هناك من يدعو إلى التغيير ، وقد تكون نواياه سليمة ، ولكنّه يستخدم طرقًا وأساليب مستوردة يستحيل أنْ تحقّق الهدف الذي يدعو إليه .
إنّ شروط النجاح لأي تغيير محتمل يجب أنْ تكون أدواته منبثقة من قيم و ثوابت وأسس المجتمع الذي سيخضع للتغيير ، وبدون ذلك ستكون دعوته عبارة عن محاولة لزرع نبتة غريبة لا تتفق بيئتها الأصلية مع تلك البيئة التي سيحشرها فيها ، وسيكون الفشل نصيبها .
من يستطيع أنْ يجعل جملًا يتكيّف مع بيئة قطبية ؟ ومن يستطيع أنْ يرغم بدويًا على الأكل بالشوكة والسكين ؟ ومن يستطيع أنْ يثبت أنّ من الرقي و الحضارة أنْ نستورد قيمًا وأفكارًا نشأت في ظروف تاريخية كان من أبرز معالمها سيطرة العقل الكهنوتي والمستند إلى كتب مزورة ادّعى أصحابها أنّها حقيقية ، فنشأ عن هذا الإدعاء ثورة حقيقية تتناسب والمناخ السائد فيها و على كل شيء ساهمت في ترسيخه تلك الكتب ؛ ليأتي فيما بعد حفيد ذلك البدوي وابن راكب ذلك الجمل قائلًا : إنّي أعلم وأرى ما لا ترون .
إنّ أول عمل يجب أنْ يقوم به من يريد التغيير ، أنْ يكون قد درس وفهم و استوعب فعلًا تلك العلل التي يطالب بإزاحتها وتغييرها ، مع بيان الأسباب الموجبة لذلك ، وأنْ لا يتمسك بمبرّرات وحجج واهية ، ليضخمها ويعظم من شأنها بناءً على قبوله لمقولات الآخر – الصانع و المورد المعادي - ، وإذا كان هناك من علل تستوجب الوقوف في وجهها وتغييرها – ومنها ما هو موجود فعلًا - فعلينا أنْ ندقّق في عللنا لنعرفها حقّ المعرفة ، وعند التدقيق نجد هذه العلل تنقسم إلى قسمين :
1- علل مستحدثة ما هي إلا نتاج لتدخل هذا الآخر ، والذي نستورد منه الآن دواءً لعلل هو من أوجدها فينا .
2- علل قديمة وجديدة أيضًا تتعلق بطرق التفكير التي كانت سائدة قديمًا واستمرت حديثًا ولكن في ثوب جديد .
المؤسف أنّ البعض ممن يتصدى لمثل هذه الأمور أسقط وبوعي منه - أو ربما بدون وعي - هذه العلل على القديم والجديد بأكمله دونما تفريق بين الصحيح والسقيم منها ، ليرفضها فيما بعد جملةً وتفصيلًا ، وحجّته في ذلك أنّ من يقول بهذه العلل فهو جدير بأنْ يرفض وعلى طريقة الجمل بما حمل .
والبعض مّمن يتصدى لمثل هذه الأمور يعتبر نفسه مثل الطبيب الذي يصفُ دواءً للمريض وكأنّه قد حزم أمره وجزم بكل العلل التي فيه ، وبدون أنْ يسمح لهذا المريض بالتساؤل عن سبب إعطاءه لهذا النوع من الدواء تحديدًا ، في الطب قد نقبل ذلك وبدون جدال أحيانًا ، لكن في الأمور التي تتعلق بحياة الأمّة وبمصيرها لا يمكن قبول ذلك ، وعلينا جميعًا أنْ نسأل ؛ لماذا هذا الدواء بالذات ؟ ولأي علّة هو بالتحديد .
في الطب ؛ قد يعلّل الطبيب تصرفه هذا بجهل المريض وعدم تخصصه ودرايته بمرضه ، وبطريقة صنع هذا الدواء ومدى فائدته له ؛ وهذا الأمر قد نقبله ، لكن في الأمور الفكرية وغيرها نرفض هذه الوصفة ومعها واصفها أيضًا ، لأنّ كل شيء قابل وخاضع للنقاش ، ولا أحد معصوم عن الخطأ ، والحجّة والبرهان سيد الموقف وهو الحكم العدل .
بعض المفكرين – كما سبق وأنْ ذكرت آنفا - يصنّفون أنفسهم كأطباء والأمّة بأكملها مريضة ؛ وهو الوحيد القادر على إعطائها العلاج المناسب ، ولكنّه ينسَ وهو من تقلد دور الطبيب أنّ أول مهمة يقوم بها الطبيب هي تشخيص المرض تشخيصًا سليمًا ، وعلى هذا التشخيص يتوقف العلاج ونوعيته ، و ينسَ بأنّ المريض الواعي والمدرك لمدى معاناته يجب أنْ يعرف نوعية مرضه ، ومدى فعالية هذا الدواء الذي وصف له ، أمّا إذا كان هذا المريض جاهلًا ، فهنا تكون معرفته بمرضه من عدمها سيان , وهذا ما يفعله أطباء هذا الزمن من المفكرين ، يعتبرون الجميع جهلة ، ويحاولون إسقاط نظرياتهم على مريض – كما يعتقدون هم بمرضه – وباستعلاء لا مثيل له مغلف بتعالي واضح ، وبتواطؤ مفضوح مع صانع المرض الأصلي – الآخر – والرافض أصلًا لرؤية هذا المريض معافى ، ليتضح في النهاية أنّ هذا الطبيب ما هو إلا مجرد بيطري تعلم مهنته عن طريق المراسلة ؛ وعن طريق بريد يعود إلى العصور الوسطى .
هناك مرض ولا شك بذلك ، ولكن هناك أيضًا من يحاول أنْ يعمّم فكرة مفادها أنّ هذا المرض هو في الحقيقة وباء قاتل يجب القضاء عليه ، والطبيب الجيد – في عرفهم - هو من درس في بلاد الطب وبلغة العلم والفكر ، لا بلغة مضى عليها قرون وهي في حالة تجمد كامل – كما يصور له مرضه الداخلي – وحتى لو استعمل هذا المريض أدوات وصناعات أفرزتها بلاد الطب ولغتها وفكرها ، لأنّ المطلوب هو الاعتناق الكامل للمبدأ وبالجملة ، والشراء بالتجزئة مرفوض بتاتًا ، ومن هنا وحتى يتعلم الجميع تلك اللغة فالمطلوب وعلى الرأي القائل أيضًا – وكما ذكرنا آنفا – أنْ نأخذ الجمل بما حمل ، أو الخنزير بما حمل ، وهو الأصح بلغة الآخر وما ينطبق عليه و الرافض لمبدأ تحكيم الحلال والحرام ليس فيما يخص الرأس وما وعى ؛ بل والبطن وما حوى .
قد يقول البعض ولكن ما هو مرضنا بالتحديد ؟ فأقول له أنظر في كتابات من يدّعي إعمال العقل والفكر تجد أنّ التراث كله في نظرهم مريض ، وقد يقول قائل وما الحل إزاء هذا الأمر ؟ فأقول له ما دام بيننا الكتاب والسنّة ، فاعرض عليه كل أنواع الأمراض التي تصادفها أو تتخيلها ، وستجد الدواء لكل داء ...
والحديث يطول ... وللحديث بقية .