روحه ـ وكذلك انفض عنه حتى بعض أقاربه من أولئك الذين طمعوا في ملك مصر. في ذلك الوقت العصيب، التفت السلطان الناصر، بسمرته الغامقة، وابتسامته الآسرة وقال لقراقوش: أحتاجك الآن يا بهاء الدين)). ( عكا والملوك ص 40 ) واعتنى السارد بعلاقة الحب والتقدير بين أهل عكا وقراقوش الذي جسد صورة البطل والقائد ؛ إذ إن ((النوادر التي وصلت إلى أهل عكا عن واليهم الجديد جعلتهم يتوقعون الأسوأ من والٍ أبيض رومي وخصي. ولكنهم فوجئوا بالرجل، بوقاره، وسمته الواثق، وهدوئه العجيب، ورغبته في الدفاع عن البلد، وتجديد أسوارها المهدمة، ورفع أبراجها المنهارة وخاصة برج الداوية.)) ( عكا والملوك ص 45) وإذا كان المصريون قد ضاقوا ذرعا بالسياسة العمرانية لقراقوش وأحكامه التي تدعو إلى ديمومة العمل وسرعته ، فإن أهل عكا استجابوا لإرادته وانخرطوا في العمل والبناء ولما طلب إليهم البناؤون والفعلة والنقاشون والحدادون والنجارون، تقدم الجميع بأريحية عالية. كانوا يريدون أن يغضبوا عن كل الأيام والسنين التي رأوا فيها الفارس الفرنجي يقتل أو يخطف أو يخرب)) ( عكا والملوك ص 46 )
4 - الصورة النفسية
يحاول السارد سبر أغوار نفسية قراقوش ،فيكشف عن حبه المضمر للقيادة والرياسة بقوله : (( وعندما أنعم عليه السلطان الناصر صلاح الدين لقب الأمير في مصر، شعر قراقوش أنه نال ما يتمنى)) ( عكا والملوك ص 55 ) ويقيم علاقة جدلية بين تحقيق الذات والحرب مستثمرا شخصية قراقوش لتسويق خطاب ثقافي يختزل رؤيته لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في سياق الشدائد والحرب ، وهو خطاب ثقافي يتضمن فلسفة الحرب وفق رؤية السارد التي اندغمت في شخصية قراقوش ((الذي عاش صدر شبابه الأول مملوكاً للسادة من آل زنكي وآل أيوب، تعلم أن الإنسان ما يعمل وما يطمح، وفي زمن الحرب، فإن للرجل فرصة ما لإثبات نفسه، الحرب وإن كانت ظرفاً استثنائياً إلا أنها يمكن أن تعاش بطريقة صحيحة، لا يندم عليها المرء، والحرب مطامع ومصالح، وفيها لا يمكن للمرء أن يثق بأحد إلى ما لا نهاية)) ( عكا والملوك ص 55 )
ثانيا : الشعر
في قلعة مصياف التي كان يتحصن بها راشد الدين بن سنان زعيم الفرقة الإسماعيلية الباطنية وفي قاعة تلفها الستائر الحمراء وفي أجواء لهو ومجون تفيض خصوبة وأنوثة ؛ حيث الموسيقى المثيرة والرقص الذي يوقظ مكامن الشهوات والخمرة التي تمنح شاربيها صهوة اللذة وعنفوان النشوة ... في هذه الأجواء تتحول الراقصة إلى مغنية لأبيات للشاعر كشاجم الرملي :
جعلت إليك الهوى شفيعاً فلم تشفعي
وناديت مستعطفاً رضاك فلم تسمعي
أتاركتي مدنفاً أخا جسد موجع
ومغرقتي بالدموع قد أقرحت مدمعي
أحين سبيت الفؤاد بالنظر المطمعع
جفوت وأقصيتني فهلا وقلبي معي(عكا والملوك ص 141)
يبدو أن السارد لم يلحظ المسافة الفنية بين أجواء اللهو والمجون في تلك القاعة و دلالات اللوعة والحزن التي حوتها أبيات كشاجم الرملي . وإذا استأنسنا بالمنظور التاريخي انطلاقا من أن أحداث الرواية تسبح في الفضاء التاريخي فإننا نتساءل : هل غنت الراقصة تلك الأبيات ؟ وإذا تناهى إلينا من بطون التاريخ ما يثبت ذلك فإن غناء الراقصة لتلك الأبيات هو ضرب من لذة الألم ، وذلك أن حركات الرقص ونكهة الأنوثة وإيقاع الموسيقى وغيرها من عناصر اللهو وسمات المجون قد لا تشكل بلسما لجراح الأعماق و لا تقدم دليلا على الفرح والسعادة ، وهذا سياق يبحر فيه علم النفس التحليلي . أما إذا لم يثبت تاريخيا أن الراقصة قد غنت تلك الأبيات فإن الأمر لا يعدو مزلقا فنيا وقع فيه السارد .
ويصف السارد ( القاضي الفاضل ) حزنه وغضبه حينما هجاه الشاعر الدمشقي ابن عنين بقوله :
وحين أبصرت دولة الأحدب
الفاضل أربت على علا الشهب
فقلت للمفلسين ويحكم
وفي موضع آخر :
تحادبوا فهي دولة الحدب
كم ذا التبظرم وزائداً عن حده
ما كان قبلك هكذا الحدبان
فحر أم ملك أنت مالك أمره
من أنت يا هذا؟.. وما بيسان؟!
( عكا والملوك ص 230 )
ويعد هذا اللون من الشعر هجاء سياسيا مقذعا ، إذ يتعرض ابن عنين للصفات الخَلْقية للقاضي الفاضل الذي حاز على ثقة صلاح الدين واعتلى مكانة سياسية مرموقة ، فكثر حساده ومنهم ابن عنين . ومن المعلوم أن القاضي كان قصيرا هزيلا ذا حدبة في ظهره ، ولكن القاضي ترفع عن عقاب ابن عنين على الرغم من نفوذه وسلطانه وذلك تأسيا بأخلاق صلاح الدين الذي لم يسلم من لسان ابن عنين حينما عيره بصفة العرج كما تذكر بعض المصادر الأدبية .
ثالثا : أدب الرحلات
في غير موضع من الفصل الأول يسجل السارد ( ابن جبير ) مشاهد من أدب الرحلات تضع المتلقي في زاوية سردية يشاهد منها لقطات من فلم وثائقي لأنماط عمرانية ومعيشية موغلة في القدم ، ولكن السارد يبعث الحياة فيها فإذا بها تتجلى أمام المتلقي مشبعة بالحياة والحركة والصوت والنكهة .
ويؤسس السارد لأدب الرحلات من خلال إشارات صريحة تهيئ المتلقي لمشاهد تصويرية قادمة كما حدث في الحوار بين الرحالة ابن جبير ( أبي الحسن ) والغرناطي الذي سأل : ((يا أبا الحسن، لماذا لم تذكر من البلاد التي زرتها في المشرق إلا المساجد والزوايا والرباطات والمدارس ونحوها؟ ألم تشاهد شيئاً آخر؟)) ( عكا والملوك ص 13) . وفي موضع آخر يسأل أحد ركاب المركب : ((هل ستضع كتاباً عن رحلتك هذه يا أبا الحسن؟!)) ( عكا والملوك ص 15)
وقد اقتصرت الدراسة على ثلاثة مشاهد تصويرية في جزيرة صقلية وهي مشاهد قصيرة بغية الاختصار ، ويمكن تصنيفها على النحو الآتي :
وصف الحمام العمومي
يحرص السارد على عنصر المقارنة في المستويين العمراني والاجتماعي ، ويبدي ضيقا وسخطا مما شاهده في الحمام العمومي في صقلية بقوله : ((وهو حمام يختلف عن حمامات القاهرة أو دمشق؛ فليس فيه غرف حارة وباردة وقاعات للراحة واللهو، وإنما غرف متلاصقة صغيرة تكفي لرجل واحد فقط، ودلو ماء خشبي كبير، ولا شيء غير ذلك. احتملت الصراخ والعري المجاني)) (عكا والملوك ص 29 )
2- وصف أزياء النساء
يربط السارد بين الأزياء في صقلية ومدن أندلسية ، وفي هذا الربط دلالتان ؛ الأولى : دلالة نفسية تكشف عن رضى السارد عما شاهده ، ودلالة حضارية تؤكد على الجذور الحضارية الفلكلورية للعرب المسلمين في صقلية بعد سقوطها وهو ما تبدى بقوله : ((لاحظت أن نساء البلاد يلبسن ملابس محتشمة أقرب ما تكون لملابس نساء إشبيلية أو قرطبة؛ كثير من الأناقة، كثير من الزينة، وكثير من الاحتشام أيضاً.)) (عكا والملوك ص 29 )
3- وصف القصر الملكي
يبدع السارد في تصوير القصر ومحتوياته ابتداء من بوابته المحروسة بالتماثيل الخرافية وحدائقه المثمرة ، ولا يفوت السارد التأكيد على المعالم المسيحية من خلال صور المسيح عليه السلام والعذراء البتول ، كما ينوه إلى التأثير الحضاري المصري والأندلسي الذي تجلى في محتويات القصر ، ولهذا ليس غريبا أن يشعر السارد أنه في حضرة حاكم شامي أو أندلسي ( انظر : عكا والملوك ص 33 )
رابعا : أدب البحر
يشكل الفصل الأول من الرواية الموسوم بـ ( ابن جبير ) الرحالة الأندلسي منهلا خصبا لأدب البحر ، وقد اقتضى حجم الدراسة ومحدودية أبعادها الوقوف على منتخبات من أدب البحر دون غيرها ، إذ إن تفصيل الوصف في هذا الجنس الأدبي يقتضي دراسة مستقلة
من أبرز مقومات أدب البحر في الفصل المشار إليه المقارنة بين البحارة المصريين والبحارة المغربيين من حيث عنايتهم بمراكبهم وحرصهم على مجاملة حكام البلاد التي يمرون بها أو يقيمون فيها فمن عادة البحارة المصريين إنهم يسمون مراكبهم أسماء حسنة، وهذا ما لم أشاهده في بحار أخرى أو موانئ أخرى. وكعادة البحارة المصريين ـ أيضاً ـ فإنهم يجاملون حاكم البلاد التي يمرون بها، فاسم مركبهم عندنا في سبتة "المنصور" أما في الإسكندرية في "الناصر". مراكبنا يكتب عليها اسم الله وحسن ذلك اسماً وكفى به)) ( انظر : عكا والملوك ص 9 ) ولا يخفى أن تخيّر الأسماء للمراكب ما يكشف عن العلاقة الوجدانية بين البحارة ومراكبهم ، ولعل تسمية المراكب البحرية بأسماء مختارة هي امتداد ثقافي لما درج عليه العرب وما زالوا في تسمية خيولهم بأسماء تختزل معاني البطولة والشجاعة ، وعليه فإن تسمية المراكب في ذلك العصر بأسماء دينية هي إحدى تجليات انصهار الثقافة الدينية بالسياق السياسي في ذلك العصر .
ويعرض السارد ( ابن جبير ) للفرق في الثقافة البحرية بين البحارة المصريين والمغاربة ويرصد التفوق الثقافي والمهني للمغاربة على المصريين ((والبحارة المصريون وعلى غير عادة بحارة مراكش فإنهم يتعلمون أحوال النوء بالمشافهة، أما بحارة مراكش فإنهم يتعلمون ذلك بمدارس خاصة أقامها لـهم المنصور في مراكش ذاتها؛ حيث أجري عليهم الرواتب وسفناً صغيرة يتدربون عليها قبل أن يخوضوا غمار البحر.)) (عكا والملوك ص 9 ) وينبغي أن ننوه إلى أن المفاضلة التي أثبتها ابن جبير محصورة بسياق زمني من خلال مشاهداته أو ما تناهى إليه من أخبار ، فليس الهدف من النص السردي إثبات تفوق طرف على آخر ، فليس من مهمات الرواية التوثيق أو التأريخ في هذا السياق وإنما إضفاء اللمسات الواقعية على الحدث الذي يصور رحلة ابن جبير من المغرب العربي إلى مصر .
ويضيء السارد في غير موضع أدب البحر بشذرات من العلوم البحرية ؛ نحو تعريفه لأبرة الملاحين ((وهي حجر من المغناطيس يقوم على حامل يسمح للإبرة بحرية الحركة، فتتجه في كل مرة إلى جهتي الشمال والجنوب. لحجر المغناطيس أسرار لا يعلمها إلا الله.)) ((عكا والملوك ص 22 )) ووقوفه على أنواء البحر إذ (( إن الموج الخفيف الأبيض ذو الرغوة الذي يتوالد أمامك ثم يذوب بسرعة إنما يعني نوءاً طيباً. أما الموج الكبير العالي فيعني أن وراءه ريحاً قوية وعليك الحذر.)) (عكا والملوك ص 27) ويضفي على العلوم البحرية مسحة إنسانية للمقاربة بين أسرار البحر وأسرار النفس الإنسانية (( والبحر حالات مثل الإنسان تماماً؛ يغضب فيرغي ويُزبد ويهدأ فيصبح كالطفل الوديع، وهو كالإنسان ـ أيضاً ـ غدار، يخدع بهدوئه، أما البحار الماهر فإنه لا ينخدع بالهدوء.)).( عكا والملوك ص 27). إن المقاربة بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة البحرية في النص الروائي تلقى قبولا من المتلقي إذ إن فكرة (الأعماق ) في البحر والإنسان تسوغ تلك المقاربة ، كما أن الانتقال من السياق العلمي للعلوم البحرية إلى سياق أدبي نفسي يضيف للهدف التعليمي المعرفي مزيدا من المتعة والتشويق .
ويوشح السارد مشاهداته البحرية بأغاني البحارة التي تعد الإشراقات الوجدانية لأدب البحر قديما وحديثا ، وتكاد أغاني البحارة من أشعار وأزجال تشكل جنسا أدبيا يستحق الرصد والمعاينة والتحليل . وقد روى السارد أزجالا سمعها من بحارة المركب لابن قزمان :
هجرن حبيبي هجرر
وأنا لـ......سْ لي بعد صبر
ليـس حبيبي إلا ودود
قطعْ لي قميص من صدود
وخاط بنقص العهود
وحببْ إليّ السهر
و قد أبدى السارد ( ابن جبير ) ضيقا وانزعاجا من المستوى الدلالي لأزجال ابن قزمان التي نعتها بالمخنثات ، ولكنه أبدى ارتياحا لمستواها الإيقاعي الذي انساب في أعماقه ، ويثير موقف السارد من الفصل بين الدلالة والإيقاع إشكالية في الخطاب الشعري لا يكاد النقاد يتفقون عليها ، فبعضهم يتمسك بالعلاقة الجدلية بين الدلالة والإيقاع ، وبعضهم يزعم أن الحس الإيقاعي يتحقق بمنعزل عن الدلالي . ولا يخفي السارد إعجابه بأزجال أبي الحسن الششتري بقوله : ((أزجال حبيبي وأخي أبي الحسن الششتري:
لله لله، هاموا الرجال
في حب الحبيب
الله الله معي حاضر
في قلبي قريب
إدّللْ يا قلبي وافرح حبيبك حضر
واتهنى وعش مدلل بين البشر
دعوني دعوني نذكر حبيبي
بذكرو نطيب
الله معي حاضر
في قلبي قريب
إش نعمل في ذي القضايا وأنا عبدكم
تراني نخلع عذاري على حبكم
روحي وإش ما بقي لي نهبه لكم (عكا والملوك ص 21 )
خامسا : أدب الحرب
تتجلى مقومات أدب الحرب وخصائصه في رواية ( عكا والملوك ) من خلال ثلاثة محاورر
المحور الأول : الآلات والوسائل الحربية
ومن الآلات والوسائل الحربية التي أولاها السارد عناية أكثر من غيرها ( ثلج الصين ) الذي يناظر نوعا من المتفجرات في العصر الحاضر ، ويصفه السارد بقوله : (( فهذا الإكسير الشبيه بكرات الثلج ينفجر دفعة واحدة وفي كل الاتجاهات، ويقتل كل من حوله )) ( عكا والملوك ص 40 ) وفي موضع آخر يصف طريقة تحضيره ((وهو إذا خلط بالكتان والفحم والرماد واحترق أخرج صوتاً ذا إرعاد شديد ونار عجيبة،)) ( عكا والملوك ص 183) ويكشف السارد عن مصدر ذلك الإكسير العجيب ((الذي أتى به الراضي من قلعة شيخ الجبل راشد الدين سنان الحشاش الإسماعيلي.( ( عكا والملوك ص 40 ) ، والكشف عن مصدره يثير استغرابا من قدرة فرقة الحشاشين على امتلاكه على الرغم من سلطانها المحدود مكانا وزمانا في حين أن جيوش صلاح الدين لا تملك هذا الإكسير !!! ولم تكن تعلم قوته الخارقة إذ ((إن معسكر السلطان الناصر طيّر رسالة مكتوبة بالترجمة إلى قراقوش يسأله فيها عن هذا الإرعاد الشديد الذي سمع داخل البلد.)) ( عكا والملوك ص 40 ) وهي مسألة تمنح دارسي التاريخ فرصة للتحليل والتحقيق والتشريح .
ويعقد السارد مقارنة بين النشاب الإسلامي، والزنبورك الفرنجي لرصد الفرق التقني بينهما بقوله : (( وقد قارنت بين النشاب الإسلامي، والزنبورك الفرنجي، فرأيت الأخير أكثر إتقاناً، وأنفذ وسيلة، وأكثر دقة، وقد عمد السلطان الناصر إلى صنع زنبورك شبيه بذلك ولكن النتائج لم تكن كالمأمول؛ فمقاتلة السلطان متعودون على القوس الخشبية المرنة التي تمنح الفارس أن يختبر نفسه بالقوة والإحكام والجرأة والقدرة على التصويب، أما الزنبورك فليس فيه كل ذلك)) ( عكا والملوك ص 87 ) ويبدو أن السارد لم يوفق في نتيجة المقارنة التي عقدها ؛ فهو يقر بتفوق الزنبورك الفرنجي من حيث الإتقان والنفاذ والدقة ، ولكنه يفضل النشاب الإسلامي من حيث قدرة المحارب الإسلامي على التعامل معه . كما أننا نلمس تناقضا بين محاولة السلطان الناصر تقليد الزنبورك الفرنجي وتفضيل النشاب الإسلامي في نهاية سياق المقارنة ؛ وذلك أن دافع التقليد هو الإعجاب والإقرار بالأفضلية .
ويسهب السارد في وصف الآلات الحربية التي كانت بحوزة الصليبيين إذ(( إن إحداها يشبه جسراً من الخشب يتحرك على عجلات، فكلما دارت العجلات تقدم جسر الخشب وارتفع، وإنه كلما ارتفع، وضع القائمون تحته التراب، فيظل معلقاً. وهكذا، فإن مقاتلة الفرنجة يستطيعون الصعود في هذا الجسر إلى حيث يريدون، وأنهم يركبون ـ أيضاً ـ دبابة من خشب، ونحاس وحديد، يدخل فيها المقاتلة فلا يظهر منهم شيء، وأنها تسير على عجلات يدفعها الجند من الأمام، أو من الخلف من خلال حبال وزرد، وهناك دبابة أخرى لا تفترق عن الأولى سوى أن لـها قرناً من الخشب الملبس بالحديد قادراً على الدوران أو النطح )) (عكا والملوك ص 80 ) ولعل إسهاب السارد في وصف الآلات الحربية التي كانت بحوزة الصليبيين هو جزء من مسوغات سقوط عكا على الرغم من صمود معسكر المسلمين وتفانيه في الدفاع عن عكا ، فميزان القوة العسكرية عامل حاسم في حسم المعركة . كما أن المشهد التصويري لآلات الحرب يمنح النص الروائي مستوى فنيا ؛ إذ يحول الخطاب السردي من المستوى الكتابي التاريخي إلى مستوى بصري يفضي إلى فضاء تخيلي لأجواء المعركة ، ويمنح المتلقي قدرة على متابعة سير المعركة وتوقع النتائج قبل أوانها .
المحور الثاني: المحاربون
يعقد السارد مقارنة قائمة على المفارقة بين الجندي المسلم والجندي الغربي من خلال أمرين
1- الاستعداد والتسلح
يقوم الفرق في هذا السياق على اختلاف الثقافة النفسية للحرب بين الفريقين ، إذ يعتمد الجندي المسلم على القوة المعنوية بينما يعتمد الجندي الصليبي على القوة المادية ، وهذا الاختلاف مستمد من غزوات ومعارك كثيرة في التاريخ العربي الإسلامي إذ إن ((الفرنجة الملاعين عندهم فنون متقدمة في صناعة السلاح أكثر منا؛ فنحن نعتمد على الشجاعة، والصبر، والتضحية، وخفة الحركة، فارسنا يغطي نفسه بالجلد، وقليل من الزرد، وخوذة تغطي رأسه وليس وجهه، أما محارب الفرنجة فيتقدم ثقيلاً بطيء الحركة يحمل على جسده عدة أرطال من الحديد، ويحمل أسلحة طويلة تجعل بينه وبين فارسنا مسافة كبيرة.)) ( عكا والملوك ص 77.)
من اليسير على المتلقي تشكيل صورتين فنيتين من محور الاستعداد والتسلح ، فالصورة الأولى نابضة بالدهشة من مشهد الجندي الإفرنجي المدجج بالسلاح ، وهو جندي خائف ومخيف ؛ خائف على حياته من أهوال الحرب لذلك حصن نفسه بالعتاد ، ومخيف بهيئته وكثرة عتاده، والصورة الثانية نابضة بالإعجاب من مشهد الجندي المسلم ، وهو جندي خلع الخوف من قلبه واستعد للموت بثبات وإيمان فشتان بين الدهشة والإعجاب .
2- الإيمان
وتتصل قضية الإيمان بالاستعداد والتسلح اتصالا نفسيا وعقائديا ، وتجسد قضية القضاء والقدر التي تشكل العصب النابض للإيمان ، وتفضي إلى فلسفة الحياة والموت وذلك أن ((الفارس الإفرنجي لا يترك شيئاً للأقدار، إنه يعتقد أنه كلما زاد الحديد على جسده كانت الفرصة في الحياة أكبر، أما الفارس الإسلامي، فإنه لا يعتقد بذلك كثيراً، هو يعتقد أن حياته ليست ملكه، وأن الحياة والموت متساويان تماماً في مثل هذه المواجهات، ولهذا لم يهتم المعسكر الإسلامي بتحميل الفارس حديداً أكثر، بل تركه هكذا خفيفاً، رشيقاً، يقدم حياته رخيصة من أجل الملة والدين ))( عكا والملوك ص 77 )
لم يترك السارد فرصة للمتلقي للتحليل والاستنتاج ، فقد أعفاه من هذه المهمة التي ينبغي أن تتوافر في النص الروائي ، ولعل احتقان الموقف الحربي على سواحل عكا وذروة الضيق والاختناق للمحاصرين داخل أسوار عكا هما العاملان اللذان دفعا السارد إلى التفصيل والاسترخاء السردي في قضية المفارقة بين الجندي المسلم والصليبي من حيث فلسفة الموت والحياة والقضاء والقدر .
المحور الثالث : أناشيد الحماسة
تعد أناشيد الحماسة خطابا وجدانيا لا يقل تأثيره عن الخطاب السياسي في سياق المعركة ، بل إن نشيدا قصيرا قد يفوق في تأثيره الوجداني خطابا سياسيا مطولا ، وبخاصة إذا كان النشيد يتضمن ذكر قائد أو بطل خالد في الوجدان فإن اسمه يشحذ الهمة ويعزز الإرادة ويثير العزيمة ، وهو ما حرص عليه السارد حينما ظهر صلاح الدين من باب خيمته فارتفع صوت الجنود :
صلاح الدين صلاح الدين
سيف الدين سيف الدين
.......
صلاح الدين صلاح الدين
درع الأقصى وسيف حطين ( عكا والملوك ص 221 )
سادسا : الأدب الصوفي
تتجلى الإشراقات الروحية للأدب الصوفي في الفصل الأول من الرواية ، وتقع النصوص السردية الصوفية في السياق البحري ، وقد وردت على لسان السارد ( ابن جبير ) في أعقاب الصلاة أو قبيل الشروع بها . ولعل العلاقة بين البحر والاشراقات الروحية وما يتصل بها من التأمل والتفكر والتدبر تعود إلى الخوف من ركوب البحر ذلك الخوف الماثل في اللاوعي الجماعي ، إذ إن المركب الذي يطفو فوق صفحة الماء قد يتعرض لأمواج تتقاذفه أو لرياح تعصف به أو لأي حوادث أخرى ... وهذه الحال تجعل من المسافر في عرض البحر أكثر حذرا وترقبا وخوفا مما سيحدث . وأزعم أن استشعار الخوف أو الحذر الشديد يشحذ الذهن فتومض أفكار تأملية يصبح الوجود معها صفحة مغرية لإعادة قراءتها من جديد . وتسطع في الوجدان جذوة من النور .
لنتأمل كيف يربط السارد بين الاحتمال القريب للموت وتفكير الإنسان بالغاية من وجوده في أعقاب الصلاة على ظهر المركب (( كانت صلاة أترعت قلبي بالرضا، الصلاة والماء من حولك، ولا يفصل بينك وبين الغرق سوى لوح خشبي يجعل من روحك شفافة إلى أبعد حد، عندئذ تقترب من فكرة الخلق ذاتها، وتواجه السؤال العظيم المبهم: لماذا خلقت أنا بالذات؟! ولماذا كنت ما كنت عليه الآن؟! وإلى أين ستؤدي بي هذه الطريق؟! يتجلى لك الله بصورة يصعب الكلام عنها، هي صورة فوق الحواس وفوق الكلام.(( عكا والملوك ص 20 ) ثم لننظر كيف يتلاشى العالم المادي حينما يفقد الإنسان حواسه الجسمانية وتصبح اللذة الوحيدة الفريدة هي الاتصال مع الله عز وجل (( شيء يدعو إلى الطيران أو الموت أو القفز إلى الماء أو الاستخفاف بكل ما هو حولك. هي لحظات تفوق كل اللذائذ، وكل الآلام، وكل ما مرّ على المرء من أهوال أو مآسٍ )) (عكا والملوك ص 20 ))
ويصور السارد أبرز الأعصاب النابضة في الفكر الصوفي من خلال فكرة التوحد حينما تعتري الإنسان حالة ذهنية وجدانية يشعر فيها أن الوجود بكل كائناته كائنا واحدا وأن بينها نسق يكمن فيه سر الهي ، وأن جسمه وروحه تتوحدان مع هذا الوجود أو مع هذا النسق الرباني (( في مثل تلك اللحظات، أشعر أن جسدي يفهم الأجساد الأخرى من الناس والماء وحيتان البحر وغيوم السماء، والريح التي تدفع القلوع دفعاً. أشعر أني أريد التوحد معها والاهتزاز مثلما تهتز. أشعر أني أفهم كل ذلك، وأستمتع بكل ذلك أيضاً. )) (عكا والملوك ص 21 )
ومن الأفكار الصوفية التي يتألق بها السارد فكرة اليقين الذي تمنى الوصول إليه في سياق عبادة خالصة ودعاء حار وذلك في قوله : ((صحوت سعيداً بالمنام. ربطت وعائي بحبل من الليف، وملأته بماء البحر. توضأت، ثم اتجهت إلى الله، قلت لـه إنني أذكره، وأنني أشكره، وأنني لا أدرك مقاصده، ولا حكمته ولهذا، فإنني أسلمه أمري وقلبي وعقلي، وأطلب إليه أن ينوّرني مرة واحدة، وأن اختصر المسافات جميعاً حتى أصل إلى اليقين، تلك المرحلة التي تشمل المراحل جميعاً )) (عكا والملوك ص 26 )
سابعا : الأدب المقارن
1- المثاقفة :
يقترب حديث الرحالة ابن جبير ( السارد ) مع غليوم ملك صقلية من مفهوم المثاقفة الحضارية أو حوار الحضارات بين المسلمين والمسيحيين في ذلك العصر على الرغم من سياق الحرب الدائر بينهما وهو ما تبدى في خطاب الملك لابن جبير ((أيها العالم، أنتم عندكم علم وخير كثير، ومن العار والعيب أن لا نتعاون معاً في السلم والحياة الفضلى ... إنني سأعمل ما حييت على حماية المسلمين في بلادي؛ صلاح الدين ليس أفضل مني، ولكني لا أعرف ماذا سيكون بعدي)) ( عكا والملوك ص 35 )
2 - ثقافة الأنا والآخر :
يشكل الفصل الرابع من الرواية الموسوم بـ ( جوانا ) زوجة ملك صقلية مساحة سردية واسعة تعرض للخطاب الثقافي بين الأنا والآخر في ذلك العصر ، وقد وظف السارد عددا من الشخصيات توظيفا ثقافيا مائزا بهدف الكشف عن صورتي الأنا والآخر ، ويمكن رصد صورة الآخر ( الإسلام ) من منظور شخصية جوانا على النحو الآتي :
1- استنكار التفوق العقائدي :
يكشف تصوير جوانا لاعتزاز المسلمين بدينهم عن مشاعر الاستغراب والاستنكار والرفض في قولها : ((يميلون إلى اعتبار أنفسهم أنهم أفضل من الآخرين بسبب من دينهم الذي يعتقدون أنه آخر الأديان، وأفضلها، وأن محمداً آخر الرسل وأفضلهم، وأن إلههم لا يشبه أي إله آخر، وبسبب من ذلك تجدهم أكثر فخراً، وأكثر استنامة إلى ذلك بما يشبه عقيدة السكون والركون، وكأن مجرد إسلامهم يعطيهم أفضلية على الكون ... وهم يربطون كل شيء بدينهم، حتى طريقتهم في مباشرة نسائهم، وقد عجبت لذلك أشد العجب،)) (( عكا والملوك ص 92 ))
2- الإعجاب بالتميز الحضاري والعلمي :
بعد أن تصور رفضها لنظرة المسلم لدينه ، يحدث تحول جذري لرؤيتها فتبدي إعجابا بجوانب حضارية وعلمية بقولها : ((وما عدا ذلك ( التفوق العقائدي ) فهم رائعون في كل شيء؛ لـهم طرقهم في النظافة والحب، والزواج والبناء والزراعة والعلم والفلسفة والجغرافية،)) (( عكا والملوك ص 92 ))
3- الاعتراف بالتفوق الحضاري للجندي المسلم
تعرب جوانا عن إعجابها بالمستوى الحضاري للجندي المسلم وعن اشمئزازها بسلوكيات الجندي الصليبي !!! وذلك في معرض مقارنتها بين جنود المسلمين وجنود الغرب المتجهين للشرق للانضمام للجيوش الصليبية (( فالمسلمون ـ على الأقل ـ يهتمون بالنظافة والأناقة، أمَّا هؤلاء، فهم أشد الناس فظاظة؛ شعورهم طويلة وقذرة، وملابسهم تفوح منها روائح كريهة، أما أظافرهم فهي طويلة ومتسخة بشكل مقرف، وعندما يتناولون طعامهم فهم يتناولونه بطريقة تدعو إلى الرثاء، وهم لا يجيدون سوى الحرب، أمَّا العاهرات، والنساء اللواتي جلبوهن معهم في السفن، فهن مدعاة للعراك اليومي، والصراخ والسباب الذي لا ينتهي)) ( عكا والملوك ص 101 )
4 - تشويه المستوى الأخلاقي
تقدح جوانا على لسان غيرها بالمستوى الأخلاقي للمسلمين ((فقد ذكر لنا أن لصوص المسلمين يسرقون الكحل من العين، وأنهم يستطيعون سرقة ثياب الملك إذا أرادوا ... )) ( عكا والملوك ص 108 )
ويمكن رصد حزمة من الملاحظات على رؤية جوانا للآخر ؛فهي تفصل بين المستوى العقائدي الذي رفضته والمستوى الحضاري الذي أبدت إعجابها به على الرغم من أن البناء الثقافي لا يتجزأ ؛ إذ لا انفصام بين العقيدة والسلوك . كما وقعت جوانا في تناقض لافت في نظرتها للدين الإسلامي فهي تنفي كراهيتها للإسلام في موضع في قولها : ((وعندما أفتش في صدري عن كراهية للمسلمين فإنني لا أجدها)) (عكا والملوك ص 92 ) وفي موضع تعرب عن كراهية عمياء للإسلام في قولها إن: ((الإسلام ـ هذا العدو المتشعب الرؤوس والأيدي ، لا يشبه أي دين آخر؛ فهو يتدخل في أخص الخصوصيات، وينقاد لـه الناس من خلال نصوص لا تقبل المناقشة. كرهت الإسلام لأنَّ لا خمر فيه، ولأن الزانيات يرجمن بالحجارة، ولأن إله الإسلام يعاقب الناس بالنار. وكرهت الإسلام لأنَّ الناس في بلادي يكرهون الإسلام والمسلمين الذين يسومون المسيحيين سوء العذاب، ويهدمون كنائسهم، وأكرههم لأنهم يعتقدون أن دينهم هو الدين الأخير)) ( انظر : عكا والملوك ص 106 )
جوانا وثقافة الأنا
أما صورة الأنا الدينية التي جسدتها جوانا فهي صورة تحوي قدرا كبيرا من التناقض والتداخل والضبابية والتشويش والاغتراب والتمرد ؛ فحينما تتحدث عن مفهوم الربوبية تبدي رفضا يقترب من الإلحاد ((لا أصدق الكاهن الذي يتحدث عن المتع الروحية، والإخلاص للرب، حيث لا يمكنني تصور هذا الرب إلا من خلال حكايات وصيفاتي أيام طفولتي ... ولهذا لم أتمكن قط من تسليم روحي للرب )) ( عكا والملوك ص 93 ) وحينما وصلت إلى شواطئ عكا ورأت الحشود الصليبية في عنفوان قوتها وتألقها أعربت عن اعتزازها وفخارها بدينها ((شعرت بالفخر لـهذا الدين الذي يستطيع أن يجمع كل المسيحيين، ويوحدهم من أجل حرب الكفار)) ( عكا والملوك ص 107) ، وتعرب عن اغتراب ثقافي ديني حينما نفت الصلة الثقافية للكتاب المقدس بثقافتها وذلك (( أن الكتاب المقدس هو نتاج أرض لا تشبه أرضي، وثقافة لا تشبه ثقافتي؛ الكتاب المقدس نتاج أهل الشرق )) (عكا والملوك ص 94 ) ، وحينما استنكرت التفوق العقائدي للمسلمين عادت وأقرت بمفهوم الإلوهية عند المسلمين ((الشرق بلاد يقترب فيها الله إلى درجة أن يصبح كل شيء وأي شيء، أمَّا في بلادي، فالناس ناس، متشككون، حذرون، وصارمون أيضاً، ويجعلون من الإله مجرد كائن يتمتع ببعض الخوارق ليس إلا.)) (عكا والملوك ص 94 )
ولا يقتصر البناء الثقافي لصورة الآخر على رؤية جوانا ، فحينما دمر المسلمون سفينتهم في عرض البحر كيلا تقع بأيدي الصليبيين رسم السارد على لسان غيره صورة كاريكاتورية تفيض سخرية واستهزاء من المثل العليا في العقيدة الإسلامية وبخاصة ما يتصل بمفهوم الجهاد وقيمتي التضحية والفداء وهو ما تبدى بقول الكاهن : ((إن رب المحمديين يأمرهم بقتل أنفسهم حتّى يرضى عنهم، ويدخلوا ما يسمونه "الجنة" حيث يحصل كل من قتل نفسه على سبعين بكراً. )) وقول آخر مستهزئا : ((سبعون بكراً سبب وجيه ليقتل المرء نفسه. )) ( عكا والملوك ص 106 )
ويرسم الكندهري صورة ساخرة لاذعة لطقوس المسلمين في الوضوء والصلاة لأنهم ((يغسلون مؤخراتهم بالماء بأيديهم، وأنهم يرفعون مؤخراتهم في الهواء عند صلاته)) ( عكا والملوك ص 123 ) . وفي موضع آخر ينقل السارد ( عمر الزين ) رؤية الرهبان والأطباء والمحاربين للمسلم الذي يعدونه ((مجرد حيوان كريه الرائحة يحب الدم ويكره سيدنا المسيح )) ( عكا والملوك ص 162 )
ثامنا: ملامح من الأدب الاجتماعي
1- عبادة الشيطان :
استطاع السارد تأصيل طقوس عبادة الشيطان التي شاعت بين شرائح اجتماعية في مناطق عديدة من العالم ، معتمدا على النص التاريخي الذي يسهب في تصوير كراهية سيف الدين بن علي المشطوب للكندهري حاكم عكا ، وقد لقب بالمشطوب بسبب جرح في وجهه الذي بدا وجهين وتباعدت عيناه وحطم أنفه وارتخت شفتاه ، وتصفه الروايات أنه رجل ضخم طويل وبدين . وقد استطاع أحد أعوان القائد عمر الزين من قتل الكندهري الذي تحول إلى قديس بعد مقتله بسبعمائة سنه ، وصور وهو يقتل على يدي رجل ضخم الجثة مشطور الوجه، بينما يدافع عن نفسه بالصليب. ولأن الصورة لاقت رواجاً شديداً في أعالي إيطاليا وما جاورها. وفي العهود الحديثة، وعندما انطلقت عبادة الشيطان، كتعبير عن الرفض والتدمير والإهلاك لم يجد أولئك سوى صورة المشطوب ذي الوجه المشطور وحكايته شعاراً لـهم، فأمه التي تزوجت شيطاناً لم تفعل ذلك إلا لرغبتها في الحصول على أقاصي المتعة، وأما ولدها "الماشطوب" فقد كان من القوة بحيث استطاع قتل قوة الصليب، فأعاد هؤلاء قصة المشطوب وجعلوه شعاراً لـهم، فصنعوا لـه صوراً ورسومات وتماثيل وأوشاماً على أذرعهم وصدورهم ومؤخراتهم، وتفننوا في طقوس وسلوكيات نسبوها إليه، كالفحولة، والنهم والغضب والرغبة في القتل.( انظر عكا والملوك ص139)
2 - الأساطير والخرافات :
أسهب السارد في عرض الأساطير والخرافات التي تناقلها الناس عن راشد الدين سنان زعيم الطائفة الباطنية الذي كان يتحصن في قلعة مصياف ، فقد قيل عن راشد الدين أنه يملك قدرة مطلقة على التحول فهو يتحول إلى نقطة ضوء تتوغل في العتمة، وأنه عندما يعود قبيل الفجر أو إلى طائر أو الى أي كائن آخر ولهذا لم يكن أتباعه يقتلون برغوثاً أو صرصاراً أو حمامة أو يزعجون حماراً أو بغلاً أو حصاناً، فقد يكون ذلك مولاهم راشد الدين في إحدى مهماته التي لا تنتهي..... الخ ( انظر عكا والملوك ص 142 ، 143 ، 168 ،172)
3 - المعتقدات الشعبية:
أشار السارد إلى لمحات من المعتقدات الشعبية التي رافقت السياق الحربي والبطولي لصلاح الدين فقد كان ((الناس العاديون، وبعد فتح حطين، بدؤوا ينسجون حول مولاي قصصاً كالخيال، فمنهم من حلم به قبل سنين، ومنهم من رآه في القمر، ومنهم من ذكر أنه قال لوالدة سيدي ومولاي عندما حملت به أنها تحمل في بطنها سيفاً من سيوف الله)) ( عكا والملوك ص 239 )
4 - لمسات فلكلورية :
يعرض السارد ( ابن جبير ) في الفصل الأول من الرواية لجذور عربية إسلامية فلكلورية في جزرة صقلية بعد سقوطها بقوله : ((حتى الثياب كما رأيتها قبل عدة سنوات، ثياب أندلسية، وثياب شامية بالعمائم والعباءات والأحزمة الجلدية السوداء، أو تلك الحريرية الخضراء أو السوداء)) ( عكا والملوك ص 29 ) ، ويعرض في الفصل الثالث لأزياء البحارة المصريين ؛ ((السروال الواسع، والحزام القطني العريض، والقميص الضيق دون أكمام، والعمامة الصغيرة جداً، والخنجر الصغير الذي يكاد يختفي وراء الحزام العريض)) ( عكا والملوك ص 83 ) . ويمكن أن يكون ما عرف بـ ( حزام العفة ) لونا فلكلوريا وهو ((حزام حديدي يربط إلى حوض زوجة الجندي حتّى لا تتورط في الزنا، ذلك أن الجندي يقفل هذا الحزام، ويأخذ مفتاحه حتّى يعود من حربه )) ( عكا والملوك ص 101 )