لا أدري لماذا كل شيء يتحرك بطريقة مختلفة عندنا ، كل شيء دون استثناء ، والكل أيضاً تعوّد بشكل أو بآخر على مخالفة كل أمر، والخنوع لكل سلطة (بالسكون على اللام) ،والسكوت على كلّ التجاوزات بحقنا ، والموت في كلّ المناسبات والأعياد الرسمية والغير رسمية في بلدنا الذي يعج بكل ما هو قبيح ونادر في فنّ التجويع وفن السرقة وفن الغش وفن القتل ، ويا لل(كل) التي لا تنتهي والفنون في بلاد ما بين (الحربـيـن) !
ولدت في زمن الحرب ، وعشت طفولة مخزية على أكل التمور المغلفة ، بعدما أصدر سيادته* قراراَ بمنع كل المنتوجات الغير عراقية في الأسواق،......... فراغ لا أتذكر منه شيئاً ، بعدها حرب أخرى ، أخلينا المنزل ،
تشردنا ، تشرذمنا عند اقربائنا ، قصف جوي وبحري ، وتمور أخرى ، ولكنها أصبحت الوجبة الأساسية لمدة أربعين يوماً ، أربعون يوماً ، لا أذكر منها إلا شكل التمور المكدسة في سيارة والدي ( كرونة 81) التي كان يشغّلها بوضع أنبوب غاز فوق سقفها عوضاً عن البنزين ، ولا أدري كيف اكتشف طريقة لجعل حرق الغاز في المحرك مشابه لحرق البنزين! ربما يستحق عليها براءة اختراع من الذين كانو يحرقوننا !،
مشهد واحد اتذكره من عودتنا قبيل انتهاء الحرب تلك ، ( باب غرفة أخي الأكبر " عادل " مقفل بمخروط ماء (نصف أنج) مطاطي ، والعجيب أن الناس لم يسرقوا من البيت شيئاً ، ( ولا أعتقد أن المخاريط المطاطية التي ربطت بها الأبواب هي السبب بالتأكيد! )،
التجويع سياسة مجدية لأسكات الشعب ، الحصار الإقتصادي ، على الفقراء والمعلمين المساكين آنذاكـ !
أستاذ عدنان ، مدرس اللغة العربية في المرحلة المتوسطة، رجل كثير البياض في الشعر وكثير الصفار في الشوارب البيضاء (من أثر التدخين !) ،
وكثير النصائح للطلبة بترك الدراسة الغير مجدية ، والتوجه لبيع (الفلافل ، والحمص ) ، ولديهِ مهنة أضافية خارج المدرسة " بائع مزامير في (باب الطوب)!
وقد قيل أنه باع أيضاً أثاث بيتهِ كما فعل الموظف العراق بشكل عام في سنوات التسعينات من القرن الماضي ، وقد باع الوطن بأثاثه من بعدهم موظفون آخرون لدى ال(سي آي أي) وإن اختلف القصد ، فالبيعُ واحدُ ،
نكتشف كل يوم أنه أسوأ بكثير من الأمس ، لاعمل ، لا كهرباء " والكهرباء هذه لها قصة عجيبة " لا أفهم لماذا حتى بعد كل ما حدث من مصائب سأسلط الضوء عليها ان شاء الله إن بقيت على قيد الحياة ، لا أفهم بالضبط ما هو المغزى في قطع التيار الكهربائي عنا كل يوم لساعات طويلة وعريضة ؟؟
كنت (بغباوة غريبة) أسأل شخصاً أحدثه عبر الشبكة وهو يعيش في دولة بعيدة أنسية مؤنسة ، كنت أسأله عن الكهرباء وهل تذهب عندهم أيضاً؟ أجاب بسؤال آخر ... وين بدها تروح ؟؟ ، فعدت بنفس السؤال أسألني ، أين تذهب كهربائنا؟ هل تكرهنا لدرجة أنها لا تتحمل وجودها بيننا سوى لثلاث ساعات من اليوم والليلة !
وقد اكتشف بعض أصحاب المآرب في وطننا التعيس أننا كائنات تتعود على نقصان كل شيء من حياتنا ، وبالوقت والمماطلة تصبح أقل وجبة تكفينا وثانيتين بكهرباء " تسعدنا " ولترين من النفط الأبيض تدفئنا كل الشتاء ، وأن نسير في شارع 1% منه بدون مطبات هي قمة الرفاهية ، وأن نستطيع تسديد نصف أيجار الغرفة الواحدة هو الغنى بحد ذاته ، وأنه يجب علينا أن نصوّت ( كلّ حسب سجّانه) وأنه يجب علينا أن نشكر الحكومة ونحمدها ، وقد ضاع دمنا ورزقنا بين القبائل بضربة ظلم واحدة .
فاصل ونواصل
____________
التعليم في العراق مجاني !
مجاني حتماً، والتعليم إلزامي ، إلزامي حتماً ،
ومن لا يود إكمال دراستهِ ، لأسباب مختلفة ، تبدأ بالأوضاع المعيشيّة المقيتة التي نعيشها ،
ولا تنتهي عند إقناع الطفل من الصغر أنه (حمار، وغبي ) لأنه ببساطة يخطئ كما كل الأطفال بقوانين الكبار!
فيقتنع بأنه لا يصلح لشيء وأنهُ نوع من الحيوانات الأليفة التي وجدها أبواه على باب مستشفى للولادة !
من لا يود إكمال دراستهِ عليهِ ، بشكل إلزامي وحتمي أيضاً ، أن يخدم في الجيش المنتصر مقدماً في كل الحروب التي يخوضها ، والكل يعلم كيف نتقن فن قلب الحقائق وتزييف الوقائع بشكل مذهل ،
والمجانية عندنا تغير شكلها بطريقة معاصرة، فأصبحت الكتب الشبه جديدة ، تباع للطلبة بـ ( فخذ دجاج ، أو بعض النقود التي يحصل عليها المعلمون وإدارات المدارس بحجة شراء ستائر غير جديدة
وإدامة المدافئ نوع ( علاء الدين ) وأكاد أجزم أن من سمى المدفئة بهذا الإسم لم يكن قصده بريئاً بالمرّة !،
قلت أننا نتعود على فقدان الأشياء ، وفقدان الأمل لعقود ، يزرع بذرة الصمت والخنوع ، بذرة لا يفهمها الصغار ، ويسكت على نمائها الكبار ، حتى تصبح شجرة فرعها وأصلها في الأرض ،
13 سنة ، مجموع ما جلستهُ على كرسي خشبيّ في مقاعد الدراسة التي لو أجريناً حساباً بسيطاً لخرجنا بعدد تقريبي يتجاوز ال 13000 ساعة على كرسي خشبي
تخرج منه مسامير حاقدة على الثياب !
ولو كانت العقوبة لمجرمٍ ما على ارتكاب جرائم كثيرة هي نفس الساعات على نفس الكرسي ، لقيل أنها عقوبة غير إنسانية ، ووحشية ، ولا تمت إلى حقوق الإنسان بصلة ولا بغير صلة ،!
المشكلة أننا لا نفهم واقعنا وما قد وقع علينا إلا بعد أن نكبر وتتغير ملامح معاناتنا إلى ألوان أخرى ،
تتضمن العمل والدراسة والخدمة العسكرية التي يحصل فيها الجندي على (بسطال)مقرف وثياب رثّة
ومبلغ شهري يعادل 2 دولار ويخرج منها بحقد حتى على أولاده ..هذا إن تزوج أصلاً !
..وسلاح كلاشنكوف ،يقول عنه صديقي محمّد أنه خذلهُ كثيراً في حرب 2003 لأنه صينيّ الصنع ،
هذا طبعاً قبل أن تتسرب الصين حتى في أنوفنا بكل ما هو فاشل ورخيص ) ،
وقد عاد صديقي من تلك الحرب حافي القدمين
(بمدخل شرياني ) على قولة نزار !
، مع صديق جديد له بطول 7 سم ..(جرح في وجهه)
وكنت أسمع لسان حالهِ يقول :
((مش عايز منك مساعدة.. بتمنى ليك كل سعادة ..أنت عندك الأسى عادة !
عاتبني ..
يمكن أنا مظلوم)) *
أشعر بإحباط شديد كلما فكرت بأن أكتب مذكراتي ، لطول بؤسها الممتد على خط حياتي المتعرج المتقطع بين البؤس ومجموع ال(وداعات) التي بدأت سنة 1999 حينما اختلطت دموع أمي (رحمها الله ) بآمالي وامتدّت لوداع أمي سنة 2003 لآخر مرة ،
وقد عدتُ من آخر سفرة عابساً
ومقتنعاً :
بأن الأرضَ لا تتسع لأمثالي الذين خلقوا ربما ليكتبوا ..
أو أن يموتوا
(( كنوع من السماد الطبيعي ))!
فاصل ، وقد لا نواصل