حرب لم نستعد لها و لم تخطر يوما على بالنا، الطبيعة حين تتوحش وتفتح فمها فتلتهمنا بلا رحمة فقد نكون سكان حياً عشوائياً كما يطلقون عليه. لكن لم تسكن العشوائية قلوبنا أو مشاعرنا .
الجبل كأنه قلعة تحمينا ننظر إلى شموخه وعظمته. فتسمو أرواحنا مع سموه. ونتعلم منه الصمود والقوة لتتحول قوته التي نستقي منها قوتنا إلى سياط مرعبة تحلق فوقنا بطير أبابيل ترمينا بحجارة من سجيل فلا تبقي ولا تذر.
أطنان من العذاب تلقى فوق رؤوسنا. لم ترحم صغيراً أو كبيراً إلا ودهسته .!
كم من بيوت لونها أصحابها بطلاء أمنهم وفرحهم واستقرارهم لتصبح مقابرهم ، كم من طرق مهدها الناس لتتسكع بها أطناناً من جلاميد لا تشعر .
خرجت من منزلي الذي أعيش فيه بمفردي بعد وفاة زوجتي. ذاهباً إلى محل عملي. لحظات قليلة لتتحول المنطقة إلى ساحة قتال.! الكل يجري هنا وهناك بدون وعىّ كأنها بروفة حية لقيام الساعة .
وكأن هناك ملايين من الخيول فاقدة لوعيها تركض هنا وهناك مخلفة غباراً قاسياً. فيختلط الغبار بالصراخ الحاد، أسماء معجونة بالأتربة ممزوجة بالدموع تخرج من أفواه تبتلع ذرات الثرى لتستطيع النداء .
ركضت أبحث عن بيتي فلم أجده فقد سكنه ساكن قلبه حجر. شعر أنه أحق به مني فهو ملك له ونحن من استولينا على حقه وعاد ليقتنصه منا بمنتهى العنف والقسوة .
ضاعت ملامح الناس من البكاء والغبار والاتربة فلم اعرف معظمهم ،نسمع صوت استغاثات من اناس نراهم وصراخ يأتي من قبور طازجة لم تغلق فمها على طعامها. بل صرنا نسمع أصوات الموتي الأحياء !
نركض هنا وهناك كلما صرخ أحدهم . لنرى يداً أو قدماً تستغيث، أخرجنا الكثير. وهناك أكثر كنا نسمع أنينهم ولم نستطع وقد جثم الجبل فوق صدورهم .!
تأتي عربات النجده والإسعاف والإنقاذ. معهم معدات تمزق سجناء الجبل دون رحمة لتخرج لنا بقايا بشراً يتعرف عليهم ذويهم من قرط أو خاتم. أو لون ثوب .!
اكتظت مشاعري مما حوته من مشاهد. فهذه أم مكلومة تنثر الثرى فوق رأسها وتصرخ باسماء اطفالها تقسم بأنها تشم رائحتهم الحية.! بل وتسمع وقع نبضهم فوق جبين عمرها، أب يصرخ كالنساء.! يبكي بقاياه المدفونة حية، طفل يبكي أبويه وصديق ينوح على رفيقه .
اجتثتني من المكان لآخذ بعض الراحة ولأزفر بعضاً من تلك المشاهد وألقيها فأعود بروح فارغة تستطيع أن تملأ مخازن حزنها بوجع جديد .
جلست إلى مائدة بمقهى قريب .
التلفاز نساه صاحب المقهى مفتوحاً وقد أهمله الجميع فهو يثرثر بحديث لايفهمه أحد وبعض المشاهد العارية والأغنيات التي لا تعرف الخجل.
لا أدري ماالذي أخذني إليه قد يكون هروباً من هذا الواقع المرعب الذي سكنني ، عربات الإسعاف بنفيرها الموجع تخرج في مسيرات جماعية تحمل بعضا من لحم ينزف الدم والروح وتهرع به لمن يمكنهم درء الوجع ولم شتات اجساد مثلت بهم الطبيعة القاسية.
رأيت أماً تعدو خلف سيارة اسعاف صارخة ليعود إليها ابنها وعائلها الوحيد. تبكيه وتستجدي الله أن يرجعه لقلبها .
قسمت نفسي بين التلفاز والاسعاف والنجدة وجمع الأسماء وهى تحلق مهيضة الجناح بأفق باكي. ومحاولة تذكر وجوه أصحابها، طلبت كوب شاى لأستعيد بعضي المفقود وأعود مرة أخرى بأسرع مايمكن لساحة الموقعة لحمل وجمع ماأستطيع .
عدت للتلفاز ......
( من حقك أن تسكن سكنا فاخراً ، تَمَلك الهواء والمساحات الشاسعة الخضراء وملاعب الجولف وحمامات السباحة والنوادي الصحية والمتاجر العالمية ومدينة ملاهي تلك هى الرفاهية التي تبحث عنها وتستحقها ..!)
وزفير يصطحب روحي بيديه، يخرج بألم مضاعف، وشيئاً ما سقط داخلي فأجدني أترك مقعدي واجماً وأرحل لبعيــــد